|
[7]. اللّحية واللّحاف، قصّة قصيرة
صبري يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 6096 - 2018 / 12 / 27 - 20:17
المحور:
الادب والفن
7 . اللُّحية واللّحاف
كانَ جلبابه حالكاً كاللَّيل الخالي من النُّجوم. ينامُ قلقاً وينهضُ حائراً فيما يحيطُه من نوازع وصراعات دفينة. تراودُهُ أحياناً كثيرة أحلاماً جوفاء ومطامع دنيوية باهتة الألوان .. وأينما تصادفُهُ تراهُ لابساً جلبابه الحالك. صلواته المكثَّفة بالطَّلباتِ أوشكَتْ أن تغيظَ الله. يخامرُهُ أحياناً مشاعرَ الشّكوكِ بوجودِ الله لكنَّهُ ينحّي هذه المشاعر جانباً، ولكن سرعان ما تبقى معلَّقة بين ثنايا اللَّاشعور. يقتربُ من المرآةِ .. وعندما يرى هذا الاِسوداد ممتدّاً على مساحةِ المرآة، يشعرُ بحزنٍ عميق في قرارةِ نفسِهِ، ويتذكَّرُ شبابَهُ الّذي امتصّه هذا الرِّداء الطَّويل .. يمسكُ مشطاً ويبدأ بتمشيطِ لحيته الطَّويلة الملوّنة بالأبيضِ والأسودِ .. الابيضاضُ يزدادُ كثافةً عاماً بعدَ عام وهذا البياض يذكِّرُهُ بالكهولةِ والذُّبولِ. كانت اللُّحيةُ عمرَها طويلاً فأخذَتْ امتدادَها على صدرِهِ الفسيحِ. أوّل البارحة صادفَ شابَّاً وسيماً عندَ منعطفِ الشَّارعِ. دارَ بينهما حوارٌ جادّ وهادئ. استعرضَ الشَّابُّ قصصاً يافعة مستمدّة من رحيقِ الشَّبابِ. وبعدَ حوارٍ طويل أبدى كلّ منهما للآخرِ أبجديَّاته العريضة في الحياة، وقبلَ أن ينصرفا في سبيلهما قالَ الشَّابُ: عفواً أيُّها الشَّيخ الكريم، بودّي أنْ أسألَكَ سؤالاً خاصّاً، لكنّي أشعرُ بنوعٍ من الإحراجِ تجاهَ وقارِكَ المبجَّل! أجابَ الشِّيخ: تفضَّلْ يا بني فكلِّي آذانٌ صاغية. تظاهرَ الشَّابُّ بأنَّهُ محرجٌ من الشَّيخِ، إلَّا أنّهُ كانَ مُهَيَّأً نفسَهُ لهذهِ "المعركة" النِّقاشيّة، فقذفَ سؤالاً يقولُ فيهِ: هل أستطيعُ أنْ أعرفَ من فضيلتِكم الموقَّرة أينَ تضعونَ لحيتَكم عندما تخلدونَ للنومِ؟ هل تضعونَها تحتَ اللّحافِ أم فوقَهُ؟! .. ولماذا راودَكَ أنْ تسألُني هذا السُّؤال؟ بالحقيقة تصوَّرْتُ أن يكونَ لي لحية طويلة، وسألتُ نفسي هذا السُّؤال أيضاً ووجدْتُ نفسي محتاراً للإجابةِ عن هذا التَّساؤل، لهذا أحببْتُ أنْ أسألَهُ لسماحتِكُم، وأنا أعلمُ يا فضيلةَ الشَّيخ أنَّ سؤالي فيهِ نوع من الفظاظةِ والخصوصيّةِ، ولكنّي أعلمُ أيضاً أنَّ فضيلتَكم تملكونَ صدراً رحباً حتّى ولو كانت الأسئلة خصوصيّة من هذا النَّوع .. وبصراحة أيُّها الشَّيخ الكريم لديّ الرُّغبة أن أعرفَ أينَ يضعُ الشُّيوخُ لحاهم أثناءَ نومِهم العميق! أجابَ الشَّيخُ: "بعدَ هذه المقدّمة المدمَّسة"، بالحقيقة يا بنيّ أنا لا أعرفُ أينَ أضعُ لحيتي أثناءَ النَّومِ؟ .. ولا أفكِّرُ أصلاً بهذهِ المسألة، أحياناً أضعُها تحتَ اللّحافِ وأحياناً أضعُها فوقَ اللّحافِ. ولكن "مبتسماً"، لماذا تسألُني تحديداً هذا السُّؤال؟ بالحقيقة هو مجرَّد تساؤل ونوع من الفضولِ لا أكثر. هزَّ الشِّيخُ رأسَهُ ثمَّ أردفَ يقولُ: على أيَّةِ حال سأخبِّرُك غداً عن المكانِ الّذي تتموضعُ فيهِ لحيتي. تمتمَ الشَّابُّ ثمَّ قالَ: تذكَّرْ هذا جيِّداً يا فضيلةَ الشَّيخ، ولا تنسَ أينَ ستضعُ لحيتَكَ قبلَ أنْ تستسلمَ للنومِ؟ سأتذكَّرُ هذا وسأخبِّرُكَ عن مكانِ تموضعِها! عندَ المساءِ صلّى الشَّيخُ صلاتَهُ المعهودة، وعندما حانَ ميعادُ نومِهِ تذكَّرَ حديثَ الشَّابِّ .. دخلَ الفراشَ وغطّى نفسَهَ جيِّداً. وضعَ لحيتَهُ بادئَ الأمرِ تحتَ اللّحافِ، لكنّهُ سرعانَ ما ملَّ من وضعيَّتِها فأخرجَها ووضعَها فوقَ اللّحافِ، متصوِّراً أنَّ وجودَها هكذا أكثرَ راحةً لهُ وبعدَ لحظاتٍ شعرَ أنَّ وجودَها خارجاً لا يريّحُهُ فوضعَها داخلاً، ثمَّ اشتدَّ تركيزُهُ على وجودِها تحتَ اللّحافِ أم فوقَهُ .. وأعادَ وضْعَها خارجاً وداخلاً عشراتِ المرَّاتِ إلى أنْ وصلَ إلى مرحلةٍ لم يعُدْ قادراً على النَّومِ! وأصبحَ جُلَّ تفكيرِهِ محصوراً بلحيتِهِ وبدأَ يهمسُ في سرِّهِ قائلاً: فعلاً كانَ ذلكَ الشَّاب معَهُ الحقّ أنْ يكونَ محتاراً في الوضعيّةِ الّتي سيضعُ فيها لحيته المفترضة .. تلمَّسَ الشَّيخُ لحيتَهُ ثمَّ نهضَ متوجِّهاً إلى المرآةِ وبدأ يحدِّقُ بوجهِهِ .. كانت عيناهُ حمراوانِ وجبينُهُ متصبِّباً بالعرقِ. شعرَ بحكّةٍ غريبةٍ في ذقنِهِ .. حكَّ ذقنَهُ، لكنَّهُ ما كانَ يستطيعُ أنْ يحكَّهُ جيّداً .. ولم يجدْ نفسَهُ إلّا وهو يزرعُ الغرفةَ جيئةً وذهاباً وبعدَ رحلةٍ ذهابيّة وإيابيّة طويلة، توجَّهَ نحوَ الحمّامِ وسؤالُ الشَّابِّ مايزالُ يتماوجُ في ذهنِهِ. همسَ مردِّداً حديثَ الشَّابِّ، "لا تنسَ أينَ ستضعُ لحيتكَ قبلَ أن تخلدَ للنومِ"! .. هزَّ رأسَهُ بحركةٍ إيقاعيّة نحوَ الأعلى والأسفل، ثمَّ تمتمَ بعباراتٍ غير مسموعة، كانَ يخاطبُ نفسَهُ، شعرَ أنَّهُ يعبرُ دائرةً من الحيرةِ، ولم يجدْ نفسَهُ إلّا وهوَ يخلعُ ثيابَهُ ثمَّ بدأ يستحمُّ بماءٍ فاتر، ظنَّاً منْهُ أنَّ الاستحمامَ سيمنحُهُ استرخاءً واستسلاماً للنومِ، إلَّا أنّهُ ازدادَ نشاطاً وحيويةً، واستهواهُ أن ينظرَ إلى جسدِهِ العاري في المرآةِ، ثمَّ تمتمَ أينَ اختفى ذلكَ الحجاب المخيف؟ مغبونٌ أنتَ أيُّها الجسد تحتَ رداءِ العفافِ!
كانَتْ قطراتُ الماءِ تتساقطُ من لحيتِهِ الطَّويلة، تذكّرَ باكورةَ شبابِهِ كيفَ كانَ يحلقُ ذقنَهُ يوميّاً كي يظهرَ وسيماً .. وتهاطلَتْ عليهِ الأسئلةُ من كلِّ جانبٍ، وشعرَ أنَّهُ يتأرّجحُ فيما بينَ العوالمِ الرُّوحيّة والعوالم المادّيّة، وخُيِّلَ إليهِ أنَّ نزوعَهُ المادّي ــ أحياناً ــ يتأرّجحُ على نزوعِهِ الرُّوحي.
