أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن عجمي - الأدب فن إخفاء المعنى















المزيد.....

الأدب فن إخفاء المعنى


حسن عجمي

الحوار المتمدن-العدد: 6093 - 2018 / 12 / 24 - 07:49
المحور: الادب والفن
    


الحياة فن إنتاج المعنى لِما لا معنى له. و الأدب فن تشكيل كل الحيوات الممكنة الواقعية منها و المتخيَّلة بينما العِلم فن تفسير كل الأكوان الممكنة التي نحيا فيها و بها واقعياً أو خيالياً أو واقعياً و خيالياً معاً. الأدب فن إخفاء المعنى بينما العِلم فن إظهاره.

تتعدد الأمثلة على أنَّ الأدب فن إخفاء المعنى. فمثلاً , يخفي الشاعر الكبير نزار قباني معاني و دلالات قصيدته "التصوير في الزمن الرمادي" حين يقول : "أحاول منذ الطفولة / أن أتصوّر شكلَ الوطن . رسمتُ بلاداً , تُسمَّى مجازاً , / بلادَ العرب...". المعنى هنا هو التالي : بلاد العرب ليست حقيقة واقعية بل هي مجرّد مجاز و بذلك بلاد العرب غير موجودة بالفعل و لذا يحاول الشاعر أن يتصوّر شكل وطنه أي شكل بلاد العرب و أن يرسمها. و هو يحاول أن يتصوّر شكل الوطن بدلاً من أن يتصوّره بالفعل لأنَّ الحقيقة هي أنه لا يوجد وطن عربي واقعي و حقيقي و لذا هي مجرّد محاولة تصوّر و ليست تصوّراً فعلياً. هكذا يغيب التصوّر الفعلي لبلاد العرب لأنها غير موجودة. أخفى الشاعر هذه المعاني في أبياته الشِعرية لأنَّ الأدب و من ضمنه الشِعر فن إخفاء المعنى. فلو أنه أظهر معنى أو معاني قصيدته لأصبحت حينها خطاباً سياسياً بدلاً من شِعر رفيع و أدبٍ راق ٍ.

يُكمِل قباني في القصيدة نفسها قائلاً : "أحاول منذ الطفولة / رسم بلادٍ / تسامحني إن كسرتُ زجاجَ القمر..". بهذه الكلمات يخفي الشاعر معان ٍ منها أنه بريء كطفلٍ يتخيّل أنَّ للقمر زجاجاً و أنه يكسره أحياناً لشدة براءته. لكنه يحاول أن يرسم بلاداً تسامحه إن كسر زجاج القمر ما يتضمن أنَّ بلاده لا تسامحه على كونه طفلاً بريئاً. فهي محاولة رسم تلك البلاد المسامحة لبراءة أبنائها و ليست رسماً فعلياً لها ما يعني أنَّ بلادنا لا تسامحنا لأننا أبرياء و بذلك لا تريد سوى الأشقياء و المذنبين حقاً فتمارس الظلم و إنعدام الأخلاقية الإنسانية لأنها ترحِّب بالظالمين و المعتدين و لا ترحِّب بالأبرياء. كل هذه المعاني مخفية في هذه المقاطع الشِعرية ما يؤكِّد على أنَّ الأدب فن إخفاء المعاني.

في آخر قصيدته يقول قباني : " و واعدتُ آخر أنثى / و لكنني .. جئتُ بعد مرور الزمن...". هنا مواعدته لآخر أنثى دلالة على موت كل إنسان و إلا ما كانت مواعدة لآخر أنثى. و هذا متوقع لأنَّ الأوطان التي تمارس القهر و الظلم تقتل إنسانية كل إنسان ما يحتِّم زوال الإنسانية فموت كل إنسان. و مجيء الشاعر هو مجيء بعد مرور الزمن لأنَّ بموت الإنسان يموت الزمن فالزمن صناعة الإنسان. لذلك من المتوقع أيضاً أنه لم ينجح في لقاء آخر أنثى بسبب مجيئه بعد مرور الزمن أي بعد مرور الوجود الإنساني فزوال كل إنسان حقيقي بزوال أوطانه. كل هذه المعاني العميقة و الدقيقة يخفيها الشاعر قباني لأنه يكتب أدباً و شِعراً بدلاً من خطاب سياسي فلسفي. هكذا الشِعر هو أيضاً خطاب فكري بأبعاده السياسية و الاجتماعية و الفلسفية المتنوّعة لكنه خطاب فكري مخفي لكونه إخفاء للمعاني و الأفكار السياسية و الاجتماعية و الفلسفية.

يصدق هذا التحليل على النثر أيضاً. فمثلاً , أخفى الروائي الكبير حسن داوود في روايته "فيزيك" أنَّ مهابيل القرية الثلاثة هُم فقط الذين تمكّنوا من اكتساب إنسانيتهم و ذلك من جراء تمايزهم عن بعضهم البعض. فإبراهيم هو الأهبل القوي و حسين هو الأهبل الخواجا بينما محمد وطفا فهو أهبل فقط. و بإختلافهم عن بعضهم يكتسبون إنسانيتهم لأنَّ فقط المختلف عن الآخر لا يتطابق مع الآخرين فيغدو مستقلاً ما يجعله يمتلك هويته الإنسانية الحقة الكامنة في حريته و تحرّره من سجون المجتمع و أكاذيبه. أما الآخرون الذين من المفترض أنهم عقّال فيتشابهون و يتطابقون ما جعلهم يفقدون استقلاليتهم فإنسانيتهم. لذلك يصوّرهم حسن داوود على أنهم يمارسون الإرهاب العقلي ضد بعضهم البعض ليصل بهم إرهابهم إلى السخرية من الجثث و الموتى. نتيجة كل ذلك أن يسيطر عليهم الجهل كالاعتقاد بأنَّ صغر الرأس يدلّ على قلة العقل.

