أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - عمر تحسين الحياني - عميد الصحافة العراقية















المزيد.....

عميد الصحافة العراقية


عمر تحسين الحياني

الحوار المتمدن-العدد: 6112 - 2019 / 1 / 12 - 14:24
المحور: الصحافة والاعلام
    


هو الذي عقل كل شيء ورأى كل شيء وفهم كل شيء وأحب كل خير لذاته وأبغض كل شر لذاته.. أحب المنارتين وأحب الناقوس وأحب الشمس لأنها غطاء حياة البائسين. أدرك أن المحبة هي أعظم ما يمتلكه الإنسان للاستدلال على إنسانيته، فأحب كلّ إنسان لأنه إنسان؛ لا لدينه الذي ولد معه ولا لعرقه الذي لم يصنعه لنفسه ولا للغته التي يتحدث بها ولا لحسبه أو نسبه. لا ينظر إلى سفاسف الأمور فهو لا تعنيه حتى المصائب إذ (تَكَسَّرَتِ النِصالُ عَلى النِصالِ) معطاء مفضال مكرم؛ يجود من غير أن تسأله حاجة وينصح من غير أن تستشيره ويكرم من غير أن تستجديه. هو الذي أعطى كلّ خير ومنح كلّ معروف وقدم كلّ إحسان فغني بذكره يا بلادي وافتخري بذكره يا بلادي لكن بلادي لم تعد تفتخر بعظماء العطاء فـ (أُلو الفَضلِ في أَوطانِهِم غُرَباءُ) ويا (دَهرُ كَم يَشقى بِكَ الحُكَماءُ) فـ (ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ) فلقد رأيتُ (الحلم بؤسا للمعيشة للفتى). هو الكندي في أنغامه والفراهيدي في بحوره والمعري في فلسفته والحريري في مقاماته وافلاطون في المعرفة وأرسطو في المنطق وابن الفارض في عشقه الإلهي. هو بيت الحكمة وخزائن علمها. تجلس معه سويعات فتتعلم منه أكثر مما قد تتعلمه من أكاديمية أربع سنوات. موسوعة في كل شيء ومثقف من الطراز الأول بل هو على أعلى جدار الثقافة مكانة وعلما وفهما وأدبا وخلقا وتواضعا. فإذا كان أرسطو هو المعلم الأول فبحق يستحق منذرنا أن نطلق عليه المعلم الثاني، منذرنا من كل شر ومبشرنا بكل خير.. منذر آل جعفر الصحفي والكاتب واللغوي والأديب والشاعر والفيلسوف.. عميد الصحافة العراقية وإن كان قد رفض أن أطلق عليه هذا اللقب لكن من غيرك يا آل جعفر يستحقها فما زال قلم الصحافة العراقية مكسورا حتى كتب فيه منذر آل جعفر. كل الكتّاب كانوا يكتبون للمثقفين أو للتكسب فيما يكتبون إلا هو كان يكتب للأشقياء بمختلف مستويات ثقافاتهم فكان يبكيهم في مقالاته وينتصر للمظلومين منهم، فقعد الودّ بينه وبينهم فبات مُؤْدَما، محبا محبوبا أينما حلّ وارتحل. وعقد الشرف معه عقدا لا يحله إلا ريب المنون، فقد رأى فيه ذلك الرجل الذي علا عليه، فحين أمسى الدهر موحشا كليلة ليلاء؛ أمسى منذر آل جعفر نجما يهتدى به وحين رأى الكتّاب الصحافة رزق يرتزق منه المرتزقون، رآها آل جعفر منحة يمنحها المحسنون يستعين بها بقطرات من الدمع يسكبها من قلمه الذي لم ينكسر والذي ظل حرا لم يُستعبد.

منذر آل جعفر هو ذلك الفتى الذي تربى بين أحضان الفرات و نواعير حديثة وصفصاف شاطئها ونورس جزرها الذي شرب من عذب فراتها وشرب معه الكرم والجود والإيثار والشجاعة والعزة بالنفس والأهل والوطن. كان صفاء الأرض ولون خضرتها في عينيه ونقاء قلوب أهلها يبصم على وجنتيه بياضاً وكانت الصفة الغالبة على أهل منطقته التي تربى بين أحضان أهلها الطيبة والنقاء لأبعد الحدود
.
ثورة من ثورات اليأس قد انتابته عندما حدث انهيار الثوابت التي يعرفها أهل جلدته وانهارت معها القيم والأخلاق والمثل. ورأى أمام بصيرته ضياع الوطن وانفراط حبات المسبحة. فكلما حاول إمساك الأولى قفزت الأخرى، عندها شعر بخواء الروح وضياع الأمل وانفراط أوراقه وضياعها حيث ضياع الإنسان وضياع الوطن؛ عشقه الأول. كان وما يزال جريئا شجاعا لا يجامل ولا يداهن، مررت معه بمواقف كنتُ أخشى قول الحق أو النقاش فيه فكان يردد على أذني قول الأخرس:

