|
دمشق - باريس - دمشق
إياد الغفري
الحوار المتمدن-العدد: 6080 - 2018 / 12 / 11 - 01:53
المحور:
كتابات ساخرة
عندما أطاحت الثورة الفرنسية بالملكية في فرنسا... عندما تم اقتحام الباستيل... عندما لونت أصابع نحيلة إعلان حقوق الإنسان والمواطن.... ظن البسطاء أنها خطوة نحو الأفضل. مر أكثر من قرنين وربع على الثورة الفرنسية، سنوات كانت بها فرنسا المثال الأسوأ لحقوق الإنسان والمواطنة. من خال نفسه ذكياً بمقارنة الثورة السورية في بدايتها بالثورة الفرنسية، تناسى مقصلتها والدماء التي غمرت أزقة باريس، وعمل جاهداً لينسى أن فرنسا بعد الثورة لم تكن نبراساً مضيئاً للحريات بل قامت بالتوسع استعمارياً وما الرخاء الفرنسي إلا حصيلة المناجم الأفريقية. **** فرنسا الجمهورية كانت تنافس بريطانيا استعمارياً.... بعد أن قضت على الملكية. من النقاط المشرفة التي تذكر للملكية في فرنسا دعمها لاستقلال أمريكا. فرنسا الملكية كانت منهكة اقتصادياً فحرب السنوات السبع أو ما سمي بحرب الاستقلال الأمريكية تسببت في إفقار فرنسا ووضعها في ظرف مالي سيء كان السبب لنشوب الثورة بعد سنوات قليلة... بالمناسبة فإن "جاتو ماري انطوانيت" ما هو إلا خرافة يفتخر بعض مثقفينا بتداولها. بمقتضى معاهدة باريس سنة 1783 تم الإعلان رسميا عن استقلال الولايات المتحدة الأمريكية وبعد سنوات ست انفجرت الثورة الفرنسية وتم القضاء على الملكية التي لم يعد بإمكانها السيطرة على الجماهير التي أنهكها الفقر والجوع. **** غالباً تكون الثورات ثورات رغيف، ثورات جوع... لا يوجد ثورة للمترفين، ولا تقوم الثورات بسبب الملل.
اليوم فرنسا تتعرض لمخاض ثوري جديد، فرغم كل مظاهر الترف التي تبهر السائح، إلا أن غالبية الشعب يعيش الكفاف.
في باريس الستينات لم تكن هناك ثورة، كان هناك حراك فكري.... حراك كان بإمكانه قيادة ثورة إلا أن الجوع الذي رافق نهاية الحرب العالمية الثانية تراجع بشكل مذهل، فإعادة البناء لم تخلق فرص عمل لمن بقي على قيد الحياة بعد إعلان نصر الحلفاء فحسب؛ بل خلق فرص عمل استقدمت الملايين من الأيدي العاملة التي قدمت من مستعمرات ما نالت استقلالها لاحقاً إلا بشق الأنفس...
الاقتصاد الغربي اعتمد أنظمة للضمان الاجتماعي حلمت بها الشيوعية وفشلت في تنفيذها، الضمان الصحي والاجتماعي الذي أسمع عنه في فرنسا وأعرفه من ألمانيا مسح خط الفقر القادر على القيام بثورة، فبإمكان أي مواطن العيش بكرامة إن قام بتحجيم متطلباته، فالسكن في باريس ليس ممكناً لمن يعيشون على البطالة ومساعدات الدولة، ومن يعمل يمكن له بالإضافة لتأمين القوت اليومي أن ينعم ببعض الرفاهيات، رفاهيات التقنيات الحديثة كالأجهزة المحمولة وارتياد المقاهي.
في سوريا السبعينات كان الحصول على لقمة العيش، المواد التموينية، علبة محارم كنار... نصر مؤزر... كان دخل الفرد كاف لتأمين حاجات الحد الأدنى للحياة البشرية، الهوة بين الفقراء والأغنياء تضخمت... وفي مطلع القرن الحالي، وبسبب من خطوات اقتصادية سمحت بالانفتاح.... بدأ الفقير يدرك فقره، منتجات الاقتصاد الاستهلاكي للعالم الجديد... وسع الهوة، لم تعد علبة محارم وتموين السكر والزيت هي الحاجات الأساسية التي يتوجب تأمينها، بل انتشرت مولات للتسوق... بضائع لم نكن نحلم بوجودها فيما سبق...