هذا الجهل المسيطر على مَن نظنهم عقلاء يؤدي بهم إلى أن يخسروا عقلانيتهم تماماً كما خسروا أخلاقهم. هكذا يخفي الروائي داوود في روايته معان ٍ عديدة منها أنَّ المهابيل أكثر إنسانية من العقلاء لاستقلالهم و عدم استقلال العقلاء و أنَّ الإنسانية تُكتسَب من خلال استقلالنا و ليس من خلال اعتراف المجتمع بعقلانيتنا و أنَّ العقلانية و الأخلاق صفتا الإنسانية فإن خسرنا إنسانيتنا نخسر العقلانية و الأخلاق معاً و العكس صحيح تماماً كما خسرها مَن يعترف المجتمع بأنهم عقلاء رغم لا عقلانيتهم و لا إنسانيتهم. من هنا يمارس المجتمع أكاذيبه و ضلالاته فيشوّه الحقائق و يغتال إنسانية الفرد. كل هذا مخفي في رواية حسن داوود ما يرينا أنَّ النثر أيضاً يعتمد على مناهج إخفاء المعنى ما يجعله يتصف بتعددية المعاني.

الأدب فن إخفاء المعاني و الدلالات و الأفكار بينما العِلم فن إظهارها. فمثلاً , العلم يُظهِر أنَّ الزمان و المكان يشكِّلان كينونة واحدة لا تنفصل و أنَّ الجاذبية مجرّد إنحناء الزمكان (جمع الزمان و المكان) تماماً كما تقول نظرية النسبية لأينشتاين. و العلم يُظهِر أنَّ الزمن يتسارع أو يتباطأ مع تسارع أو تباطؤ الأجسام ما يجعل الزمن نسبياً كما تؤكِّد أيضاً نظرية أينشتاين النسبية. هكذا العلم تبيان المعاني و الدلالات و الأفكار على نقيض الأدب كإخفاء للفكر و المعنى و الدلالة. بذلك يختلف الأدب عن العلم.

الأدب و العلم يختلفان لكنهما يتواصلان و يتحدان في آن و ذلك بسبب أنَّ كل واحد منهما يستلزم وجود الآخر. فإخفاء المعاني يستلزم إظهارها و تبيانها و إلا بقيت غامضة بلا تفسير و إيضاح كما أنَّ تبيانها يستلزم إخفاءها و إلا بقيت خطاباً حرفياً لا حياة فيه. لذلك لا يوجد أدب متطوّر بإخفاء معانيه بلا علوم متطوّرة بتبيان معانيها. من هنا لا توجد ثقافة متطوّرة بأدبها بلا أن تكون متطوّرة أيضاً بعلومها و العكس صحيح. هكذا الأدب و العلم يشكّلان حقلاً معرفياً و إبداعياً واحداً لا يتجزأ رغم اختلافهما في إخفاء المعاني أو تبيانها. و هذا متوقع لأنَّ أي شِعر أو نثر يستلزم الاعتماد على علوم عصره لوصف أية حالة شعورية أو سلوكية و إلا فقد مصداقيته كما أنَّ أي علم يستلزم التعبير عنه بمفاهيم مرتبطة بخطاب عصره اللغوي فالأدبي لكي يُفهَم و يُقبَل بالإضافة إلى تعابيره الرياضية و العلمية الصِرفة. لا أدب بلا علم و لا علم بلا أدب لأنَّ إخفاء المعاني دعوة إلى تبيانها و تبيان المعاني دعوة أيضاً إلى إخفائها من أجل تبيانها لاحقاً بأشكال و مضامين متنوّعة.

لكن إن كان الأدب إخفاء المعاني فلا بدّ من أن يكون أيضاً تكثيراً للمعاني ما يمكّنه من أن يحتوي على تعددية المعاني لأنَّ من جراء إخفاء المعنى تتعدد تفاسيره و تأويلاته فتتكثر معانيه. من هنا الأدب أيضاً فن تكثير المعنى الواحد.



#حسن_عجمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلسفة ارتباط العقل بالواقع
- فلسفة المعاني و صراع النظريات
- ستيفن هوكنغ : لا غالب إلا العلم
- الفيزياء المعاصرة و التصوّف
- فلسفة العلمانية الإنسانوية
- العلم أنسنة الكون
- الكون عزف جاز
- نقد العلوم
- علمانية اللغة العربية و ديمقراطيتها
- الفلسفة الأخلاقية في اللغة العربية
- الفلسفة التربوية و صراع الحداثة و التخلف
- فلسفة الميتافيزياء و العلوم المعاصرة
- فلسفة العلوم
- المعنافوبيا
- المعنالوجيا
- فلسفة الحداثة في مواجهة ما بعد الحداثة
- الفلسفة الإنسانوية في مواجهة فلسفة الثنائيات
- غزل فلسفي : كولونيا
- الفلسفة الاسلامية و دورها الاجتماعي و السياسي
- فلسفة الدين بين الحداثة و ما بعد الحداثة


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن عجمي - الأدب فن إخفاء المعنى