أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم عبد مهلهل - الطين ..ذاكرة النهر والملك ودمعة الشاعر















المزيد.....


الطين ..ذاكرة النهر والملك ودمعة الشاعر


نعيم عبد مهلهل

الحوار المتمدن-العدد: 1523 - 2006 / 4 / 17 - 10:16
المحور: الادب والفن
    


(( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ))

سورة ص

(( أصعد يا أور ــ شنابي ، وتمش فوق أسوار أوروك وتفحص قواعد أسوارها وأنظر إلى آجر بنائها
وتيقن أليس من آجر المفخور
وهلا وضع الحكماء السبعة أسسها ))
ملحمة جلجامش


طالما وقفت بإنشداه أمام مفردة الطين ، وطالما لويت بين أصابعي عجينته اللينة لتبدو في حسيتها مثل جسد يتلوى في بيت الرحم لحظة لملمة النطفة أجزائها البشرية لتظهر في صورتها التكوينية الإنسانية ، فأصل إلى قناعة إننا أتينا من ممالكه التي تعود بأزليتها إلى عهود لم تدونها تواريخ ، عهود المطلق والإشارة والمناغاة حيث لم يكن الحرف قد ولد بعد ، ولم تجلس الكلمات على وسادة اللوح لتعطي للقارئ فهما عن الذي يجري في حياتنا . قصة الحب وموت الجندي ومحاورة البيع والشراء وقصاص المرأة الخائنة ، لأتصور في فريضة أضعها :إن الحياة بدأت طينا وتنتهي كذلك .
ليس للطين وطن ، ليس له أرض ، ليس له مناجم ، هو موجود حيث الماء والتراب وضفاف الأنهر ليسجل بليونته الرطبة وقائع اليوم الإنساني حين تحوله ضرورات البقاء إلى طابوقة لبناء بيت أو سور أو معبد أو يحوله الكتبة إلى لوح لتدوين نصوص للتشريع أو تدوين قصائد جادت بها قريحة الملك المتململة من رتابة أن لاتكون هناك حرب ، ومن هنا كان أن امتزج بالحياة وصار روح ديمومتها لتكون ، ويقال أن الطين هو خطوة الحضارة الأولى ومعه أسست لكيانها الأرضي هذا المعمار وهذه الذاكرة التي نبدأ بها يومنا ونغفو على هدئنها الأزلية لحظة انطباق الجفن على الجفن أما نومة مؤقتة وأما نومة أزلية تسمى في قوانين الوجود ( الموت ) ....
ذهنيا ، وعلما وتدينا ترتبط حقيقة هذا الكائن اللين بتكوين الجسد البشري ، فالمعطيات العلمية والفقهية ربطت هذا التكوين بما يلي كما يورده منطق المفسرون:
((إذا أخذنا التراب .. ثم نضيف إليه الماء فيصبح طينا .. ثم يترك لتتفاعل عناصره فيصبح صلصالا .. هذه أطوار خلق الجسد البشري .. والبشر .. والخلق من الطين .. من الأرض . فإذا جئنا للواقع .. فلنسأل أنفسنا .. الإنسان مقومات حياته من أين .. من الأرض .. من الطين .. هذه القشرة الأرضية الخصبة هي التي تعطي كل مقومات الحياة التي أعيشها .. إذن فالذي ينمى المادة التي خلقت منها هو من نفس نوع هذه المادة .. وهي الطين .. ولقد حلل العلماء جسد الإنسان فوجدوه مكونا من 16 عنصرا .. أولها الأكسجين .. وأخرها المنغنيز .. والقشرة الأرضية الخصبة مكونة من نفس العناصر .. إذن فعناصر الطين الخصب هي نفس عناصر الجسم البشري الذي خلق منه .. هذا أول إعجاز .. وهذه تجربة معملية لم يكن هدفها إثبات صحة القرآن أو عدم صحته .. ولكنها كانت بحثا من أجل العلم الأرضي))...
أقرأ في أبدية هذا الكائن المسمى ( الطين ) . أصاب بتيه المعرفة وأتخبط في سدم الزمن كمن يعاني من مشقة الوصول إلى معنى الحرف ، فمنذ التكوين وهو يلتصق بحقيقة انه كان موجودا قبل أن تتكون الحياة ، روحا ، ملاكا ، اله ..لا ادري ولكنه كان يشكل جزء من هيلامية عالم لم يكن قد عرف رمشة العيون وكان معه اللصيق الأبدي ومكمل فتنته وصانع تغيراته ( النار ) الذي أشعرتنا بهذه العلاقة مدونات السماء القدسية بأزلية هذه العلاقة ومشاعر التفاضل بين العنصرين في ماتلاه إبليس أمام السدنة الإلهية لحظة خلق آدم من طين ودعوة الرب لسجود له :
(( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال اخرج منها فإنك رجيم )) سورة ص
ورغم هذا كانت سومر تقول في مدوناتها : لا يجمل طين إلا بنار . وقراءة لتلك الرؤى الحضارية في بلاد النهرين تكتشف أن الطين كانت بمثابة فم الجسد العراقي فمنه بدأت خطوات الوعي الأول كانت سحابة الوصل بين الإنسان وطبيعته التي تأملها بفم فاغر هي دمى الطين حين ظن أن هذا الوجود لايمكن السيطرة عليه إلا من خلال آخر فصنع دمى الطين وصيرها آلهة وتعاويذ تقيه جبروت العاصفة والمطر والأوبئة والحيوانات المفترسة .
وبذات العجينة ولد البيت بعد أن أدرك إن الكهف لم يعد يلائم وعيه الجديد ومنطق الإشارة في إحساسه بالألفة مع أخر يشبهه ، فكان البيت بجانب البيت لتولد القرية ، والقرية كبرت إلى مدينة ، والمدينة كبرت إلى سلالة ، ثم مملكة ، ثم إمبراطورية .
وهكذا قامت مدن الوادي الخصيب وكان الطين روحها والنواة ( البيوت ، الألواح ، الجرار ، أفران الخبز ، الزقوراة ، المسلات ، نصب الآلهة ، آلات الموسيقى ، الأختام ، الحلي ، سدود المياه وأشياء كان الطين يمثل هاجسها ، كتلك التي سكنة مدونات الأساطير وأعطت لشجن الخليقة رغبة أن يولد العالم من اتحاد مودتين . لترى مدن الحداثة نور جغرافيتها وليبدأ فيها الإنسان مسيرته التاريخية الجديدة نحو ما عليه نحن في هذه اللحظة .
المدن التي كان الطين سيرتها الذاتية وعلى بسيطته الناعمة الحمراء مشت الأقلام المدببة لتخط هاجس القصيدة والدمعة وابتسامات الأميرات ولتنطق بنفير الحرب أو أنشودة الحب .
مدن ( أوروك ، اريدو ، تلو ، أور ، لارسا ، لكش ، اوما ، أكد ، بابل ، نينوى ، نيبور ، نفر ، عكركوف ، أيسن ، تل العبيد ، جرمو .....)
مدن تبهر الغرباء قبل أن تبهر أهلها بأفقها الممتد مع سماء التاريخ خيطا من الطين والصلصال لأقف مندهشا عند براعة الوصف الأدبي الساحر لآثاري إنكليزي هو السير ماكس مالوان عندما يصف منظر مدينة أريدو وهو واقف على تل من تلال التراب الأوري في الصفحة 56 من المذكرات التي صدرت عن دار المأمون بترجمة للأستاذ سمير عبد الرحيم الجلبي.
(( كانت مدينة أريدو المقدسة استنادا إلى السومريين ، أول مدينة شيدت بعد الطوفان ، كانت ذات قدسية عالية ومنظر لا ينسى حين ينظر إليها من أور عند الفجر أو عقب الشروق بقليل وهي تومض في السراب على بعد اثني عشر ميلا . ثم تبدو الزقورة وهي رخام خرب متخذة شكل برج مدرج ومنتصبة بهالة من الغموض في ضياء الفجر الواهن ، وقد بعثت الحياة في مبناها بشكل مثير من خلال طبقة رقيقة من لعاب الشمس )).
كلها بنيت من لبنة الطين وبعدها جاءت مدن التاريخ الطيني على مساحة الأرض كلها ومنها لازالت حتى اليوم تعيش بذات المجد ولازال الطين يشكل واقع هندستها وتميزها كما في مدن الطين اليمانية والتي يوعزها الباحث جعفر السقاف وهو يُحَدِّث عن العمارة الطينية في شبه الجزيرة العربية قبل وبعد الإسلام: ( أن الفن المعماري الطيني بوادي حضرموت على سبيل المثال مرَّ بمراحل متعددة وأطوار مختلفة قبل وبعد الإسلام، حيث رأينا في آثار العمارات الطينية التي بنيت قبل الإسلام أنها كانت تتزين بنقوش تمثل صور الحيوانات المختلفة مثل الوعل والبقر والغزلان والجمال، وأحياناً كانت المعارك تُوَثَّق بالنقش على الجدران الطينية، وحتى مطاردات الإنسان للأسود وعبادته للأصنام كانت تنقش على تلك الجدران، أما بعد مجيء الإنسان وتهذيبه للفطرة الإنسانية، فقد تميز الطابع المعماري الطيني بمؤثرات إسلامية ظهرت واضحة جلية في المنائر والقباب والأربطة، واتخذت أشكالاً هندسية من المثلثات والمربعات والسداسيات، والأشكال المخروطية والمستديرة وكثرت أشكال الهلال الذي يعتبر رمزاً للعمارة الإسلامية .
