|
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 13
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6113 - 2019 / 1 / 13 - 11:54
المحور:
الادب والفن
صباح الصويرة، مرة أخرى. أتمشى على الكورنيش، وكان قد غدا على أناقة لافتة، على أثر تجديد أرضيته مع استزراع أشجار النخيل وخمائل الأزهار، وكذلك استحداث ممرات للمتسكعين علاوة على ملاعب للفتية والأطفال وأشياء أخرى من هذا القبيل. ثمة مرصد، للمراقبة والإنذار، ينتصب في منتصف الشاطئ الرملي؛ ولا أدري، تحديداً، ما لو كان جديداً أو أنني لم أنتبه إليه قبلاً. ولكنه لفتَ اليومَ بصري، بالنظر إلى انشغال الفكر بالحدث الأخير، المرتبط بالسيرة المراكشية، بعدما جعلها تطفو على سطح الذاكرة انبعاثُ أحد شخصياتها من عدم النسيان. بلى، رأيتني أقارن نفسي برجل المرصد؛ بعلامة كون مهمتي قد شملت مراقبة حيوات أشخاص تلك السيرة ومحاولة إنقاذ بعضهم من الغرقِ في لجّة الغفلة والسُلْوان. من ذاكرة أشخاص زمننا الراهن، المسكونين طيّ دفتَيّ السيرة، أنتقلَ ذهني إلى أشخاص جزئها الأول، المستخرجين من الزمن الآفل.. من التاريخ والأسطورة، معاً. إذاك، كنتُ أرسل بصري إلى قوس الشاطئ، المشكل ما يُشبه البحيرة، حيث تتراءى في وسطها جزيرتان مهجورتان، كبراهما احتفظت بالاسم القديم للصويرة؛ " موغادور ". ذلك التاريخ، المتواشج مع الجزء المذكور، ابتدأ في الجزيرة الكبيرة غبَّ وصول أول سفينة بخارية إلى هذه البلاد، المتقاسمة حدودَها الأربعة البحارُ والصحراء. هوَ ذا الجزء الأخير من السيرة، إذن، ينتهي في نفس المكان مع وقع أقدامي على الأرضية الأنيقة للكورنيش؛ في غمرة أصوات المستجمين على الرمال، الفتية المتلاعبين في مهارة بالكرة، النورس المحلّق عن قرب، والموج المتلاطم عن بعد. لعل بصمات أقدام " جانكو " وصديقه اليهوديّ، " الرابي "، ما تفتأ منطبعة تحت هذه الأرضية، حينَ كان الكورنيش مجردَ قوسٍ من رمال تتلاعبُ بها الريحُ، الآتية من جهة البوادي. بعد أقل من قرن على وجود ذينك الصديقين في الصويرة، سيمكث فيها زمناً صديقان آخران وكلاهما من بلاد الإفرنج؛ الرسام والشاعر. إنّ ازدهار الشاطئ، الذي كان كورنيشه حقيقةً في وقت حلول الرسام " مسيو جاك "، قد ترافق مع اندثار مركز المدينة كإحدى أهم حواضر البحر المتوسط. لقد كانت كذلك، بفضل مرساها وتجارها والتنوع الأثني لسكانها والمقيمين الأجانب. من كلا الفئتين الأخيرتين، قدِمَ أيضاً للصويرة آخرون من أبطال سيرتنا، بدءاً من الشاعر " مسيو غوستاف "، وكان آنذاك ( شأني على حد سواء! ) قد أرتبط بعلاقة آثمة مع امرأة متزوجة. أحاديث العاشقَيْن، التي ترددت في المقاهي البحرية، تصدى الآنَ في أذني مع غيرها من دردشات أولئك الأبطال، الذين عرفناهم؛ " زكرياء "، " مدام هيلين "، " الشريفة "، " سوسن خانم "، " زين " و" آلان ".. أحاديث، تتطاير في سماء المدينة مع نورس الشاطئ اللازورديّ، حمام المنائر ذات الحجارة البيض، وعصافير المنازل المصبوغة نوافذها وأبوابها باللون الأزرق الفاتح. من جيل السيرة ذاك، جاء " سيمو " مؤخراً إلى هذه المدينة. مساءً، كما آملُ، سأكونُ مستمعاً مرهفاً لحديثه، مُستعملاً معه أيضاً مهارةَ الكاتب في استدراج النماذج الإنسانية إلى أكثر أماكن الذاكرة عتمةً ورهبة.
