أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - منير المجيد - لا، هذا ليس رثاء يا أمي















المزيد.....


لا، هذا ليس رثاء يا أمي


منير المجيد
(Monir Almajid)


الحوار المتمدن-العدد: 6084 - 2018 / 12 / 15 - 14:35
المحور: سيرة ذاتية
    


لا أعرف متى صار شعرك الأسود بلون الفضة، لأنك كنت تحتفظين على الدوام بتلك الحطّة البيضاء على رأسك، مثل بقية النساء الكرديات.
هل بدأ حين صار جلوسك عادة وأنت تسندين ظهرك إلى الحائط من جهة الغرب؟ كنت تتأملين الشمس وهي تتحوّل إلى قرص كبير من العسل. آه، حينها كنت تقولين: «هاهوذا يوم آخر ينقص من أعمارنا!». أم أنك فكّرت على هذا النحو حينما غزا الشيب شعرك؟ الإحتمال الأول هو الأرجح، لأنني لم أرك يوماً تقفين أمام مرآة.

لغتك العربية كانت مذهلة حينما تقرأين قرآنك ذو الأحرف الكبيرة. حروف كبيرة لأن بصرك صار يخذلك، ولم ترق لك فكرة النظارات الطبية. كنت تجلسين على مخدة رقيقة، وأمامك القرآن بصفحاته العريضة مستنداً على حامل خشبي. كنت تشدّين وتكسرين وترفعين وتُسكّنين الأحرف بإعجوبة، لكنك لم تقولي جملة مفيدة واحدة حينما كنت، على نحو نادر، تتواصلين مع بعض الجارات المردليّات أو المحلميّات. سرعان ما كنت تحوّلين إلى الكردية، وهن، بحكم الجيرة والاختلاط والتقارب، كنّ يفهمن ما تقولينه.
كنت أداعبك وأقول أن أصولك أرمنية على الأغلب.
حتى الآن لم أفهم لماذا كنت تجعلين المُذكّر أنثى وبالعكس، وُتدمّرين قواعد لغة القرآن بينما، حين تقرأينه، تقرأينه أفضل من إمام المسجد الكبير.

هل تذكرين الحزن؟ طبعاً تذكرينه، لأنك لم تعرفي الكثير من الفرح. هذا لا يعني أن وجهك كان متجهّماً! أبداً.
كنت حاضرة وفي مكان آخر. لم أرك تضحكين إلا بحضور شقيقتك الصغرى ذات الوجه المغولي المُحمّص بإنعكاس وهج الشمس على الثلوج. كانت دائمة الإبتهاج وتحيل أي أمر بسيط إلى طرفة وحكاية مُسلّية.
وكيف لا تكوني حزينة وأنتِ فقدتِ في ليلة واحدة زوجك وولدين في مقتبل العمر؟ بموتهم ماتت الدنيا من حولك، إلا أن قوّتك جعلتك تلتفّي إلى ما تبقّى من عائلتك وأردتِ أن تظلي أمّاً لهم.
أعرف أنها كانت مهمّة غاية في الصعوبة.

جئتُ مرّة إلى البيت في إحدى أمسيات صيف القامشلي، وكنتم جميعاً تتسامرون في فناء المنزل. في تلك الليلة تناولت الكباب في مطعم كربيس الصيفي، وشربت، لأول مرة، عرق البطّة فتقيأت بعد أن وصلت، بصعوبة، إلى دورة المياه، وملأت رائحة العرق نصف الحيّ. «كيف تسمح لنفسك بالمجئ إلى البيت وقد شربت العرق؟». قلتيها بهدوء. هل تذكرين بماذا أجبتك؟ أنا أتذكر وكأنه كان بالأمس. «كيف عرفتِ إنه عرق؟». أجبتك بقلّة أدب. نعم، أعترف. إلا أنني لم أعرف كيف كان بوسعك تمييز العرق عن البيرة على سبيل المثال!

افترقنا كثيراً بعد أن غدوتُ في مصاف الرجال. الدراسة في دمشق، الخدمة العسكرية، وأخيراً الرحلة الكبرى في أصقاع أوروبا الشمالية.
حينما تركتم القامشلي وأتيتم إلى دمشق كنت أتهيأ للتخرج من الجامعة. بعدها قضيت سنة في القامشلي، ثم سنة اخرى في حلب، لأعود إلى دمشق وأبقى معكم سنتين.
بدا الأمر فوضوياً للغاية، كل هذا التنقل من مكان لآخر.
صحيح أننا قضينا ثلاث سنوات أخيرة في القامشلي قبل أن أرزم حاجياتي وأغادر إلى الدانمارك، ليستقر بك المقام في حلب لدى إبنتك. خلالها أردتِ أداء مناسك الحج فقبلتُ أن أمّول الرحلة، رغم أنني كرهت مسألة أنني أساهم بذلك في دعم صندوق السعودية المالي.
عرفت، أنني بهجرتي، سوف لن يُتاح لنا العيش معاً أبداً.

جئتِ مرّة إلى هذه البلاد القارسة، تماماً قبل أعياد الميلاد، حاملة لنا زجاجة ويسكي في أمتعتك. عجيب، أليس كذلك؟ أنسيت حاملها وناقلها وبائعها وشاربها؟ ما الذي دار برأسك ذاك اليوم؟
كان شتاءً فظيعاً، ووصلت درجات الصقيع إلى دون العشرين تحت الصفر. هل تذكرين ماذا ارتديتِ حينما أردنا الذهاب للمشي في اليوم التالي؟ حذاءً بيتياً مكشوفاً ودون جوارب! «لا يُصلح هذا هنا، ستقتلين نفسك». قلنا لك. اشترينا لك بوطاً محشواً بالفرو وجوارب صوفية، وجعلناك ترتدين سترة سميكة.
آسف، لأن ذلك بدا مضحكاً قليلاً ولم يتناسب مع زيّك التقليدي وغطاء رأسك، كي أكون صادقاً.
ذاك العام تحلقنا جميعاً، بصحبتك أيضاً، حول شجرة الميلاد التي سعى الأطفال إلى تزيينها بالأضواء والشموع والكريات الملونة. كان ذلك طريفاً للغاية.