كانَ محتاراً ومشوَّشاً من هذهِ التّأرجحات الّتي كانَتْ تراودُهُ في بعضِ الأحيانِ. هزّ رأسَهُ وحاولَ أنْ يُمعنَ في الماورائيّات، كانتْ تبدو له هذه الماورائيّات هلاميّة للغاية، ولم يستطِعْ أن يتلمَّسَ طريقاً محدَّدَ المعالم لهذه المناحي الّتي ينتهجُها .. عادَ إلى فراشِهِ ورأسه يموجُ بالأسئلةِ، كوَّرَ نفسَهُ تحتَ اللّحافِ .. وكانَ على وشك أنْ يأخذَهُ النّعاسَ لولا سؤالُ الشَّابِّ الّذي ما كانَ يبارحُ ذاكرتَهُ، وسرعانَ ما بدأتْ رحلةُ الحيرةِ تصارعُهُ من جديد! .. وكلَّما وضعَ لحيتَهُ داخلاً أو خارجاً، شعرَ بضرورةِ إخراجِها أو إدخالِها .. وهكذا قذفتْهُ الحيرةُ في متاهاتٍ مظلمةٍ ولم يجدْ جفناه سبيلاً للنومِ! .. ثمَّ همسَ لنفسِهِ: ما هذا البلاء الّذي جاءَني من جرّاءِ لقائي العابرِ معَ ذلكَ الشَّاب؟ .. وهكذا بدأ الشَّيخُ يحاورُ نفسَهُ بشرودٍ محيِّر، وكانَ سؤالُ الشَّابِّ يأخذُ أكبرَ المساحة الشُّروديّة المحيّرة .. الأرقُ كانَ يحاصرُهُ من كلِّ جانبٍ وبدأَ يتقلَّبُ في فراشِهِ ساعاتٍ طوال، ثمَّ استسلمَ للنومِ مكشوفاً! وفي صبيحةِ اليومِ التَّالي، نهضَ بتكاسلٍ شديد من نومِهِ، وما كانَ يعرفُ قطّ أينَ وضعَ لحيتَهُ خلالَ النّومِ، الشَّيءُ الوحيدُ الّذي كانَ يعرفُهُ، أنَّهُ كانَ مؤرَّقاً جدَّاً ليلةَ أمس، وليلتُهُ كانتْ أشبه ما تكونُ بليلةٍ مسكونةٍ بالأشباحِ!!
ستوكهولم: 11 . 8 . 1992
#صبري_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
[6]. الذَّبذبات المتوغِّلة عبر الجدار، قصَّة قصيرة
-
[5]. حنين إلى ديريك بعقلائها ومجانينها، قصّة قصيرة
-
[4]. أنا والرَّاعي ومهارتي بِبَيعِ العدس، قصّة قصيرة
-
[3]. الكرافيتة والقنّب، قصّة قصيرة
-
[2]. الّذكرى السَّنويّة، قصّة قصيرة
-
[1]. فراخ العصافير، قصّة قصيرة
-
[10]. استمراريّة القهقهات الصَّاخبة، قصَّة قصيرة
-
[9]. وللزهور طقوسها أيضاً! ، قصّة قصيرة
-
[8]. مشاهد من الطُّفولة، قصّة قصيرة
-
[7]. احمرار السَواقي، قصّة قصيرة
-
[6]. اللّص والقطّة، قصّة قصيرة
-
[5]. قتل النَّاطور الحمامة، قصّة قصيرة
-
[4]. حالات اِنفلاقيّة قُبَيْلَ الإمتحان قصّة قصيرة
-
3 رنين جرس المدرسة، قصّة قصيرة
-
2 . امطري علينا شيئاً يا سماء! قصّة قصيرة
-
المجموعة القصصية الأولى، احتراق حافات الروح، استهلال، [1] اح
...
-
خمس مجموعات قصصية المجلّد الأول، مدخل للقصص
-
تصفّح العدد السّادس من مجلة السَّلام الدولية الصادرة في ستوك
...
-
حملة تضامن مع الشاعرة المبدعة فاطمة ناعوت
-
صباح الخير يا مالفا أيّها المرفرف فوق تاج الإرتقاء في سماء ا
...
المزيد.....
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|