حسناء الرشيد
الحوار المتمدن-العدد: 6080 - 2018 / 12 / 11 - 00:46
المحور:
الادب والفن
لو لم يكُن قد قام بتذييل قصائد ديوانه ( يا أبي أيها الماء ) بهذا العنوان , لكنتُ تمكنتُ من معرفة أن هذه القصيدة أو تلك هي من ذات المجموعة الشعرية , فيبدو أن الشاعر( أجود مجبل ) , كان قد تعمدَ الإبقاء على الحبل السريِ , بعد ولادة قصائده , فلا يعودُ من الصعب على القارئ لهنَ حينها أن يُدرك أنهنَ نهلنَ من ذات المنهل فعلاً .
كنتُ أراهنُ نفسي أثناء قراءتي أن هذه القصيدة هي من ذلك الديوان , وكنتُ أكسبُ الرهان في كل مرة فكيف لحواسي أن تُخطئ رائحة القصب والبردي , وكيف لها أن لا تتحسس رطوبة الماء وهو يغمرُ كل حروف تلك القصائد فيشعر القارئ بعد انتهاءه من قراءتها بأنهُ قد ارتوى فعلاً بفيض عذوبتها ..
وهو يؤكدُ على هذا الأمر من خلال عناوين القصائد التي تتضمن كلمات مرتبطةً بالماء كالغيوم , البحار وغيرها من التعابير المقاربة ..
فنراه يقول , مثلاً , في مطلع قصيدته ( وطنٌ للغيم والذكرى ) , وكأنهُ يودّ أن يصف نفسه بإيجاز :
لَمْ أدَّخـــرْ
غيرَ طعمِ الريــحِ والمــــــــاءِ
أنا المُقيـــمُ على حُلْــمٍ
أنا الرائـي
وحدي اصطَحَبْتُ دَمي
نحو اكتهالتـهِ
والوقتُ كانَ بقُربي
مَحضَ أشلاءِ
ثم يقوم بالاسترسال في حديثه :
لأنــــــــني وطـــــــــنٌ
مازالَ يســـــــكــنُهُ غيـــــــمٌ تشرَّدَ
لمْ يحـــــــلُمْ بإيـــــــواءِ
الليــــــــلُ في جَسدي
يسقي خســــــائرَهُ
والأرضُ تتلو ضَحاياها بأرجـــائي
ودفتـــــــري هو هذي الريــــحُ
أملؤهــــــا بقامـــتي
وأُسمّـيــــــــها بأسمــــــــــائي
وهو يصف أصدقاءه الذين يدعوهم بــ ( البحاريين ) بقوله :
همُ الذين استفاقوا ذاتَ أغنيــــــــــةٍ
مملـــوءةٍ بالجنـــــــوبيــينَ
والمــــــــــــــــــــاءِ
ليسألوا الطينَ
عن أسرارِ هَيبــــــــتهِ
ويُنفقِوا شمسَهم
في كلِّ ظلمــــــــــــــــاءِ
ثم يستمر في وصفهم :
البحرُ طفلٌ يتيمٌ
ضاعَ من يدِهـــم
لم ينتــسِبْ حزنُه يوماً لآبـــــــــــــــــــــاءِ
ميراثُه حشْدُ غرقى
يسهرونَ على دموعِ برقٍ
على الأبوابِ بكـّـــــــــــــــاءِ
وللحزن وصفهُ الخاص أيضاً :
ونحنُ طقسٌ من الفقدانِ
محتفــــلٌ
إنْ ضاعَ شيءٌ
رثيناهُ بأشيـــــــــــــــاءِ
بنا غُضونُ نواعيرٍ
وأرصفـــــــــــةٍ
وكلُّ ما اسودَّ من صحوٍ
وإغفـــــــــاءِ
ثم يتساءل بنبرة وجع بالغة الألم :
نحنُ المُصابينَ بالأنهارِ
كيف مضَتْ نوارسُ العمْرِ مِنّــا
نحوَ صحــــــــراءِ ؟
وللماء حصته الكبيرة في هذه القصيدة :
عُشبُ المطاراتِ رَطبٌ في حقائبِنا
وتحتَ قُمصانــِنا
وعدٌ بمينـــــــــــــــــاءِ
و ...
