|
الشرفة
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6112 - 2019 / 1 / 12 - 11:03
المحور:
الادب والفن
أن يلتقي المرء بحبيبة أيام الصبا، مصادفةً أو بتدبيرٍ من أقدار مجهولة. كنتُ أنتظر حلول المساء، كي أمضي إلى موعد مع أصدقاء هذه الغربة، الممتدة عقوداً. فجأة، فكّرتُ فيما كانت الحبيبة تمر إزاء موقفي المتردد، الواجم، دون أن تلقي نظرة أخرى عليّ: " تجربتي المريرة، هنا في الغربة، أكّدت لي خرافة ما يسمى بصديق العُمر. فهل هو كذلك، حب العُمر؟ ". ولكن، بينما قلبي ينزف دموعَ الوجْد المتجدد، عدتُ لأفكّر: " لقد عرفتها من ملامحها؛ وبالأخص، الشامة تحت فمها.. فأنى لها أن تعرفني، بعد فراق عقودٍ من الزمن؟ ". ما لبثتُ أن غادرتُ كل تلك الأفكار، وكنتُ في الأثناء مشغولاً بمحاولة معرفة عنوان أولئك الأصدقاء. رذاذ المطر، بدأ يصفع سحنتي بقسوة فيما أنا أتخبط هنا وهناك في العتمة. وإذا بي أنتبه إلى دخولي في درب مألوف، تطل عليه شرفات بناءٍ غاية في الأناقة والجدّة: " إنه ذات البناء، الذي أجبرتني شركة السكن على تركه، نتيجة مشكلة مع جارٍ روسيّ سكّير وسافل "، قلت لنفسي في حيرة وحنق معاً. وها هم الأصدقاء، بدَورهم، يزيدون حيرتي بتلويح أياديهم من فوق شرفة تلك الشقة، المفترض أنني أقمت فيها قبلاً! فتحَ لي أحدهم الباب الخارجيّ. عندما كنتُ أجتاز ردهة الشقة، في ضوء مصباحها الخافت، لحظتُ أشياء هنالك تُثبت بأنني فعلاً لم أخطئ في ظني. بيدَ أنني لم أتعرّف من أولئك الشباب، المتواجدين في الشقة، سوى على صديقٍ واحد. وإنه هوَ، مَن هتفَ فيّ مرحباً: " النرجيلة بانتظارك، هناك على الشرفة ". لحقت به إلى مدخل الشرفة، وكانت السماء ما تنفكّ ممطرة. عدتُ أدراجي إلى الردهة، عازماً على جلب معطفي الشتويّ. فالتبسَ عليّ الطريق، وذلك بسبب الظلام. سرتُ بمشقة أتلمسُ طريقي، آنَ أنجذب بصري على غرّة إلى شرفة الشقة المجاورة. مبهوراً، رأيت " حبيبة العُمر " هناك، وكانت ترمشُ عينيها الرائعتين من أثر الرذاذ الماطر. انتبهت أيضاً إلى ابتسامتها الوضاءة، الحيية، الدالة على معرفتها لشخصي. خلفها، وقفت صديقة ما وكانت بالكاد تبين في ضوء شرفتهن الشاحب. خشيةَ أن أضيّع أثر الحبيبة ثانيةً، صممتُ على البقاء منتصباً في مكاني غير ملتفتٍ لنداءات الأصدقاء وكانت تتناهى من شرفة.. ( كدتُ أن أقول: شرفة شقتي! ). ثم حلّ الصمت من جديد، وطال هذه المرة أكثرَ من المعتاد. رأيتني أتقدم بضع خطوات، لأجد أنني في حجرة النوم. شعور الحنق، صار يطعن داخلي مجدداً حينَ ألقيتُ نظرة من نافذة الحجرة على شرفة الشقة السفلى، فحط بصري على هيئة ذلك الروسيّ السافل. رفع رأسه في ذات اللحظة، إلا أنني فكّرتُ بأنه من المحال أن يراني في العتمة. وتهدج هذه المرة صوتي، لما تمتمتُ في حسرة وأنا أعود بنظري إلى الشرفة الحبيبة: " أضعتها مرة أخرى ". كون العالم لم يعد له معنى، مع وصولي لعمر متأخر، فإنني فكّرتُ بأن الأمرَ سيانُ: " وربما سألقاها من جديد، طالما أنها تقيم هناك أو أن تلك الشقة هيَ لصديقتها ". مع ذلك، لم يفارقني القلق. رحتُ أتخبط في الظلام بلا هدى، متلمساً طريقي إلى شرفة الشقة كي أوافي رفاق النرجيلة. رأيتُ عندئذٍ بصيصاً من النور في شق باب المسكن الخارجيّ، فأيقنتُ أن الشباب سهوا عن إغلاقه غبَّ استقبالهم لي. تفاقم قلقي وقد وجدتني أتيه في ممرات عديدة، وكما لو أن الشقة مفتوحة على ما يجاورها من مساكن. إلى أن اهتديت للشرفة أخيراً وكانت، لدهشتي، مقفرة من أيّ كان. في الضوء الضعيف، ميّزتُ سلماً حديدياً للحريق وكان يتصل بالشقة السفلى. هَلِعاً، فكّرتُ باحتمال وجود ذلك الدب الروسيّ في مكان ما هنا في الشقة.. تراجعت عن موقفي، لأضرب في العتمة بلا هدى. فتذكرتُ أن أسلحة أنتيكية كانت بين أشياء أخرى، موجودة في حجرة السفرة؛ والتي كنتُ، فيما مضى، قد حولتها إلى مكتب يليق بمكانتي ـ ككاتب! بتلمس هذه الأشياء الحميمة، تلهيت عن قلقي وفرقي، طالما أن تلك الأسلحة لم تكن بمكانها. ولكن يدي اصطدمت بتمثالٍ برونزيّ صغير، يمثل مقاتلاً آشورياً يتنكّبُ قوساً وجعبة سهام. مع صدور صوت خطوات مريبة في مكان ما من الشقة، رأيتني أقبض على التمثل بقوة مندفعاً باتجاه ذلك المكان. أخذت أخاطب نفسي، وكما لو أنني في حالة هذيان: " سأقتله، والله، ذلك السافل إذا عمد لمهاجمتي! إلا أنني سأهدده أولاً، وفي آنٍ معاً، أناشده بالقول: أتعرف التمثالَ يعود لمَن؟ إنه نسخة عن أحد تماثيل الحضارة الآشورية، التي قامت داعش بتدميرها. ونحنُ ( شددتُ على الضمير )، نجن من أنقذنا حضارة العالم من شر هذا التنظيم الهمجيّ!! ". خطواتي، أضحت أكثر ارتخاء وأنا أمضي متعثراً بموجودات المكان. كنتُ مرهقاً ومنفعلاً، فيما الظلمة تكتم رويداً أنفاسي.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 12
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 11
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 10
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 9
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 8
-
إحسان عبد القدوس؛ الصورة النمطية للكاتب/ 2
-
إحسان عبد القدوس؛ الصورة النمطية للكاتب
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 7
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 6
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 5
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 4
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 3
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 2
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 1
-
شيرين وفرهاد: الفصل السابع 5
-
شيرين وفرهاد: الفصل السابع 4
-
شيرين وفرهاد: الفصل السابع 3
-
شيرين وفرهاد: الفصل السابع 2
-
من أجل نصف كرون
-
شيرين وفرهاد: الفصل السابع 1
المزيد.....
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|