بعدها بسنوات، التقيت بك في دمشق. ربّاه! كم بدوت متجعدة ومُتضمّرة. لم أكن أعرف أن ما تبقى لك من العمر ليس أكثر من أربع سنوات.
وقبل رحيلك بشهرين شاهدت آخر صورة فوتوغرافية لك. جسدك كان نحيلاً هزيلاً، وعيناك ابتعدتا عن محجريهما عدة سنتيمترات وغابتا وغاب عنهما البريق.
هل أعلنت استسلامك وأردت الإسراع إلى الجنة التي عملت من أجلها معظم سنوات حياتك؟

أيقظني صوت رنين الهاتف صبيحة الخامس والعشرين من آب عام ١٩٩٦، نحو الساعة الخامسة صباحاً، وحينما سمعت صوت أبن اختي عرفت. الخامسة صباحاً هي ساعة الذئب، فيها يموت معظم الناس.
سأعتذر منك مرّة اخرى، فأنا لم أحضر جنازتك، لأن إجراءات الدفن كانت على قدم وساق حالما أغمضت عيناك لأخر مرّة. لا نضع جثث موتانا في البرّادت بل نُسارع إلى مواراتهم في التراب.
يٍُقال أن دفنهم على عجلة تكريم لهم.
سأعتذر أيضاً على تصرفي بعد أن جاءني النبأ، لأنني شربت كأس كونياك ذاك الصباح الباكر، ولم أذرف دمعة. هل تسامحينني؟
سأصرّح لك، لأول مرّة، بسّر احتفظت به إحدى وعشرين سنة. حينما أفقت اليوم الثاني كنت قد حلمت طيلة الليل بك، دون أن أتذكر التفاصيل، فأنا لا أتذكر أحلامي مُطلقاً، لكن وجهي كان مبلّلاً بالدموع، وكذلك مخدتي. أعتقد أنني بكيت طيلة الليل. أحياناً كنت أستيقظ في منتصف الليل وأنا أجهش بالبكاء.
بقي الأمر على هذا النحو لفترة. قلّت الدموع ثم اختفت، إلا أنني استمريت برؤيتك في أحلامي الخالية من التفاصيل.
مازلت أراك في أحلامي بين الحين والحين.

قبل ثلاث سنوات من المقتلة السورية زرت قبرك في ذاك القفر بين حلب وعفرين. لقد أخطأوا بشدة حينما دفنوك هناك. كان يجب أن تُدفني قرب عظام زوجك وإبنيك في مقبرة قدور بك.
إلا أن الطبيعة هناك أجمل، وشاهد قبرك يطلّ على سهل أخضر وأشجار زيتون. وعلى التلة أشجار اخرى ربما تكون أشجار فستق حلب الشهير.
أخذت معي فرشاة ودهاناً أخضر ولوّنت أحرف شاهدك بالخط الفارسي، وهمست لك ببعض الأمور.
تُرى هل تحتاج تلك الأحرف إلى إعادة تلوين الآن؟ هل عبث بعض شذاذ الآفاق بقبرك، كما فعلوا بأضرحة الأولياء والصالحين؟
أنت جديرة أيضاً بلقب وليّة وصالحة، أم يقتصر الأمر على الرجال؟

أعرف أننا اختلفنا في الطريق الذي سلكناه، بالنسبة لك كانت الحياة تافهة فانية، فعزمت الأمر على التعبّد والتقرّب إلى الله، بينما أردت أن أُلهي نفسي بملذات العيش والفرح.
أأنت في الجنة الآن؟ هل هي حقاً حقيقة؟ إن كان الأمر كذلك فأنت من يستحقها، أما أنا فلا. هذا يعني، بمعنى آخر، أننا لن نلتقي بعد أن يسعى أولادي إلى رمي جثتي في فرن كدجاجة مشوية، لأنني سوف أكون من قاطني الجحيم، برفقة الُعصاة وجنرالات الحرب ونجمات السينما المُعربدات.

أمي، لتنعم روحك بالسلام والطمأنينة أينما كنت.



#منير_المجيد (هاشتاغ)       Monir_Almajid#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- السعودية.. مصرع شخص وإصابة 10 آخرين في تصادم 20 مركبة والمرو ...
- شاهد.. مروحية عسكرية تشتعل بعد هبوط اضطراري في كاليفورنيا
- هل الطقوس التي نتشاركها سر العلاقات الدائمة؟
- السعودية: حذرنا ألمانيا من المشتبه به في هجوم ماغديبورغ
- مصر.. البرادعي يعلق على زيارة الوفد الأمريكي لسوريا
- اعتراض ثلاث طائرات أوكرانية مسيرة فوق شبه جزيرة القرم
- RT تعلن نتائج -جائزة خالد الخطيب- الدولية لعام 2024
- الدفاع الصينية: الولايات المتحدة تشجع على الثورات الملونة وت ...
- البابا بعد انتقادات وزير إسرائيلي: الغارات الجوية على غزة وح ...
- -اشتكي لوالدك جو-.. مستخدمو منصة -إكس- يهاجمون زيلينسكي بعد ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - منير المجيد - لا، هذا ليس رثاء يا أمي