حسن عجمي
الحوار المتمدن-العدد: 6095 - 2018 / 12 / 26 - 20:45
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
العِلم فن توحيد المعاني المختلفة. فالعلم ينطلق من التمييز بين المفاهيم إلى التوحيد فيما بينها فيتصف بجدلية التمييز و التوحيد معاً. لكن بلا توحيد بين معاني المفاهيم المتنوّعة يبقى العلم تفلسفاً لأنَّ عملية التوحيد بين معاني المفاهيم من خلال معادلات رياضية فيزيائية (مُعبِّرة عن قوانين الكون) تمكِّن النظريات من أن تكون علماً حقاً.
القوانين الطبيعية في علوم الفيزياء تُوحِّد بين مفاهيم ذات معان ٍ مختلفة تماماً كقانون نيوتن القائل بأنَّ القوة تساوي الكتلة مضروبة ً بالتسارع. هذا القانون العلمي يوحِّد بين القوة من جهة و الكتلة و التسارع من جهة أخرى. و ذلك بقوله إنَّ القوة ليست سوى الكتلة ضرب التسارع. هذا يدلّ على أنَّ العلم يتكوّن من عمليات توحيد المعاني و الظواهر المختلفة التي تشير إليها المفاهيم المتنوّعة.
تتعدد الأمثلة على أنَّ العلم فن توحيد المعاني منها الأمثلة التي تقدِّمها نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية. فنظرية ميكانيكا الكمّ توحِّد بين الجُسيم (كالإلكترون) و الموجة من خلال اعتبار أنَّ الجُسيم هو جُسيم و موجة في آن و لذا يتصرّف على أنه جُسيم و على أنه موجة في الوقت نفسه. فالجُسيم شيء مادي يمتلك صفات معينة كصفة الكثافة و صفة الكتلة. أما الموجة فهي التي تحمل الطاقة و ترسلها من خلال المادة أو الفضاء الكامن بين الموجودات المادية. و بذلك يختلف الجُسيم عن الموجة. لكن رغم اختلاف الجُسيم عن الموجة توحِّد ميكانيكا الكمّ بينهما ما يدعم مصداقية أنَّ العلم فن توحيد المفاهيم و المعاني المتنوّعة و بذلك العلم أيضاً فن توحيد الظواهر الطبيعية (كظاهرة الجُسيم و ظاهرة الموجة) التي تشير إليها المفاهيم المختلفة. من هنا العلم فن توحيد ظواهر الكون من خلال التوحيد بين المفاهيم و معانيها المتنوّعة.
تضيف ميكانيكا الكمّ توحيداً آخر بقولها إنَّ الجُسيم نفسه يعبر من كل الممرات الممكنة من نقطة إلى أخرى (فيتخذ مساراً مستقيماً و آخر شبه مستقيم و آخر ملتوياً إلخ). و بذلك تتحد الممرات الممكنة المختلفة بكونها ممر الجُسيم نفسه. كما أنَّ ميكانيكا الكمّ توحِّد بين الحياة و الموت حين تقول إنَّ قطة شرودنغر حية و ميتة في آن. بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ , قوانين الطبيعة احتمالية. و بذلك احتمالية أن تكون قطة شرودنغر حية (من جراء عدم إصابتها بإشعاع قاتل) تساوي احتمالية أن تكون القطة ذاتها ميتة (من جراء إصابتها بإشعاع قاتل). لكن من منظور ميكانيكا الكمّ , كل الاحتمالات متحققة ما يجعل قطة شرودنغر حية و ميتة في الوقت نفسه. هذا دليل آخر على أنَّ العلم يوحِّد بين المفاهيم (فبين المعاني و بين الظواهر) المختلفة كتوحيده بين الحياة و الموت. فلا فرق حق بين الموت و الحياة سوى وعي الإنسان. هذا لأنه عندما ينظر الإنسان إلى قطة شرودنغر و يعيها حينها فقط تصبح تلك القطة إما حية و إما ميتة تماماً كما يقول الفيزيائي جون ويلر.
بالإضافة إلى ذلك , يوحِّد العلم بين الوجود و العدم. يُعبِّر عن ذلك الفيزيائي "آلن غوث" قائلاً إنَّ الوجود موجود لأنه عدم. بالنسبة إلى الفيزياء المعاصرة , العدم يتكوّن من طاقات متعارضة كالطاقة الإيجابية و الطاقة السلبية و لكونهما متساويين يختزلان بعضهما البعض فيتشكّل العدم. و بذلك العدم كونٌ مُختزَل بل أكوانٌ مُختزَلة ما يوحِّد بين الكون و العدم أو بين الوجود بأكوانه المتعددة و العدم. و بما أنَّ كل شيء و من ضمن ذلك العدم محكوم بقوانين ميكانيكا الكمّ الاحتمالية , إذن من المحتمل أن تفلت طاقة من العدم من جراء عدم اختزالها و بفضلها يتكوّن الكون فينشأ من عدم. و كل الاحتمالات متحققة ضمن نموذج ميكانيكا الكمّ لتساوي احتمالياتها. لذلك من الطبيعي أن يولد الكون من العدم من جراء طاقة لم يتم اختزالها. يضيف "آلن غوث" قائلاً إنه إذا جمعنا طاقة الكون الإيجابية و طاقته السلبية سنجد أنَّ مجموع طاقة الكون يساوي صفراً بسبب أنَّ طاقة الكون الإيجابية متساوية مع طاقة الكون السلبية. على ضوء كل هذه الاعتبارات , يؤكِّد "آلن غوث" على أنَّ الوجود موجود لأنه عدم ما يتضمن التوحيد بين الوجود و العدم.