وقيلَ
: نحنُ ابتدأنا الماءَ
يامُدُنـــــــــــاً
لم يبــقَ للماءِ فيها
أيُّ أبنــــــــــــــــــــــاءِ
أما في قصيدته ( تفاقمات بحار) , فنحنُ نراه يفتتحها بشيءٍ من التفاؤل الحذر :
سأفتحُ البابَ للأشجارِ مُحتفلاً
وأُقنعُ الشمسَ
كي ترتاحَ في الظلِّ
فالوقتُ أرصفةٌ للبيعِ
فائضةٌ
وفوقَها مُدُنٌ تمشي بلا شكلِ
و .. كم أرثي لهذه الوردة :
في الحقلِ زهرةُ أُوركِيدٍ
يُهَدِّدُها عَصفُ الظلامِ
بَأَنْ لا وقتَ للحقلِ
وهو يكمل حديثه بألمٍ بالغ لا تخفى ملامحهُ على القارئ :
كِتابُ دمعِ الصباحاتِ الّتي سُفِحَتْ
مازالَ يُكتَبُ بالسّكّينِ
والحبْلِ
و يزدادُ الألم ( تفاقماً ) :
في الريحِ ،
داجيةً تلكَ الحشودُ مَشَتْ
تُزاوِلُ العُمْرَ
مِن قُفْلٍ إلى قُفْلِ
لا حُزْنَ في حزنِها
والأرضُ مِنفضَةٌ
وماءُ أنهارِها يحتاجُ للغَسْلِ
وهو لا يكفّ عن وصف الحزن أبداً :
لَدَيَّ بحرٌ بكى غرقاهُ
لي سُفُنٌ
ميناؤها دمعةٌ تَحتجُّ في طفلِ
أما اليأس , فقد صار يحتل المكان الأكبر بين السطور :
أوصَيتُ نافذتي بالريحِ ،
قلتُ لها
: غداً ستُورِقُ هذي الريحُ مِن أجلي
سألْتُ عن عاشقِينَ الليلُ خَضَّبَهُمْ
وعن نساءٍ
تَوارَتْ في دُجى الكُحْلِ
فلمْ أجِدْ غيرَ أنقاضِ الشهورِ
وأيّامٍ تُحاصِرُها تَقطيبةُ السيلِ
(( يالهُ من وصفٍ عظيمٍ فعلاً )) :
لي من سُليمانَ أحزانُ النبيِّ
ولي مِثلُ ابتسامتِه في قريةِ النملِ
وهو يناجي الشهيد ( ميثم التمار) بحديث بالغ التأثير في إحدى قصائده حين يقول في بعض أبياتها :
صليبُكَ يعلو في المواويلِ
نخلةً مُطَهّمةً
من موتِكَ العذْبِ تُعذِقُ
تَدُورُ فراشاتٌ عليكَ طعينةً
وقُرْبكَ
أسرابُ العصافيرِ تُهرَقُ
ثم يستمر في الحديث الموجع والتساؤلات التي يربط فيها بينه وبين العراق بطريقةٍ مؤلمةٍ حقاً :
لأيِّ بِحارٍ لا مدائنَ بعدَها
ستُبحِرُ ؟
والحزنُ العراقيُّ زورقُ
وحيداً تُسمّيكَ الرياحُ
فتنحني على قمرٍ
خلفَ القبائلِ يغرَقُ
بعينيكَ أحزانُ النواعيرِ
جَمَّةٌ
ووحشةُ بابٍ
آخرَ الليلِ يُطرَقُ
يفوحُ سؤالٌ فيكَ
مُذْ كنتَ موجةً
وأسئلةٌ أخرى
بها الفقْدُ يَعلَقُ
وفي القصيدة الكثير من الجوانب والالتقاطات التاريخية المهمة :
هي الكوفةُ الأولى
ومِلءَ تُرابِها طغاةٌ ونُسّاكٌ
عليها تدفّقوا
هنا لمَعَتْ فيها
مرايا نضوبِهم
وما افترقوا في الأرضِ
إلاّ ليلتقوا
هنا اختلفوا
واسّاقطتْ لحظاتُهم
وتحت ضحاها
كم أصابوا وأخفقوا
أما في قصيدته ( زهرة لأبي تمام ) , فهو يصف الشعر بوصفٍ بالغ العذوبة حين يقول :
الشِّعرُ أجملُ ذنبٍ
يــــرفُلـــونَ بــــهِ
تابتْ عن البحرِ أمواجٌ
وما تابـــــــــــوا
ثم يستمر في خطابه لــ ( أبي تمام ) :
لكَ انهماكــــةُ قِدّيــــسٍ بعُزلتِه
وحزْنُ مَنْ رحلــــوا غيـماً