هذا عن التطور في الشكل والزخرفة المعمارية، أما عن تطور المواد المستخدمة في الخلطة الطينية فقال: إنها كذلك تطورت من حجر يُنحَت مع الكلس المستعمل لربط الحجارة والتشييد والتزيين إلى طين يُحرق بعد مزجه بالتبن المأخوذ من بقايا الشعير والبُرّ.)
مدن لا يلحقها عد الأصابع تلك التي كان الطين يوحد كياناتها في خارطة الجهات الأربع ويقف بهيبة كهنوتية ليسجل وقيعة التواجد وسط متغير لاينتهي حتى كأنك تسمع نشيد الكهنة في لحظة الافتتاح الأسطوري لزقورة أور ..معبد التشوق وبيت الله ــ سين ــ اله القمر التي ظلت مدينة أور تدين له بالوفاء والخشوع حتى لحظة حرقها ومسحها من خارطة الوجود رغم أن حمورابي جاء بعد عقود ليقول : كرموا مدينة الطين المقدس ، وأعيدوا بناء مجدها ، فلقد كان العالم ينفس من هنا .. وحتما كان يقصد إن العالم : كان يتنفس من رئة الطين .
هذه الزقورة المرصوفة حتى عنق السماء بقوالب الطين الأحمر المشوي إهدائها المؤسس الحقيقي لمجد سلالة أور الثلاثة الأمير أور ـ نمو ، أهداها إلى سين كي يحمي المدينة من الغزو وليجعل ليلها ، ليلا سرمديا يضج بشوق قصائد الحانات ونشيج النخل وهو يغرس جذوره غب غرين النهر ويداعب مخيلة الصيادين بحنين القصب والسمك ورؤى الألوهية التي وضعت خواطر الفتى آدابا ليحاول أن يصيب الآلهة في قلبها من خلال ( مرديه الطويل ) لينال منها الخلود ، ولأنه نسى حكمة الطين ورؤيته المشفوعة بازل الخلق ، تهاوى أمام خداع الاختبار وعاد بشرا يتسكع في حانات المدن الملتهبة بجمال طبيعة الأهوار وحاناتها حتى قيل إن في أور واحدها زمن السلالة الثالثة مئات الحانات .
لحظة الافتتاح الأسطورية للزقورة التي قلبها من الطين الأحمر كانت كلمات الحمد تنقل رحيق الورد إلى جهات الدنيا كلها . فقد كانت أور تبعث قوافلها الطينية إلى تلك الجهات وكانت تجلب بدله الأحجار الكريمة والتوابل والعطور والخشب والموسلين ، والعاج الذي تصنع منه رؤوس الثيران المثبتة في مقدمة قيثاراتها التي لازال عزفها يمتزج برائحة التراب في أقبية الصمت المذهبة التي بعثرها الأثري ( ليوناردو وولي ) مطلع القرن العشرين فذهبت نهبا موزعة بين متاحف العالم كلها وبقيت حد هذه اللحظة الأقبية الطينية مكانا لصفير الريح وعواء بناة أوى .
كانت قوافل الخشب والعطور تدخل أور من بوابتها الجنوبية قادمة من بلاد الهند ، عبر أسطول هائل من السفن الشراعية ، ومن مناجم باكشان في أفغانستان تأتي قوافل اللازورد والزمرد والياقوت ، ومن مناجم الجبل الأخضر في عُمان كانت تأتي قوافل النحاس ، فيما كانت بواباتها الشمالية تستقبل قوافل الريش والنعام والأسلحة المذهبة من مدن الجبال العالية ، مدن الأناضول وارمينة وغيرها ويقال أن الثلج كان يجلب لملوك سومر في قيض صيف أور الذي لا يحتمل .
كان بيت الطين الهائل هذا يمثل رمزا لشموخ العلى ، وطالما أرخت لطفولتي هواجس المتعة الشبقة إلى فضاء المكان . شبق ممزوج برعب وفتنة وتأمل وتخيل ما قد كانت يمارس في الغرفة العلوية من البناء المدرج تلك التي وصفها مالوان في مذكراته :