*** كنتُ أتمشى على الكورنيش إلى نهايته، مستعيداً أيضاً موقفاً صباحياً، حدثَ على خلفية سفر عائلة عديلي ومعهم " حياة " والعشيقة الصغيرة. هذه الأخيرة، لم تكن بطلة الحدث؛ وإنما كانت " أنغام "، المعتادة على افتعال المواقف السخيفة وغالباً لغايات دنيئة. إنها تربة خصبة للمواقف المفاجئة، المزاجية والكيدية. بل وإنها كالأفعى، المختفية تحت حجر، لا تدري متى ترفعُ رأسَها لتلدغك ومن ثم تلتهمك. إلا أنني لم أمسِ فريستها بعدُ، على أيّ حال! كوني أدرك وضعها مع رجلها الفرنسيّ، فإنني دوماً أشعر بالشفقة تجاهها. لقد استغلها حدّ الإرهاق الجسدي والنفسي، دون أن تحصل منه في المقابل إلا على الفتات. وليسَ في وسعها حتى أن تعوّل على ميتة مفاجئة للرجل، كي يتاح لها التمتع بماله مثلما هوَ أمر بعض صديقاتها ممن تزوجن بفرنسيين مقيمين: إذ أحتاط " بيير " الخبيث لأسوأ الاحتمالات ( ومن ضمنها بالطبع تسميمه البطيء! )، بجعل أملاكه في المغرب باسمه واسم أولاده من بعد وفاته. مع ذلك، فإنه هوَ من يدمر صحته في واقع الحال عن طريق الإفراط في تعاطي التدخين والخمر. كنتُ أشك كذلك، منذ بداية تعرفي بعائلة امرأتي، بأن ابنتهم الكبيرة مرتبطة مع " بيير " بعلاقة غير شرعية من الناحية الدينية ( أقولها لا كشيء سلبي بل للتذكير بالنفاق! )؛ أي أن ما يجمعهما هوَ مجردُ عقدٍ شبه صوريّ، أو ما يُدعى " حياة مشتركة دون زواج رسمي "، وذلك بحسب المفهوم الأوروبي الحديث. ولأن " سلوى " تصبح حمقاء تماماً أحياناً، فإنها أسرّت ذات مرة لشقيقتها بشكوكي، ما ضافرَ من حقد هذه عليّ. ولكن، أيّ داعٍ أساساً لذلك الحقد؟
*** لعل القارئ يذكر بعض عباراتٍ، قيلت في مناسبات مختلفة، تفصحُ عن رأيي بابنة حميّ ورجلها وابنهما. إلا أن الحال، في حقيقة الأمر، ما كان هكذا طوال الوقت. سوى في الآونة الأخيرة، لما زاد برمُ المرأة من حياتها مع رجلها مقارنة بوضع شقيقتها معي. كذا كان إحساسي، على الأقل، حتى لو بدا لكم ذلك امتداحاً لشخصي! بلى، بدأ شعور الحسد ينمو في داخل المرأة الملولة، وكانت على ما يظهر مهيأة نفسياً له بسبب طبيعتها أو تربيتها. من ناحيتي، كانت " أنغام " عزيزة عليّ حقاً لدورها في تسهيل موضوع زواجي بشقيقتها. " بيير " أيضاً، كان أقرب إليّ في تلك الآونة من أشقاء زوجتي وذلك بحُكم تقارب أفكارنا بالدرجة الأولى. كنت المبادر في معظم الأحيان لدعوتهما إلى المطاعم الراقية والبارات، عدا عما كنا نحمله من السويد من هدايا لهما ولولدهما. بالضد من كل ذلك تقريباً، كان مسلك أولئك الأقارب معنا. ولطالما تذمرت " سلوى " نفسها منهم، وبالأخص عندما كانوا يسافرون في سيارتهم إلى أغادير وغيرها من المنتجعات بلا أيّ حساب يُحسب لوجودنا. غير أنني كنت أهدئ امرأتي، وأيضاً أحثها على بذل ما تستطيعه من عناية أثناء زيارات شقيقتها لنا في بلد الغربة. " أنغام "، كانت تأتي إلى السويد فأهرع لاستقبالها في مطار ستوكهولم على الرغم من بعده عن مدينتنا. في تالي الأيام، تريدنا أن نعود ونصطحبها إلى العاصمة العتيدة كي تشتري الملابس الفاخرة لها ولعائلتها، وليس في جيبها سوى خمسين أورو؛ هوَ كل ما كانت قد حصلت عليه من رجلها الكريم، الحريص على كل ريال أحمر!