وما آبــــوا
وهل لهُ أن لا يتكلم عن الحزن ؟؟ :
لو مَرَّةً في هزيـعِ الريحِ
جئتَ هـُـنا
حيثُ الرمالُ فمٌ
والليلُ أنخـــــــــابُ
كُنَّا سَكِرْنا
وغنَّينا على وطــــــــنٍ
يَنسى مَنِ احترقوا فيهِ
ومَنْ غـابـوا
تداولَتْ موتَـنـا اليوميَّ أنهُــــــــــرُه
حتى نَمَـتْ بيننا للموتِ
أعشـــابُ
ورغم ما ذُكرَ آنفاً , فهو لا يوصدُ باب التفاؤل أمام ما سيأتي :
مَهما ارتمى شجرُ الرؤيا
بنا حـطـباً
ودارَ حَوْلَ نخيــلِ العُمْرِ حطّـــــــابُ
ستُتقنُ الغضبَ الأبهى
فسائِلُـــهُ
ويعتلي مُوحِشَ الجدرانِ
لَبــــــلابُ
ستستفيقُ على شيءٍ نـــوافذُنا
والأفْقُ حشْدٌ من الآتينَ
صَخّــــابُ
مَهما تحطّمَ عُودٌ
وانحنــــــى وترٌ
غداً سيولَدُ في بغـدادَ زِريـــــــــابُ
وفي قصيدته ( سنابل الحسين ) نرى بين سطور أبياته تلك الروح المُدركة تمام الإدراك لقضيةٍ عظيمة كثُرَ الكلام عنها واختلفت الآراء ولكنهُ مقتنعٌ تمام الاقتناع برأيه :
لكَ الماءُ مَوعدَ عِشقٍ قديمٍ
أَضَأْتَ سَجاياهُ
حتى جرى
أوى الأرجوانُ الوريقُ
إليكَ
وأعطاكَ مِن برقِه أنهُرا
وأثقلَكَ القاتمونَ بُكاءً
وما فَقِهوا
ورْدَكَ الأحمرا
يمُرُّ الربيعُ بآثامِهم
قطيعاً من الشجرِ المُفترى
وعُشباً تَبوَّأهُ القاحلونَ
فلمْ يَكتشفْ وقتَه الأخضرا
والشاعر يعود لمخاطبة الإمام بين الحين والآخر بطريقةٍ غاية في التبجيل والاحترام مع عدم إغفال بعض الإشارات المهمة :
هُنا جَرَّةُ العمْرِ مَولايَ
عطشى
يكادُ بها الحُلْمُ
أنْ يُكسَرا
فكَم ثقَّبَتها الحروبُ
وأقعى بها الماءُ مُنجرِداً
مُقفِرا
وُمنذ تفَرُّطِكَ اللؤلؤيِّ
على لحظةٍ
تُشبِهُ المطرا
وأنتَ تُحرِّضُ زَهرَ النشوبِ
وتُومِئُ للغيمِ كي يَجهرا
ورَغْمَ احتشادِ المُسوخِ عليكَ
رأيتَ مِن الغدِ
ما لا يُرى
فكنتَ دماً لا يُجيدُ الغيابَ
ولمْ ينتسِبْ مَرَّةً للثرى
ويا لهُ من خطابٍ عظيمٍ فعلاً لا ينتهي عن هذا الحدّ فـهو يحاولُ أن يُبيّن حقيقةً ( مضمرةً ) في دواخلنا فعلاً :
وحِينَ أضَعنا البلادَ
وجدناكَ بأعماقِنا وطناً مُضْمَرا
ويستمرُ في انتقالاته المبهرة حتى يختم قصيدتهُ أخيراً وكأنهُ سيبدأُ الكلام من جديدٍ حقاً :
سلامٌ
لأولى خُطاكَ على الرملِ
للآنَ تَستدرِجُ الشجرا
سلامٌ لوجهٍ تَضَوَّعَ
حتى تلاقَتْ على جانبيهِ القُرى
وللرمزية العالية حصتها الكبيرةُ في قصائد شاعرنا وهذا ما نراهُ ماثلاً بوضوحٍ من خلال قراءة أبيات قصائده بصورةٍ عامة , أما في ( شجن التلامذة ) التي يفتتحها برسمِ صورةٍ رائعة ظننتُ حين قرأتها أنهُ سيُسهبُ في وصف مشاعر حبٍ رقيقة بعدها يقول الشاعر :
برَغمِ ارتحالِ الطينِ
والغسقِ الصعْبِ
لنا قمرٌ
يرسو على حزنِه العذْبِ