(( كانت طبقات الزقورة الثلاثة ملونة بالأسود والأحمر والأزرق . إذ كانت القمة غي الأزمنة البابلية الحديثة متوجة بضريح من الآجر المزجج بلون السماء . يحتمل انه كانت تعلوها قبة . كان وولي يتصورها ذهبية مثل القبة في روضة كربلاء . وكان وولي أيضا يحب ربط السلالم الثلاثية التي يتألف كل واحدة منها من مئة درجة بحلم يعقوب حيث ورد في سفر التكوين انه رأى سلما وكانت الملائكة عليه إلى السماء وتنزل منه )) ...
الافتتاح الذي صنع الطين فتنته مورست فيه طقوسا مختلفة وعزفت في كرنفالاته آلات صدحت بمودة الشعر لخيال القمر المشع فوق راس الأمير السومري خطوطا من ذهب سرحت على جدائل الليل كما مطر من مزاريب البيوت التي عمرت في ذاكرة الحكاية شجنا لجغرافية الطفولة وتاريخ الصبا .
كانت سومر ترى في الطين نشوء لحظة خلق عبقة ، وكانت رائحة الطين توازي رائحة القرنفل الذي تشكل ببهجة البياض سلاسلاً في جيد الأمير المتمتع بلحظة امتزاج ضوء الله القمر ببدن الجسد الطين للتشكل سلالة أظهرت أقبيتها للوجود سحر النحت والموسيقى وجنائزية الموت والأضاحي وأرتنا أيضا معادلات لحساب حركة اليوم بين الليل والنهار وإغفاءة الحلم .
هي ذاتها ، رقم الطين صورت اليوم الملكي ببهجة أن تكون الممالك القديمة عبارة عن برج ومسلة وكاس نذري مصنوع من الفخار وهو الطين المفخور الذي قال عنه علماء الجيولوجيا انه يشكل بتكوينه الكيمائي الفريد اللبنة التي وقفت عليها الحياة ، وربما الحياة كلها مشت بأقدام الطين لتصل إلى هنا ولترى بفزع كيف انهارا برجي منهاتن .
وبين البرجين والزقورة المتدلية من الأرض إلى السماء صنع الطين مجده وبدت ثمالة النخل تشرب من كأسه لتمد الآلهة الراعية لحفل افتتاح الزقورة أعناقها من نوافذ السماء ولترى بإعجاب ودهشة كيف تضرب إيقاعات الآت المفخورة بحركة الأصابع وهي تضرب باتزان لتتمايل خصور العذارى وجنود الثمالة كما يتمايل السعف في الليلية الربيعية الباردة.
ليس سومر وحدها سيدة الطين ، بل هو العنصر الأممي الأوحد الذي يشمل عموم الأرض بهاجسه . لقد كانت الأزيتك الذين شيدوا الأهرام في أمريكا اللاتينية يعتقدون إن أرواح الموتى لا تهنئ إلا في قبور من الطين ، وكانوا يبنون مدرجات معابدهم الهائلة من الحجر الصلب إلا أن عروش ملوكهم كانت تبنى من طين مزجج بأشكال شمسية مزينة بأحجار لامعة .
حتى فراعنة مصر كانوا يتركون هيبة أقبية الاهرامات ويعودن إلى الطين حيث يعتقدون انه مكون لخلطة المومياء السحرية . وكان قبورهم في نهاية الأمر يكون الآجر هو سقفها .
كان الأسبان المندهشين من عالم الأزيتك الساحر لا يعرفون لغة الطين مثلما هذه القوام التي اعتقدت إن روح الضوء يمكنها أن تصد بارودة البندقية ، فنالت من وحشية المستعمر الكاتلوني واحدة من أبشع مذابح التاريخ وليكتب القائد الأسباني ( الدون سيرجو كازليس ) ما نصه :
( ونحن نحز رقاب هذا الشعب كانت عيونهم الصامتة ترنو إلى شيئين ، ضوء الشمس وأكواخ الطين ، ولا اعرف لماذا قبل لحظة الذبح التي يتمتع بها جنودي ، كان المقاتل البدائي يتشبث بإمساك الأرض بقوة ، لقد شاهدت كومة من الجثث ، وفي أيديهم كانت بقايا الطين ناصعة كضوء شمس )..