ألا ثكـلـت أمُّ الجبـان وليـدهـا
وفازت بما حازته أمُّ المُخاطر

عُرض عليه مرارا وتكرارا فرص العيش السعيد والنوم الهانئ الرغيد خارج أرض الوطن لكنه كان يرفضها، استعلمتُ منه محضاً به على السفر فأجابني ببيتين من قصيدة قالها محمد مهدي البصير:

هب لي بربك موتة تختارها
يا موطني اولست من ابناكا
ان يندمج جسدي بتربتك باليا
فلتندمج ذكراي في ذكراكا

ورغم أن صفات أبناء وطنه ما بعد انهيار الثوابت خاصة؛ كانت تبتعد عن سجايا نفسه وما تربى عليه لكنه كان وما زال يحب سجاياً جميلة فيهم فهم الأقرب إلى النفس والأعذب كلاماً والأنقى قلوباً وما نراه اليوم من انعزال العراقيين عن الوعي والثقافة لكنه كان يرى الوجه الآخر من انعزالهم عن كل ذي نقيصة وتقربهم أقرب من القرب إلى كل ذي مكرمة وشهامة فلو تذكر يوما أنه مهاجر لجلس باكيا مرددا قول الخوري:

نـاءٍ عـن الأوطـان يفصلُني
عـمَّن أُحـبُّ الـبرُّ والـبحـر
فـي وحشةٍ لا شـيءَ يؤنسُهـا
إلاَّ أنـا والعُودُ والشعــر
حَولـي أَعـاجـمُ يرطُنُون فـمـا
لِلضَّاد عـند لِسـانهم قَدْر
نـاسٌ، ولكـنْ لا أنـيسَ بـهــم
ومديـنةٌ، لكـنَّهــا قفر
أمَّا أنـا، والغمُّ كبّلني
صخرٌ يُحسُّ، ولـيـتـنـي صَخر
عجـبًا، وكـم فـي الأرض مـن عَجبٍ!
بـيـن السعـادة والشقـا فِتْر
لاَ تعْتُبَنَّ الـدّهـرَ فـي كـدرٍ
إنَّ الـمُسَبِّبَ أنـتَ لا الـدهـر
مـا ذقتَ مـن فرحٍ ومـن ترحٍ
هـو مـنك، فـالـدُّنـيـا هي الصدر

أحسبه يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب فما قُرِأت آية أمامه إلا وأكملها أو صححها ويحفظ من الشعر أجوده وأجمله وأحسنه. هو معهد للموسيقى فلم أرَ في حياتي كلها أُذُناً موسيقيةً كأذنه؛ ما أن تخطئ أمامه في تفعيلة ببيت من الشعرِ إلا صححه لكَ على عجالةٍ وإن لم يكن حافظاً له لكرر عليكَ السؤال مردداً "أعد ... أعد" حتى يستقيم الوزن الشعري. ذات ليلة وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث فطال كلامه عن أصدقاءه الذين قد رحلوا إذ سكت هُنَيْهة من الوقت حسبته أنه قد تعب من الحديث فاستأذنته لجلب لقيمات من بقايا العشاء؛ عدتُ سريعا فإذا هي عيناه مخضلتان من البكاء فلم أزل واقفا مكاني لا أبرحه حتى طلب مني الاتصال بصديق له أمسى بعيدا عن مؤانسة الأصدقاء حيث أجبره الوطن على فراق الوطن وهكذا هي أوطاننا العربية! فما زالا يبكيان صديقا لهم بات تحت الأرض بوحشية الدهر الظلوم حتى أوشك الليل على المضي إلا صفحة منه فاختتماها بمرثية متمم بن النويرة:

لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ
ولا جَـزِعٍ ممـا أصـابَ فأَوجعـا

فكأني أول مرة اسمع تلك المرثية الشديدة الوجع وكنتُ حافظا لها منذ صباي لكن سماعها بدموع آل جعفر زادها حزنا وزادها بؤساً فما زلتُ منصتاً متوجعاً لإلقائه الباكي حتى نام نومته الدامعة تلك. سألته يوماً "ما الأشدُ وجعاً من الغربة؟" وكنتُ أعني الغربة خارج الوطن. فأجابني "غربة النفس يا عمر" ثم أنشد:

ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركَها الله
غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ

ثم أكمل قائلاً: "في غربة الروح تشعر أنك حزين منكسر بائس ليس على الأرض أحد أذل ولا أشقى منك، تصبح غير مبالي لشيء وتمسي وكأن قلبك قد فارق موضعه إلى حيث لا تعلم له مكاناً.. يظللك الليل الذي تحب بوحشية وتبكي وتنتحب وحدك، فتنطفأ ابتساماتك العذبة التي لم تكن تفارق ثغرك فتصمت الدنيا وتهجع كل الحياة وتسود كل الألوان وتصرخ وحدك". فاستمررت له سائلاً: "فأي نبأ كان الأشد عليك وجعا؟" فظل صامتاً مغمضاً عينيه لثوانٍ ثم أشار إليَّ فدنوت منه فقال لي: "كان ذلك النبأ يوم بلغ السهم المقتل يا عمر حيث استشهاد خالك صباح، شعرتُ حينها وكأن سحابة سوداء قد هبطت فوق عيني وفوق مسمعي" ثم استوى جالسا بعد شوطا من الدموع قائلاً: "الوطن غال يا عمر" فاتبعته قائلاً "لكن ليته لم يأخذ منا أحبتنا يا خال".

منذر آل جعفر عاشر الجاهل والعالم واختلط بالبخيل والكريم لكنه ظل مؤمنا بما تربى عليه أن السخاء شجاعة وأن الأسخياء هم سادة الدنيا على مرّ العصور. وأعظم سخاءه هي المحبة فقد عاش نجما يُهتدى به لمن كان يريد الهداية. في يوم كانت بغداد تلتهب ناراً في وحشية القتل والإرهاب حيث كانت ارضها قد تعودت على شم رائحة البارود وليلها حفلات مدافع ونهارها أصوات سيارات الإسعاف وجثث القتلى التي تمكنوا من نقلها ومسيرات جنائز تشيع إلى مقابرها أن وجد منها ما يكفي وألا دفنت في العراء أو في ارض المستشفيات أو الدوائر. في تلك الحقبة وفي يوم من أيام بغداد الدامية وتحديدا الأربعاء الدامي الموافق 19 آب 2009 رأيت منذر آل جعفر باكيا مستبكيا في يوم دامغ الحزن لم أره كيومها بائسا في وجعه الحزين. كانت الدماء متلطخة على ثوبه مما أصابه من التفجير الإجرامي لكنه رغم أصابته كان يتجه يمينا وشمالا مسعفا الجرحى ومتحملا اصابته فلم تعد سيارات الاسعاف حينها تستوعب اسعاف الأعداد الكبيرة من الجرحى. كان أديبا صحيفا تتجه إليه كل الصحف والفضائيات والوكالات لكنه لم يتجه إلا للوطن. منذر آل جعفر أشرف من عرفتُ في الأرضِ وهو أطهر وأقدس كاتب قرأتُ له في الصحافة العراقية وَيْكَأَنَّ أبا عبادة البحتري قال فيه:

وَلَئِن طَلَبتُ شَبيهَهُ إِنّي إِذاً
لَمُكَلِّفٌ طَلَبَ المُحالِ رِكابي

كان وما زال أديباً وشاعراً ومحدثاً ومفسراً وملماً بكل أبواب الثقافة والمعرفة ومؤرخاً يكتب تاريخه بنفسه دون تكلف وهكذا هم العظماء.



#عمر_تحسين_الحياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مبروك ليست من برك البعير
- الحسين في أربعينيته
- قلم القاضي في يد رجل الدين


المزيد.....




- وزارة الصحة اللبنانية: مقتل 13 شخصًا جراء غارات إسرائيلية ال ...
- زيلينسكي يتوقع الحصول على مقترحات ترامب بشأن السلام في يناير ...
- مصر تتطلع لتعزيز تعاونها مع تجمع -الميركوسور-
- زالوجني: الناتو ليس مستعدا لخوض -حرب استنزاف- مع روسيا
- أكبر الأحزاب في سويسرا يطالب بتشديد قواعد اللجوء للأوكرانيين ...
- استطلاع جديد يوضح بالأرقام مدى تدهور شعبية شولتس وحزبه
- الإمارات.. وزارة الداخلية تحدد موعد رفع الحظر على عمليات طائ ...
- هل تشعر بالتوتر؟ قد يساعدك إعداد قائمة بالمهام في التخفيف من ...
- النيابة العامة تحسم الجدل حول أسباب وفاة الملحن المصري محمد ...
- نتنياهو: التسريبات الأخيرة استهدفت سمعتي وعرّضت أمن إسرائيل ...


المزيد.....

- السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي / كرم نعمة
- سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية / كرم نعمة
- مجلة سماء الأمير / أسماء محمد مصطفى
- إنتخابات الكنيست 25 / محمد السهلي
- المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع. / غادة محمود عبد الحميد
- داخل الكليبتوقراطية العراقية / يونس الخشاب
- تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية / حسني رفعت حسني
- فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل ... / عصام بن الشيخ
- ‏ / زياد بوزيان
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير / مريم الحسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - عمر تحسين الحياني - عميد الصحافة العراقية