كما يطرح الفيزيائي ليونارد سسكيند نظرية علمية مثيرة مفادها أنَّ الكون وهم. بالنسبة إليه , الكون صورة هولوغرامية أي صورة ثلاثية الأبعاد (بدلاً من أن يكون حقائق واقعية) ما يتضمن وهمية الكون لأنَّ معلومات الكون موجودة على سطح الكون بدلاً من أن تكون موزَّعة داخله على نقيض مما نراه و ندركه بحواسنا الإنسانية. هكذا توحِّد هذه النظرية العلمية بين الكون و الوهم ضمن منهجية العلم الكامنة في التوحيد بين المعاني المختلفة كهذا التوحيد بين وجودية الكون و وهميته.
من جهة أخرى , إعتمد أيضاً الفيزيائي ستيفن هوكنغ (كما يفعل العلماء الآخرون) على أنَّ العلم توحيد المعاني المتنوّعة حين دَرَسَ الثقوب السوداء و إشعاعاتها. الثقوب السوداء الموجودة ضمن المجرات هي تلك التي لا يتمكن الضوء و لا تتمكن المادة من الإفلات منها بينما الثقوب البيضاء هي التي من الممكن أن يفلت منها الضوء و المادة. بذلك الثقب الأسود نقيض الثقب الأبيض. لكن ستيفن هوكنغ يوحِّد بينهما من خلال نظريته العلمية القائلة بأنَّ الثقوب السوداء هي حقاً ثقوب بيضاء لكونها تصدر إشعاعات على نقيض مما كان يظن العلماء سابقاً. من هنا نموذج هوكنغ العلمي يوحِّد بين معنى الثقب الأسود و معنى الثقب الأبيض ما يدلّ مجدداً على أنَّ العلم عملية توحيد المعاني و أنَّ العلم لا ينشأ و لا يتطوّر سوى بنشوء و تطوّر توحيد المعاني تماماً كما فَعَلَ هوكنغ.
دليل آخر على أنَّ العلم فن توحيد المعاني هو سعي العلماء إلى التوحيد بين نظرية النسبية لأينشتاين و نظرية ميكانيكا الكمّ (أي سعيهم إلى توحيد معاني هاتيْن النظريتين) في نظرية واحدة منسجمة توحِّد بينهما رغم اختلافهما. و تُدعَى هذه النظرية بنظرية كل شيء. الفيزيائيون المعاصرون يبحثون عن هذه النظرية النهائية للكون القادرة على تفسير كل الظواهر الطبيعية من خلال التوحيد بين قوانين نظرية أينشتاين الحتمية و قوانين نظرية ميكانيكا الكمّ الإحتمالية اللاحتمية. تُعتبَر نظرية الأوتار العلمية القائلة بأنَّ الكون أوتار و أنغامها هي النظرية التي من المحتمل أن تكون نظرية كل شيء. و العلم يهدف إلى التوحيد بين النظريات المختلفة و المتنافسة (كما في المثل السابق) لأنَّ العلم فن توحيد المعاني المُعبَّر عنها من خلال نظريات علمية متنوّعة و إلا ما سعى العلماء إلى التوحيد بين النظريات. كل هذا يرينا أنَّ العلم فن توحيد المعاني و فن توحيد ظواهر الكون و فن توحيد النظريات المتصارعة. هكذا العلم هو أعلى مراتب التوحيد.
إن كان العلم فن توحيد المعاني فلا بدّ أولاً من تحديد تلك المعاني فتمييزها و من ثم توحيدها بمعادلات فيزيائية رياضية. لذلك العلم يميِّز بين معاني المفاهيم بهدف توحيدها كتمييز مفهوم الطاقة عن مفهوم الكتلة المادية و من ثم يُوحِّدهما في قانون علمي واحد ألا و هو قانون أينشتاين الشهير القائل بأنَّ الطاقة تساوي الكتلة. هكذا العلم مجموع آليات توحيد المعاني المتنوّعة المُعبَّر عنها بقوانين الطبيعة. أما التمييز بين معاني المفاهيم فآلية من آليات توحيد المفاهيم و معانيها.
#حسن_عجمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