وبين سريالية هذا المشهد وقبضة الطين الباردة أستذكر قصة الطين الحقير الذي أراد منه إيليا أبو ماضي في ديوانه ( الطين ) أن يوقظ الحساس الإنساني بالمعالجة الوجودية ضمن رؤى كلاسيكية لهذا العنصر ولكنه في كل الأحوال يعود إلى قناعنا إننا منه لأضيف إلى تلك الذاكرة ما تخيله أسباني آخر ليس بقساوة ( الدون سيرجو كازليس ) الذي ذبح الأزتيك على مذابح الفخار قرب نصب الآلهة العظمية بل هو شاعر مرهف قاده حروبه من جحيم فرانكو ليعبر جبال الألب حافيا هاربا إلى فرنسا ، انه الشاعر الأسباني الكبير انطونيو متشادو وهو يتحدث عن رغبة الألم لتتبدل خطوة الطريق الوعر من ثلج كالسكاكين على قدميه الحافيتين إلى طين يلوذ به :
( كنت اتالم ، وثلج الألب يفتح في عظامي وعورة أحلامي
سأموت ..ولكني أحلم برائحة الطين المتورد على جسد آدم الأول
حيث علي أن أتذكر الآن في زحمة العاصفة
وأبواق الفاشست التي تطاردني حتى في نومتى القصيرة
إن علي في النهاية أن اخلد إلى كوخ من الطين دافئ
وهذا هو حلمي كله )...
بين مسيرة متشادو وملك أوروك جلجامش يمد الزمن جادات الطين وكأنها أغصان شجرة لبلاب هائلة معلق عليها نواميس التواريخ مذ قبل الميلاد وحتى أزمنة سقوط المدن بفواجع الدبابات .
يكتب الطين سيرة الزمن . ويصنع كيان أمكنة لرؤى تلك الأطياف التي تمر راكبة غيمة السحابة أو اللحظة أو اليوم كأنها أميرة على هودج من كرستال في واحدة من حكايات القص السريالي في ألف ليلة وليلة .
أمكنة يصفها غاستون باشلار بأنها تصنع ظلال طفولاتنا وقيلولات الشمس بدقة ناعمة .
امسك مفردة( ناعمة ) أتحسس مشاعرها أتذكر التراب بكل أشكاله ، تراب ساحة البيت ، تراب ساحة المعركة ، تراب حديقة الحب ، تراب القبر وهو يُهال كما شلالات الماء على الجسد المسجى ، تراب واقعة الطف وهو يغطي بالبؤس والوحدة ليلة الحوراء وهي تفقد أخيها في الليلة الحادية عشر من عاشوراء ، فأعود إلى قناعة ، إن التراب يشكل قلب وجود الشرق ، وأكثر أماكن الشرق تألماً هو الجنوب ، فتقفز مسرعة كما يراعات باشلار الناعمة كلمات صاحب قصة الحضارة ( ديوارانت ) والقائلة : سيظل الشمال والى البد يمنح العالم القادة والحكماء ، وسيبقى الجنوب والى الأبد يمنح العالم المقاتلين والقديسين .
كان جلجامش الذي رأى في الطين صيرورة ملكه وأراد أن يديم هذه الصيرورة بالحصول على ( نبات الحياة ) يفكر بغاية أن يكون متمتعا بالديمومة ولاغيرها ، تلك أنانية الجبروت أن يكون بمثابة نديم ابدي لموائد من كانوا في العلا ، هذا قلق مشيد بعاطفة اللوح ، فالذي كتب الملحمة ( أو ألفها ) المجهول ( جلجامش الحقيقي ) وكانت وقت الكتابة يخضع لسحر الليونة والنعومة تحدث عنها باشلار ، فساح بفكره وخياله إلى مديات أن يصنع نصا كونيا لا يكرر ، الطين الذي صير ولين جسده وانحنى لخيال القلم المسماري المدبب كان له الأثر البالغ في جعل الملحمة بهذه الفكرة الفلسفية ، الوجودية التي تعيش معنا في كل الأزمنة كما هواجس شكسبير في مسرحياته أو كما أشعار أمية بن الصلت .
وهذا يتقابل مع ذات المشاعر التي تنتابنا لحظة بدء الكتابة الإبداعية على الورق حين يغرينا الأبيض الناصع ( الناعم ) لنكتب بأنسيابية ، وكذا كان الطين ليلد لأدب الكون كلكامشا قويا وقلقا وباحثاً عن شئ ظل حتى هذه السعادة يمثل عصب الهاجس الحياتي ...وحيث تكون دلمون ..يكون بيت الطين وظل الكرم وانهار اللبن ...
إنها فنتازيا الأخيلة الطينية ، تتقابل في الهاجس الآخر عند كوخ الطين الذي أراده متشادو تخلصا من جحيم الثلج الذي يقرض في نهايات الأصابع كما مقص العشب فكانت أمنية بيت الطين تساوي عنده طلقة يطلقها في صدر غريمه الجنرال فرانكو .
لقد تغير تعبير الطين هنا بين هاجسين . جلجامش يضع فكرة الطين في الخلود ، ومتشادو يضعها في موت دكتاتور فرد .