*** كنتُ إذاً أفكّر بتلك الأشياء، فيما داخلي ما يفتأ متأثراً بالموقف الصباحي. وعليّ كان أن أجلس في مقهى صاحبتنا الإيطالية، فأطلب شاياً بالنعناع، قبل أن أسرد لكم تفاصيل ما حدث. مع كونه موقفاً هيناً حقاً، قياساً لمسلك " أنغام " معي في الفترة الأخيرة. نعم، بدأت القصة قبيل سفري إلى الصويرة بسيارة رجلها. إذ أظهرت استغرابها أولاً من عدم مرافقتي و" حسنة " للقافلة العائلية، المنطلقة في سيارتَيّ أجرة إلى محطة السرفيس، الخاصة بالسفر إلى تلك المدينة البحرية. بعدئذٍ، وفيما كنتُ أهم بركوب السيارة في المقعد الخلفيّ، إذا بالمرأة الخرقاء تشير إلى حقيبة موضوعة هنالك، قائلة: " أرى أن تأخذ التاكسي، لأن المكان ضيّق! ". ولكنه رجلها، من تمتمَ مستاءً بالفرنسية ومن ثم لجمَ لسانها. بعد يومين من حلولنا في ضاحية الصويرة، أقترح الفرنسيّ الذهاب إلى شاطئ قريب كي نقضي النهار هناك. مررنا على المخزن بدايةً، فراحت " أنغام " تدفع عربةً أمامها فتملأها بكل ما طاب من مأكولات وشراب وحلوى. كانت مؤملة بالصهر السوريّ الكريم، وأنه كالعادة سيبادر للتقدم نحو الصندوق لدفع ثمن تلك الأشياء. فكم كانت صدمتها كبيرة، حين رأتني أحمل سلة صغيرة فيها كيسُ شيبس وزجاجة كوكاكولا، فأدفعُ ثمنهما عند الصندوق قبل أن أمضي إلى خارج المخزن. لم تنسَ لي ذلك، وكانت في بقية الأيام تحاول استفزازي. كما أنني، من جهتي، واظبتُ على إمساك يدي في حرص حين أكون برفقتهم في سوق السمك أو حتى المقهى. وربما هيَ من خابرت " لوحا "، طالبة منه أن يطلب من الأم إرسال امرأته إلى مراكش. حتى إذا جاء وقت السفر، وكنت آنذاك في شقة العائلة مع الآخرين، إذا بها تدمدم ساخطة وهيَ تنظر إليّ: " الحريم عليهن حمل الحقائب، بينما الرجال يجلسون وينظرون إليهن " " هذا عصر المساواة بين الجنسين، ولم يعد أحد يستعمل مصطلحَ الحريم! "، أجبتها مع ابتسامة مبيتة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشرفة
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 12
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 11
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 10
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 9
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 8
-
إحسان عبد القدوس؛ الصورة النمطية للكاتب/ 2
-
إحسان عبد القدوس؛ الصورة النمطية للكاتب
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 7
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 6
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 5
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 4
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 3
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 2
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 1
-
شيرين وفرهاد: الفصل السابع 5
-
شيرين وفرهاد: الفصل السابع 4
-
شيرين وفرهاد: الفصل السابع 3
-
شيرين وفرهاد: الفصل السابع 2
-
من أجل نصف كرون
المزيد.....
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|