ولكني اكتشفتُ بعدها أن بعض المقدمات لا تكون بالضرورة مدخلاً مُوضحاً لما بعدها :
فكَمْ موعدٍ
ضاعتْ ملامحُه بنا
كما ضاعَ طيرٌ في المساءِ
عنِ السِّرْبِ
ثم يستمر في رسم لوحته التي يبدو أنها ستكونُ لوحةً موجعةً للروح :
نُفَتّشُ في الجدرانِ
عنْ وهْمِ كُوَّةٍ
ونبحثُ في الأسماءِ
عنْ أيِّما ثُقْبِ
لنشهدَ كيف الصبحُ يولدُ رائعاً
وتعلو شُجيراتٌ
على ضَفَّةِ القلبِ
والحزن لا ينتهي عند هذا الحدّ :
صعِدنا إلى مجدِ الصليبِ
ولمْ نَعُدْ
وهلْ عادَ يوماً صاعدونَ إلى الصلْبِ ؟
على الأرضِ دَوَّنّا قصائدَنا
كما يُدوَّنُ تأريخُ الربيعِ على العُشْبِ
يضيقُ بنا سِجْنٌ
فنرسُمُ سُلَّماً
ونعبُرُ أطفالاً
إلى الشجَنِ الرحْبِ
كتبْنا بهِ
أسماءَنا الخُضْرَ مَرَّةً
فظَلَّتْ
على رَغْمِ المَماحي
بلا شطْبِ
أما ختام القصيدة فلا أظنُ أنهُ سيكونُ ختاماً للحزن , فيبدو أن شاعرنا قادرٌ على العودة للبدايات بأسلوبٍ ملفتٍ للانتباه ومن دون أن يجد صعوبةً في هذا الأمر :
وأوراقُنا
فيها بقيّةُ بُلبُلٍ
يُفتِّشُ في الأنقاضِ
عنْ غُصْنِه الرطْبِ
وها نحنُ جِئنا
والدروبُ ضريرةٌ
نسيرُ على جِسرٍ حزينٍ إلى الشَّيبِ
خُطانا لنا مأوى
وملءَ ثيابِنا تلامذةٌ
ساروا إلى جدولِ الضرْبِ
وهو لم يغفل الحديث عن بعض الشعراء في قصائده ومنهم الشاعر محمود درويش :
هو القمرُ المسافرُ
حين ينسى خسائرَه
ويحتضِنُ النّياما
وحــيداً كالسؤالِ
وفي يديــــــه رصيفٌ للقرنفُلِ
والخُزامى
والحديث لا ينتهي عند هذا الحدّ أبداً , وهل لخيال الشاعر أن ينضب ؟؟
له وطنٌ يَحُــــجُّ لهُ السّـنـوُنو
ويقصدُهُ القَطا
عاماً فعامـــــــا
إذِ الأشـــجارُ تكبَرُ
أرمــــلاتٍ
وتَجري فيه أنهارٌ يتامــــــــى
أتمَّ نُشـــــورَه الارضيَّ فيـــهِ
ورَبّى
في أزقَّتِهِ الغَمامــــــــا
هناكَ تَزوّجَتهُ الريـــحُ يومــــاً
وموجُ البحرِ
بايعَهُ إمامــــــــا
لذا حَلَـــمتْ بهِ سُـفنٌ كثـــــارٌ
وصارَ الماءُ
يُشْبهُهُ تَمامــا
وعن نفسي , فقد تساءلتُ كثيراً وأنا أقرأ هذه القصيدة إن كان يقصدُ أن يصفَ نفسه حين كتب هذه الأبيات أم أن عقلهُ الباطن كان لهُ الدور الأكبر في الحديث الذاتيّ الذي تجسد في هيئة هذه الأبيات ؟؟
مِن السهوِ العظيمِ
أتى وسيماً
وفي أشلاءِ ذاكرةٍ أقاما
له شفَقُ القصيدةِ
إذْ تعرّتْ قُبيلَ الصفرِ
وانسكبَتْ رُخاما
له الزيتونُ
يلثَغُ في المَنافي
ولا أرضٌ تُعلِّمُه الكلاما
أتى يختطُّ زعترَه
ويُلقي على زُوّارِ غيمتِه السلاما
هنا وَجدَتْ لديه الأرضُ
مأوًى
ولاذتْ خلفَه السّدُمُ احتداما
غداً سيُقالُ
: كان فتًى كثيراً
على سِكَكِ الحُدوثِ مشى هُماما
ستندلعُ الفؤوسُ
بكلِّ غصنٍ
وتدّخِرُ البحارُ له خِتاما
#حسناء_الرشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