|
النبوة الحلقة الثانية
الشيخ إياد الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 6079 - 2018 / 12 / 10 - 21:00
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
النبوة ــــــــــ الحلقة الثانية ـ كنا قد قدمنا للقراء الأعزاء في الحلقة الماضية معنى النبوة ، وقلنا إنها : - معرفة يقينية يحصل عليها بعض الناس عن طريق الوحي - ، وفي هذه الحلقة سنُتابع البحث ونناقش في طبيعة النبي : وهل هو صاحب شريعة وأحكام ( مشرع ) ، أم إنه كما قلنا : - مفسراً للوحي الذي يأتيه من عند الله - ؟ ، والدليل الثابت : - إن طبيعة النبي هي في كونه مفسراً للوحي - ، هذا من الناحية الفعلية ، يتشارك مع ماتذهب إليه المقولة التوراتية في معنى النبي ، إذ ورد في الإصحاح 7 النص 1 من سفر الخروج ، ما نصه : - [ يا موسى قد جعلتك رباً لفرعون وهارون أخيك نبيك ] - ، ومضمون النص يعني : [ إن هارون كان مفسراً لكلام موسى عند فرعون ( أو مترجماً له ) ] ، ويؤيد هذا المعنى ما يقوله الكتاب المجيد قال تعالى : - [ وأخي هارون هو أفصح مني لساناً ، فأرسله معي ردءاً يصدقني ، إني أخاف أن يكذبون ] - القصص 34 ، ولفظ - أخي - في لغة العرب وردت مشتقة من - أخ - المختلف في دلالتها : 1 - بين أن تدل على أن - الأخ - هو الشقيق من جهتي الوالد والوالدة . 2 - وبين أن تدل على أن – الأخ - يكون من جهة الوالد فقط . 3 - وبين أن تدل على أن - الأخ - يكون من جهة الوالدة فقط . 4 - وبين أن يكون معنى - الأخ - دال على القرب من جهة الإيمان والمعتقد والرأي ، قال تعالى : - إنما المؤمنون أخوة – الحجرات 10 ، وقال تعالى : - يا أخت هارون .. – مريم 28 . وبحسب ما تقوله بعض المدونات التاريخية : - إن هارون لم يكن أخ لموسى من والدته ، بل هو أخ له من أبيه - ، ويقولون : - إن والدة هارون كانت من أهل مصر ، وقد توفيت حين كان رضيعاً - ، أي إنها لم تكن يهودية ، وهذا سبب نجاته من القتل والموت الذي كان يتوعد به فرعون كل مولود يُولد من إمرأة يهودية ، ويقولون كذلك : - إن ( أم موسى ) إنما تكفلت برعاية هارون ورضاعته وتربيته - ، وهناك قول أخر يذهب إلى : - إن أم هارون هي نفسها أم موسى ، ولكن هارون كان أكبر من موسى ، ولذلك نجا من الموت الذي كان يتوعد به فرعون ، إذ لم يكن بعد قد نبه فرعون كهنته إلى خطر المولود اليهودي ، بقولهم ( إنه سيولد ) ، أي لم يكن قد ولد بعد .. - . وأما الأم في لغة العرب هي كما الأب لا تعني الوالدة بالضرورة ، فقد تكون - الأم والدة - وقد لا تكون ، كذلك الأب قد يكون والداً وقد لا يكون ، و مفهوم لفظ - الأم - من أم يم أماً وإماماً ، والأم : - هي الراعية والمربية والمديرة - ، ولا يطلق العرب لفظ الأم هكذا على الوالدة ، وقد وضح الكتاب المجيد هذا البيان بقوله : [ ووالد وما ولد ] البلد 3 ، ومن هنا قالوا : - ليس كل والدة أماً ، وليس كل أماً والدة - ، ويدخل في هذا قوله تعالى : - [ يا أبن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي .. ] - طه 94 ، فالأم هنا ليست بمعنى الوالدة بل بمعنى المربية والراعية ، وأما جملة - أفصح مني لساناً - ، ولفظ - أفصح - من الفصاحة وهي الطلاقة والوضوح في البيان ، وإضافة اللسان للدلالة على المعنى المُراد في البيان اللغوي ، وأعترف موسى بذلك دليل على أن هارون كان أدق منه في إيضاح المعلومة وبيانها ، ولهذا أستعان به وطلب أن يكون مساعده ووزيره في مهمته التي كُلف بها قال : - [ وأجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي ] طه 29 - وفي تلبية المطلب قال تعالى : - [ سنشد عضدك بأخيك .. ] القصص 35 ، وعموماً فاللسان في لغة العرب أداة في التوضيح والشرح والبيان ، وجاءت هنا مبالغة في الوصف والتعريف ، بدليل ورود لساناً مبنياً على النصب بصيغة المفعول في إشارة إلى : - أن هارون كان أفصح في لسان المصريين من موسى - ، والسبب معلوم من جهة التاريخ ، فموسى قد خرج مهاجراً من مصر - تلقاء مدين - القصص 22 ، بعد حادثة القتل الشهيرة التي قيل فيها : - [ يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس .. ] - القصص 19 ، إذن فهروبه وهجرته كانت سبباً في أن يكون لسانه أقل فصاحة من هارون ، بسبب البيئة والنشأة والتربية التي أثرت عليه بشكل واضح . ونعود لبيان ما في سفر الخروج ، فنقول : - إن هارون كان نبياً لموسى من حيث إنه المفسر لكلام موسى عند فرعون - ، فالنبوة هنا في هذا السياق تعني هذا المفهوم ، وبحسب المقولة التوارتية فإن : - موسى كان إلهاً لفرعون - ، ومعنى إلهاً هنا أي رباً ، أي إن موسى كان يريد أن يكون المربي والمعلم والمرشد لفرعون ، ويكون هارون هو من يبين ذلك ويشرحه ويترجم معناه ، والرب الصفة هو الأسم الدال على معنى المربي في لغة العرب ( والفرق بين صفة الإله وصفة الرب معلوم ) . وهكذا تقول الترجمة العبرية للفظ ( جالاه نيفا ) ، فالحرف الثالث يجب أن يكون من حروف الوقف ، ولو حذفناه يصبح اللفظ - جالا نيفا - ، وأصله اللغوي - شور فطيم نف - ومعناه الكلام المفسر ، هكذا قال الحبر - سليمان يارشي - في معنى لفظ ( نيفا ) ، وقد خالفه في ذلك - أبن عزرا – حين وجه له ولتفسيره نقداً ، مع إن - أبن عزرا - ربما كان مخطأً ولم يكن في ذلك محقاً ، لنقص واضح في معرفته باللغة العبرية . بقي أن نقول : - إن لفظ نبؤة هي لفظ عام يشمل كل النبؤات - ، في حين ان الكلمات الأخرى تدل على معنى خاص ينطبق بعض منها على نوع معين ، والبعض الآخر على نوع آخر ، وهكذا يُعرف علماء اللغة الأنبياء بالمفسرين لله ، بمعنى إنهم يُفسرون ما يأتي لهم بالوحي من قبل الله ، تقول التوراة البابلية : - إن من يستمع للنبي يصبح نبياً كما أن من يستمع للفيلسوف يصبح فيلسوفاً - ، وإلى ذلك ذهب العلامة الطباطبائي في الميزان ج2 حين قال : - النبي هو من يملك شرف العلم بالله وبما عنده .. - . ولكن هل يختلف النبي عن الرسول ؟ ، نقول : نعم يختلف النبي عن الرسول ، إذ النبي لا يمتلك سلطة على العباد سوى السلطة الروحية والفكرية ( ولهذا فهو إمام دين ) ، وأما الرسول فهو صاحب سلطة على العباد ، بإعتباره حاكماً ومنفذاً للأوامر والنواهي ( ولهذا فهو إمام دنيا ) ، والنبوة والرسالة هي صفات إضافية لهذا الإنسان الذي صار نبياً و رسولاً ، والصفة النبوية أشمل وأعلى رتبة من الصفة الرسولية ، فمن خلال النبوة تتم العلاقة بين الله وبين الناس عن طريق الوحي ، والرسالة هي مشتقة أو قل هي مندكة في النبوة [ من حيث كونها تعبيراً عن الخبر الصادق ] ، والذي يُراد منها معنى البيان والتبليغ والتشريع ، وليس للرسول علم مستقل إذ ما يحصل عليه فمن النبي يكون . والنبي يجب أن يكون معصوماً والرسول كذلك لكن بشرط هنا ، في النقل والتبليغ وكل ما يأتي به من الوحي ، والضبط في ذلك نقرئه بقوله تعالى : - [ وما ينطق عن الهوى ] النجم 3 ، وبقوله تعالى : - [ ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين ] - الحاقة 44 و 45 و 46 ، وفي السياق ذاته أقتضى التوكيد من الله عبر الوحي إلى النبي : - إنه ليس مسموحاً البتة النطق أو الكلام عن الله من قبل الوحي أو من قبل ينقضي الوحي - أي إن المسموح به فقط وفقط هو الكلام من الوحي وبعد إنقضائه وتمامه ، قال تعالى : - [ .. ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه .. ] – طه 114 ، والتأكيد على النبي بإعتباره المخاطب الأول و الذي عليه يتنزل الوحي ، وحين قلنا : - إن النبي ليس آمراً أو ناهياً ، إنما كنا ننظر إلى دوره في الواقع - ، ودور النبي من حيث هو إرشاد وتوجيه إلى ما يأتي به الوحي ، وفي هذا ليس هناك أحكاما أو أوامر تعبدية . ويجري هذا الحكم حتى في مسأئل الحرب و القتال ، وليس صحيحاً ماذهب إليه البعض في فهم المُراد من قوله تعالى : [ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ] – الأنفال 65 ، والتحريض على القتال هو الحث عليه ولا يكون ذلك من النبي إبتداءاً ، إنما يكون في سياق الدفاع في حال تعرض المؤمنين للظلم والإعتداء ، وفي هذا ليس هناك شرطاً واجباً أو معلقاً في أن يكون النبي مؤوسساً للدولة والحكم ، بل إن : - الدفاع هو شيء فطري لا علاقة له بتشكيل الدولة أو غيرها - ، وفي هذا يتساوى الإنسان مع كل الكائنات حين تتعرض للإعتداء فهي تدافع عن نفسها كتعبير فطري ورد فعل طبيعي ، وفي قصة طالوت وداوود مثلاً في عدم وجوب كون النبي هو من يتقدم الصفوف في الحرب ، بل كان النبي داوود تحت أمرة طالوت الملك ، وهكذا يجب أن نفهم دور النبي محمد في تحريضه المؤمنين على القتال ، لأن ذلك كان يجري في نفس السياق ، الذي جاء بعد الأذن الشرعي والسماح بالدفاع والقتال عن المؤمنين . أما الدولة : - فهي مؤوسسة إجتماعية ، أو قل هي شأن إجتماعي يصنعه الناس لحاجاتهم إليها في الإدارة والأمن والنظام والقانون - ، وإدارة هذه المؤوسسة من مهام الحاكم الدنيوي والذي هو هنا ( الرسول أو الإمام ) ، ومنه وردت الصيغة القائلة : - [ إني جاعلك للناس إماما .. ] البقرة 124 ، أي جعلتك حاكماً عليهم ، والحكم جاء لا حقاً بعد النبوة ، إذ إن إبراهيم كان نبياً قبل أن يكون رسولاً أو إماماً ، ومعنى كان في السياق هو القيد المرتبط بشؤون الناس وما يلزم في إدارتهم ، ثم إن النبي محمد لم يشكل دولة بالمعنى الذي نفهمه في المدينة ، إنما كان يُنظم شؤون الدعوة والجماعة المؤمنة به . وأما ماذهب إليه البعض من الكتاب في هذه المسألة فليس على ما ينبغي