**** باريس ما قبل اليورو كانت غالية، كانت المعيشة صعبة، لكن الشكل الاشتراكي للحكم الذي ساعد المعدمين على الحياة بفرنكات قليلة.... تعرض لنكبة اليورو والتضخم المهول للأسعار، لم يعد "الشيك دو جينيه" الذي كان والدي يحصل عليه من رب العمل في التسعينات كاف لوجبة كاملة في بدايات القرن.
اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء تزايد في هذا القرن... لم يعد الجياع جياع خبز فحسب، صار الجوع جوعاً للمواد الاستهلاكية... لرفاهية وسائل التواصل... من الطبيعي أن تقوم ثورات للجياع الجدد، وخصوصاً عندما تجد الأرضية المناسبة لها المترافقة بالتحريض من نخب غبية، وبوجود نظام خصم يعميه غروره عن رؤية الحقيقة... فيصر بتناحة على قمع الأصوات المعارضة.
الشعوب ترفض سياسات الدول التي تؤدي للإفقار، وكافة سياسات الدول تؤدي لإفقار الشعوب... لأن الأثرياء لكي يزدادوا مليونيراً يتوجب أن يخسر الفقراء مليوناً.... عندما يكون الحد الأدنى للمعيشة أعلى من الصدقات التي تؤديها الدولة للعاطلين عن العمل، وعندما يكون دخل العامل أفضل بقليل من دخل العاطل.... فإن القدر تكون قد بدأت بالأزيز الذي سيرافقه فوران وخروج الأمور عن السيطرة. وهذا ما كان في فرنسا ليخلق هذا الحراك.... تَرَاجُعْ الرئيس الفرنسي عن الأسلوب البعثي الذي انتهجه في البداية، وتقديمه التنازلات لن يجدي نفعاً.... فالشارع يفتقد للقيادة... أزمة النخب التي شهدناها في سوريا هي مشكلة احتجاجات فرنسا التي لا أظن أنها ستتوقف. **** في سبعينات وثمانينيات وحتى تسعينيات القرن المنصرم حافظ الخبز على سعره في السوق السورية، كان الخبز متوفراً وبسعر رمزي... كذلك العرق... كان تأمين هاتين السلعتين الأساسيتين لمعيشة الإنسان سبباً في استتباب الأمن والأمان لفترة طويلة.
ما حدث في فرنسا يؤكد أن حيونة الأنظمة ليست حصراً على دول العالم الثالث، وأن الشعوب قادرة على التدمير والرجوع لطبيعتها الحيوانية عندما يقرصها الجوع حتى لو كان يلدغون بالراء.
عندما بدأ سفر الخروج قررت الاستقرار في ألمانيا، الدافع الأهم هو المطر، نصف قرن تحت شموس سوريا كانت كافية لهتك بشرتي وبالكاد نجوت من الإصابة بسرطانات الجلد... بعد أن احتوت ألمانيا أكثر من نصف مليون سوري، تعرضت في هذا العام لإحدى أطول فترات الجفاف منذ بدء تسجيل الطقس..... لم تهطل قطرة مطر واحدة خلال أشهر الصيف، في مدينتي تعتبر أشهر الصيف الأعلى في نسبة الهطولات... نهر الراين انخفض مستواه بحيث صعبت حركة الملاحة فيه، مما أثر على نقل البضائع... من منا كان يتوقع أن يبحث في أكثر من محطة للوقود عما يمون به سيارته فلا يجده... وذلك ليس في دمشق الثورة والصمود بل في دوسلدورف. حاولت أن أبرر لنفسي سبب الجفاف بالتغير المناخي، الاحتباس الحراري، ثقب الأوزون... إلخ.... لكن للأسف فقد اتضحت الحقائق اليوم بعد ثورة السترات الصفراء في باريس... إنها اللعنة السورية، بضع مئات آلاف السوريين تسببوا في جفاف الزرع واحتباس المطر، أيعقل هذا؟؟؟ ليتهم لم يكونوا.... يقولها أحد السكان الأصليين ثم يبصق متطيراً تجنباً للعنة تصيبه من مترجم ما.