في أساطير الخلق الهندية ، حيث يغرق بوذا في متاهة الضوء ، ليكاد أن ينسى انه وليد اتحاد الماء والنار وحفنة من شروق صباحي ، يشغل الطين حيزا من طقس المودة إلى ذلك الصنم المتربع على قدميه وعينيه بسعة فجر ، لكنه لا يتركوه طينا رماديا ، ولأن بوذا يحب متعة الفصول المبتهجة يلونون هذا الطين بألوان زاهية ، وحين لا يجدوا قرنفلا يطوقون به عنق التمثال الهادئ يصنعون أطواق قرنقلية من الطين ، فهم يرون أن الطين رحم الوردة وكذا البشر .
إنها فكرة مشاعة ، الفاكينك يفكرون هكذا ، الصينيون ، في الهايكو الياباني يقول ساداكي وهو شاعر من العصر الوسيط
الفراشة لا تحب وسادة الورد
إنها تبتهج بوسادة الطين
وهذا أجمل ))
الفرس ، الإغريق ، الفينيقيون ، حضارة أفريقيا ، الأزيتيك ، السكان الأصليون لنيوزلندة واستراليا والأمريكيتين .
كتب كولومبس في أوراقه ، نحن في أوربا لنا وجه واحد وبمشاعر عديدة ، ولكني وجدت أولئك القوم البدائيين لهم وجهان ، واحد مثل وجوهنا وله نفس ما لنا من مشاعر ، والثاني عبارة عن قناع من الطين وله مشاعر لا تحصى .
كلام كهذا يعطينا مدى ما للطين من هيمنة وقدرة على الدلالة ويعود إلى جدلية القناعة من أن الحياة بواسطة الطين تمارس تبادل الدوار والحفاظ على نسب الوجود الذي يديم بقائها قبل إعلان صفير النفير وهذا ما يتكلم عنه المفسرون بشاكلة شيء شبيهة كهذه :
((فالموت نقض للحياة .. أي أن الحياة موجودة .. وأنا أنقضها بالموت .. ونقض كل شيء يأتي على عكس بنائه .. فإذا أردنا أن نبني عمارة نبدأ بالدور الأول .. وإذا أردنا أن نهدمها نبدأ بالدور الأخير .. إذا وصلت إلى مكان وأردت أن أعود .. أبدأ من آخر نقطة وصلت إليها إنها تمثل أول خطوة في العودة .. ونحن لم نعلم عن خلق الحياة شيئا .. لأننا لم نكن موجودين ساعة الخلق .. ولكننا نشهد الموت كل يوم .. والموت نقض للحياة .. إذن هو يحدث على عكسها .. أول شيء يحدث في الإنسان عند الموت .. إن الروح تخرج .. وهي آخر ما دخل فيه .. أول شيء خروج الروح .. إذن آخر شيء دخل في الجسم هو الروح .. ثم تبدأ مراحل عكس عملية الخلق .. يتصلب الجسد .. هذا هو الصلصال .. ثم يتعفن فيصبح رمة .. هذا هو الحمأ المسنون .. ثم يتبخر الماء من الجسد ويصبح الطين ترابا .. ويعود إلى الأرض .. إذن مراحل الإفناء التي أراها وأشهدها كل يوم هي عكس مراحل الخلق .. فهناك الصدق في مادة الخلق .. والصدق في كيفية الخلق .. كما هو واضح أمامي من قضية نقض الحياة .. وهو الموت .. شيء آخر يقول الله سبحانه وتعالى : ( ونفخت فيه من روحي ) ومعنى النفخ أي النفس .. أي أن هناك نفسا خرج من النافخ إلى المنفوخ فيه .. فبدأت الحياة .. وبماذا تنتهي الحياة بخروج هذا النفس .. فأنت إذا شككت في أن أي إنسان قد فارق الحياة .. يكفي أن يقال لك انه لا يتنفس .. ليتأكد يقينا أنه مات .. إذن دخول الحياة إلى الجسد هو دخول هذا النفس مصداقا لقوله تعالى : ( ونفخت فيه من روحي ) وخروجها هو خروج هذا النفس ... ))
تلك هي روح الطين . أو لنقل روحنا جميعا .. أو لنقل انه الذاكرة الجمعية لهذا الكون بمجوداته الحية والغير حية ..
ذاكرة صنعت من وحي الميتافيزيقيا وغيرها ، الأرض وما عليها ومن ثم بقية الأجرام السماوية .
هذا الخلق الفسيح ، المصنوع بحكمة ودقة رياضيات لاتقبل الباقي في نواتجها ، يكاد الطين أن يكون في طرفي المعادلة ، ليحسم فكرة إننا منه واليه أنى شاء بنا العمر ...