بل هو مردود حتماً ، لأنه لا يستقيم و معنى النبوة ولا يستقيم ومعنى القتال في الكتاب المجيد ، فالكتاب المجيد حدد بشكل واضح طبيعة القتال في الدفاع ورفع الظلم من على الناس ، ولم يشرع القتال على نحو الإبتداء معتبراً ذلك تعدِ وظلم صريح ممنوع ، فالقتال الممنوع هو الإبتداء بالحرب على الغير من غير ظلم منهم أو تعد ، و لم يأمر النبي بذلك ولا حتى الرسول ، وأما القتال المسموح به شرعاً فهو القتال من أجل الدفاع وردع المعتدي والظالم ، وهذا القتال لا يحتاج الأمر به لدولة أو نظام حكم ، بل يحتاج إلى مجوز شرعي وقد ورد ذلك كما يظهر بقوله تعالى : - [ أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير .. ] - الحج 39 ، إذن فالقتال المسموح والمأذون به شرعاً يكون من أجل رفع الظلم والتعدي ، وقد مر في كتابنا ( الجها في الإسلام ) : - إن الأمر بالقتال من جهة المولى إرشاديا و ليس تعبديا - ، إنما كان مرتبطاً بمصلحة الناس و الوجود العام . ولكن هل النبوة أعم من الرسالة ؟ ، والجواب : نعم النبوة أعم من الرسالة وهي جزء منها ، ومعنى أعم يعني أشمل فكل رسول هو نبي في الأصل ، وصفة المبالغة هنا تفيد ما يدل عليه المعنى في الواقع ، من حيث السعة والإيمان والمساحة ولغة الخطاب ، وهذه لا تتحدد بزمان أو مكان معينين ، ولا بقوم أو طائفة أو ملة بعينها ، بل هي للجميع ، والإيمان بقوانينها وبخطابها للعموم ولا يخالف في ذلك إلاَّ جاهل ، إذ لا أحد في الكون يُنكر طبيعة الليل والنهار وتعاقبهما وهكذا في كل القوانين الكونية ، وليس من شرط يلزم إن يكون إتباع هذه القوانين أو الإيمان بها إيمان بنبي معين . ثم إن النبوة كما قلنا سابقة للرسالة ، فلا يكون الرسول رسولاً إذا لم يكن نبياً ، وليس بالضرورة ان يكون كل نبياً رسولاً ، وقوانين النبوة مطلقة وليس هي كما قوانين الرسالة مقيدة في الزمان والمكان والقوم والجماعة التي تؤمن بهذا النبي رسولاً ، وسواء أكان النبي أو الرسول فهما ليسا صاحبي التشريع ، فالنبي هو المكلف بالإرشاد إلى الأمر المولوي ، أما الرسول فهو المكلف بتنفيذ الأمر المولوي ، وصاحب الأمر هو الله والتشريع جزئية تتعلق بتنظيم حياة مجتمع ما يكون قد آمن بهذا النبي رسولاً من عند الله ، ويعني هذا إبطال القول : بأن الرسول هو صاحب التشريع ، حتى ذهب قوم للقول : بأن حرام محمد حرام إلى يوم القيامة وحلاله حلال إلى يوم القيامة ، معتبرين التحليل والتحريم من شؤونات فعل محمد الرسول وأمره ، والحق إن محمداً ليس سوى منفذ لهذه الأحكام ومشيرا إليها ، فالحرمة والحلية ليست من صنع محمد الرسول إنما هو تابعا ومرشدا ومنفذا وخاضعا لها كذلك ، ولكن هذه التشريعات حين تُنسب إليه فمن باب علمه بها والأمر متوجه إليه على نحو مباشر ، ولا بد من الإعتراف إن أصل الأمر الإرشادي فيه عموم وإطلاق ، لا كون الأمر منه بما هو بالذات لأنه لا يأمر بشيء يكون غير مأمور به من قبل المولى . وهذا القول يخص الأحكام الشرعية المنصوصة ، وحين يقول لنا : - [ ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا ] – الحشر 7 ، وما مطلقة بمعنى الذي يأتيكم