البلاس دي إيتالي يمنح شققه الكبيرة لعائلات من نخب السوريين... شقة مساحتها 100 متر هي فيلا يحلم بها أثرياء باريس، ينعم بها من لا يستحقها.... يقول أحد السوريون الذين تكسرت سيقانه من صعود الأدراج: ليتهم لم يكونوا... ثم يستعيذ بالله من الليل والنهار ومن الشدة والحزم، ويحمل التواجد السوري مسؤولية الثورة الفرنسية... **** كسوريين نحن نخال بأننا مركز الكون، فنعتقد أن ما يحدث في فرنسا هو ربيع جديد نقلناه بالعدوى، نعتقد أننا قد علمنا الشعب الفرنسي معنى الثورة. النكات التي أغرقت وسائل التواصل للمقارنة بين أحداث فرنسا والكارثة السورية، لا تدل على روح المرح التي يتمتع بها شعبنا.... بل على السطحية في التفكير وتبلد الأحاسيس الذي وصلنا إليه بعد سبع سنين عجاف من القتل والقتل المضاد **** الطريق إلى دمشق بعد انقشاع غبار المعارك، تأكد النظام من نصره الميداني، الخسارة في العتاد والبنى التحتية... والرجال ليست مؤلمة بقدر ما هي خسارته الأكبر: "فقدان هيبة الدولة البوليسية" تلك التي أسس لها الزعيم، وكسا السراج عظامها لحماً.... دربها ثلاثي الأطباء المرح الذي حكم سوريا عندما منيت بنكستها... ونفخ عضلاتها نظام القائد الخالد الذي لم ينته بموته. يحاول النظام استعادة الهيبة المفقودة بمتابعة المسيرة، ككافة الأنظمة القمعية يتم هذا بذكاء فطري؛ أول ما قامت به الثورات كان إسقاط التماثيل، لذا كانت الخطوة الأولى لإعادة البناء هي تشييد أول ما تدمر.... مؤلم ولكنه منطقي. حيتان الأموال التي أثرت على حساب لقمة عيش المواطن سابقاً... تتقاسم مشاريع إعادة الإعمار ليزداد ثراؤها.
الخطوة الأهم التي ينتظرها النظام هي عودة الخراف الضالة لحظيرة الطاعة، عودة ستختلف من شخصية لأخرى، فثوري ممن يحسب نفسه الآن على الله أيقونة، كان خلال العقد السابق من نخب النظام، الفكرية... التلفزيونية... الصحفية... مثل هذا الكائن تعتبر عودته أهم من عودة مهجري الحرب الأهلية والدمار الذي لا ننزه أحد عن المساهمة به. الخلاف يكمن في مدى تقبل هؤلاء لفكرة العودة "مسير كانوسا"، إن توصل النظام لاتفاق لاستعادتنا من أوربا فستشهد الساحة موجات من العائدين... البعض صار في حضن النظام قبل كتابة هذه السطور، البعض الآخر بدأ بالتفاوض قبل سنة...
ذل مسير كانوسا الذي شهده هنري الرابع، لن يحس به العشرات، لأنهم اعتادوا على مذلات أخرى خلال فترة تطويبهم نخباً في النظام بداية، والاعتراف بهم نخباً ثورية لاحقاً... لن يكون غريغوري السابع شخصياً بانتظار العائدين... ربما سيتولى المهمة عنصر من العناصر الأمنية التي كانت ترعى هذه النخب سابقاً... سيسمح حتى للفيلة أن تعود، لتمارس معارضتها الظلِّية كما كانت تفعل قبل سفر الخروج، عودتهم ستكون النصر الأخير للنظام. المأساة الوحيدة تكمن في أن الضحايا لن يكونوا من ضمن العائدين.
#إياد_الغفري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مطولة تشرينية
-
صف حكي
-
من الفرات إلى النيل خواطر عن دولة إسرائيل الكبرى
-
الحوار المتمدن
-
الظريف والشهم والطماع
-
الثورة العاقلة
-
الإدمان
-
رسائل إلى سميرة (1823)
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|