هذا الطين الذي سيبقى والى الأبد ..ذاكرة النهر والملك ودمعة الشاعر....

أور السومرية 22 كانون الأول 2005



#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كوتا ..لعمري الذي غرق كما تايتانك في قاع الرغيف
- لماذا المرأة والوردة في غرفة واحدة ، فيما نابليون يجمع العطا ...
- ظلُ الشمسْ في الكأسْ ، وظلُ أجفانكِ في ريشةِِ دافنشيْ
- بعد كل هذا ..تطبعين على خدي سمكة وتمضين
- (عصفور في جسد الوردة . الوردة بين أسنان الرصاصة )
- نعيم عبد مهلهل و3 كتب جديدة في شهر واحد
- الأهوار .. نعمة الله في الجنوب المنسي
- الخبزُ وعينيكِ من بيدرٍ واحد ، وأنتِ والحضارة ، عطرٌ وقميصْ
- وزارة الثقافة العراقية ..للعلم ..لا بيانات ثقافية للعراق في ...
- أنا أكثر هلعاً من بطة في فم إرهابي
- للحب فقط...
- عيون اورنيلا موتي والعام الثالث للحرب
- ذاكرة الشعر . تفتح باب الطلسم . وتقبلُ عينيك وصفة غرام بخط ...
- قطعة موسيقية (( لكولدن فيس ))..لابتسامته الصوفية الجاثية في ...
- ذاكرة الشعر . تفتح باب الطلسم . وتقبلُ عينيك وصفة غرام بخط ...
- لأن ..العالم كرة وردْ ..أنتِ ربيعهُ . ودموعهُ . وتويجهُ النح ...
- ثوب تطرزه رغبة ووطن وقبر أم ينتظر دمعة الوداع
- الشاق والمشتاق في الماء المراق
- مقطع عرضي من ذاكرة فرانسواز ساغان وآخر من ذاكرة الشعروثالث م ...
- مواقيت نيترونية لسعادة بابا الأحلام وثقافة أهلي المعدان


المزيد.....




- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم عبد مهلهل - الطين ..ذاكرة النهر والملك ودمعة الشاعر