به الرسول من عند الله من أمر أو نهي ، فيجب الإمتثال إليه وإطاعته ، والكلام هنا في مجال التشريعات وقيد الرسول يخرج النبي من صلاحية الأمر والنهي الدنيوي ، أي إن الرسول هو الحاكم الدنيوي وهنا يكون من صلاحيته الإجتهاد في الإحكام بما يتناسب وحاجة الناس ، وفعل الإجتهاد ممنوع على النبي لا من جهة التقييد أو التخصيص ، والرسول هو المجتهد بعنوان كونه الملتصق بحاجات الناس على نحو مباشر ، أما النبي فدوره يتعلق بالجانب العقلي والفكري المحض ، والرسول يكون دائماً في مقام تفصيل الحكم على الحوادث المعينة ، من حيث كونه حاكماً دنيوياً ولهذا ورد : - أطيعوا الرسول ... - النساء 59 ، ولم يرد : ( أطيعوا النبي ) ، فالنبي لا يقدم قوانين للمجتمع تخص معاشهم وحياتهم اليومية ، ولكن الرسول هو من يقوم بتنفيذ وتقديم هذه القوانين للحياة والمجتمع ، ولا علاقة للإجتهاد بمعنى قوله : ( وما ينطق عن الهوى ) النجم 3 ، فالرسول في إجتهاده إنما يستخدم بُنات أفكاره وما يرتبط بالواقع ، ولا دخل للوحي في ذلك ، وصفتي النبوة والرسالة هما صفتان زائدتان كما قلنا وتتعلقان بالوحي وترتبطان به ولا تتعديان إلى غيره . ومادمنا نبحث في جدلية النبوة والرسالة ، فقد طرح لنا الكتاب المجيد موضوعة المحكم والمتشابه كموضوعة تحتوي الكتاب وتشير إلى معنى النبوة والرسالة ، قال تعالى : - [ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُن أم الكتاب وأُخر متشابهات .. ] - آل عمران 7 ، ولفظ - أنزل - بمعنى جعل ، ولفظ - عليك - بمعنى إليك ، والجملة الخبرية في محل بيان طبيعة الكتاب وما يحتويه ، ويفصل فيقول : - إن في الكتاب ( أيات محكمات ) ، ولفظ - آيات - جمع آيه ودلالتها على الشيء الغير مألوف ، والمُراد إن الذي جاءتت به لم يكن مألوفاً ، وأما - محكمات - جمع محكم من أحكم الشيء أي شد وثاقه وأتقنه قالت العرب ، وكل شيء يوصف بالمحكم فيعني هو ذلك - الشيء المتقن - الذي لا خلل فيه ولا ضعه ، سواء من حيث الصنع والتركيب أو من حيث الدلالة والبيان ، وأما المحكم في عند الأصولي فهو : 1 - : - ما عُرف معناه ، من غير حاجة لوسيلة إيضاح - . 2 - : - ما لا يحتمل إلاَّ وجهاً واحداً - . 3 - : - ما أستقل بنفسه ، ولم يحتج إلى ما يدل عليه - . والنص المتقدم قال في - وصف الكتاب - : بأن فيه آيات محكمات ، وقد أطلق على هذه المحكمات صفة - أم الكتاب - ، والأم : كما نعرفها هي الأصل أو الحاضنة والمتقدمة على غيرها ، وهكذا تكون - المحكمات - هُنَّ أصل الكتاب وحاضنته والمتقدمات على غيرهن ، وكأن المُراد بهذا الوصف القول : - إن الأصل في الكتاب أن يكون محكماً بيناً واضحاً - . وفي مقابل هذا : تكون الأُخر ( متشابهات ) ، بصيغة المنكر للدلالة على الخلط وعدم التمييز والضمير يعود على الآيات ، والمتشابه : من الأشياء في لغة العرب أصله من الشبه والتشابه ، الذي يختلط فيه الأمر على من ليس مؤهلاً ، والمتشابه من الأفعال هو ما يقود للخلط والتشويه وعدم الدقة والوضوح ، والمتشابه في الآيات هي ما أستأثر الله بعلمها وبما تؤول إليه وتنتهي - . والتقابل الموضوعي بين المحكم والمتشابه ، هو تقابل بين موضوعات النبوة و موضوعات الرسالة ، ونقول : : وموضوعات النبوة تمثل المُتشابه من الآيات وتعنيه ، والتي تحتاج في فهمها إلى إدراك و إمعان نظر و تدبر ، لأنها في الغالب العام مسائل ومباحث علمية وعقلية وفكرية ، ولذلك جعل الله العلم بها يحتاج إلى تأويل ، والتأويل : أصله من آل بمعنى ما تؤول إليه معرفة الأشياء وتنتهي وهذه من خواص علم الله ، ثم جعل - الراسخون في العلم - مؤيدين وممضين على صحة تلك المآلات وتلك النهايات ، وفق هذا النص : - [ يقولون آمنا به كل من عند ربنا ] آل عمران 7 ، والراسخون في العلم : - هي صفة تمييز وإختصاص في العلم الحياتي والكوني ، والفقه ومبباحثه لا تدخل في هذا الحيز ، وأما إطلاق لفظ الراسخ في العلم على الإنسان هو من باب التأكيد والتوكيد على علو كعب هذا الإنسان في مجال إختصاصه العلمي والعقلي ، وكما قلنا : يخرج من هذا الوصف كل رجال الدين وحتى الفقهاء منهم ، ذلك إن مجال عمل الفقيه هو ليس العلم المحض بل هو في بيان إنطباق الحكم على الموضوع ، ومادة الحكم متوفرة وبكثافة في الكتاب المجيد ، قال تعالى : - [ .. فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين .. ] - التوبة 122 ، والكلام في النص عن معنى التعرف على أحكام الدين ثم العمل بها ونشرها في الحيز والمكان الذي يتحركون فيه ، وهذا العمل لا يدخل البتة في مجال البحث العلمي أو في دائرة الراسخون في العلم . وأما المُحكم من الآيات فهي موضوعات الرسالة ، والتي تضم في العادة مسائل حياتية وإجتماعية وقانونية ، تواجه المجتمع والناس كل يوم ، ولا تحتاج هذه الموضوعات إلى تأويل بل تحتاج إلى فهم وشرح وبيان للمعاني لمن تعوزه معرفة ذلك ، وكما إن هذه الموضوعات لا تحتاج إلى تأويل كذلك هي لا تحتاج إلى - راسخين في العلم - بل تحتاج إلى رجال دين وفقهاء كما أكدت على ذلك سورة التوبة النص 122 . و طبيعة فعل الرسول وعمله يكون في دائرة المحكم من الآيات والنصوص ، وهذه الدائرة عبارة عن قوانين وتشريعات في الأمر والنهي ، وهي لا تحتاج إلى تأويل بقدر ما تحتاج إلى جعل الحكم منطبقاً على موضوعه ، وبيان المفهوم و المصداق على أساس المناسبة بينهما حكماً وموضوعاً ، وأما ساحة فعل النبي وعمله فتكون في المتشابه من الآيات ، وهذه الساحة تحتاج إلى البحث والنظر والتدبر ( التأويل ) ، وبين التفسير والتأويل فارق مفاهيمي في اللغة وفي التعاطي والفهم ، لكن ما تقتضيه الضرورة والحاجة جعل بينهما تعاون وإشتراك ، في بعض المعاني وما يتطلبه التأويل ، فالوصول إلى الغاية لاتتم من دون معرفة معاني الموضوعات ، لذلك ومن هذا الباب أقتضى التلازم والتعاون والإشتراك ، وبقي أن نقول : - إن موضوعات الكتاب تنقسم بحسب الدلالة والمعنى إلى موضوعات شرطية أو موضوعات مطلقة : والشرطية : هي تلك الوسائل أو الوسيلة التي بها نصل أو نتعرف على الشيء الآخر أو إليه . والمطلقة : هي تلك الموضوعات المستقلة بذاتها والتي لا تحتاج إلى غيرها . لذلك قيل : - [ النصوص الشرطية هي تلك النصوص التي تعبر عن الفعل حين يكون مُريداً لغيره ، وأما النصوص المطلقة فهي تلك النصوص التي تعبر عن الفعل الضروري في ذاته ] ، قال الأصولي : - والمطلق هو ذلك الفعل الذي يكون جازماً أو قاطعاً في حال لم يرد التقييد فيه - . ولكن هل الرسول في مقام التشريع منزه عن الشك والترديد في الأحكام ؟ ، ولكن ما المُراد بالحكم الترديدي ؟ ، الحكم أو الأحكام الترديدية : هي الأحكام القلقة والقابلة للنفي والإثبات ، وهو غير الأحكام الإيجابية والتي يكون فيها النفي والإثبات من الأمور الواقعية ، وهي غير الأحكام البرهانية كذلك والتي يكون فيها النفي والإثبات من الأمور الضرورية . ومادمنا نعتبر النبوة والرسالة صفات إضافية زائدة ، فهذا يعني إن الأصل الأولي للنبي والرسول - إنه كائن بشري - ، وهذا الأصل من صفاته الشك والترديد في الأحكام وفي الموضوعات التي تقابله ، وفي هذا الأصل الأولي لا يكون منزهاً أو معصوماً ، والكتاب المجيد أعتبر هذا الأصل من الملازمات و الخصائص التي يتميز بها ، ولأنه كذلك فهو يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق ويتزوج ويتناسل ، قال تعالى : - [ وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق .. ] - الفرقان 25 ، وقال تعالى : - [ وما أرسلنا قبلك إلاَّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كتنم لا تعلمون * وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ] – النساء 7 ، 8 ، والذي يميز النبي أو الرسول عن غيره هو في ( الإصطفاء ) ، والذي به يكون قدوة لكل من أراد أو يريد لنفسه خيراً ، قال تعالى : - [ أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة .. أولئك الذين هدى الله .. فبهدآهم إقتده ] – الأنعام 89 ، 90 ، ولم يفت الكتاب المجيد : أن يُنبه إلى تلك الحقيقة ، كون الذي أتى به الأنبياء والرسل يستعصي على باقي البشر أن يأتوا بمثله ، ولكن هذه الخاصية لا يجوز أن نجعلها الحجة التي ننزع فيها عن النبي أو الرسول طبيعته البشرية ، قال تعالى : - [ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاَّ بإذن الله ] – الرعد 38 و غافر 78 ، وأما دعوى البعض في أن النبي أو الرسول له صلاحية التشريع في الأمر والنهي ، فهذه الدعوى مردودة بدليل التكليف المنوط به جميع المكلفين وهو واحد منهم في هذا ، قال تعالى : - [ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات وأعملوا صالحاً إنني بما تعملون عليم ] – المؤمنون 51 . يبين الكتاب المجيد للطابع الإجتماعي لموضوعة التشريع ، معتبراً مايقره المجتمع و يعتبره المجتمع ملائماً وطبيعياً له ، هو تشريع ملزم ما دام لا يخل بوحدة النظام والمجتمع ، لذلك أقر الكتاب هذا المبدأ وأمضاه ، من خلال النص التالي قال : - [ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ] - الأعراف 199 ، ومفهوم العرف مفهوماً نسبياً ومن محدداته الثقافة واللغة والعادات والأعراف ، وهذه المحددات متغيرة في الزمان والمكان تبعاً لتغير الظروف والأحوال ، وهذه أحدى مزايا التشريع من حيث كونه خاضعاً لطبيعة الظروف والأحوال ، بإستثناء مسألتي - الحلال والحرام - التي حددهما الكتاب بدقة ، ولم يسمح ولم يجز لأحد إطلاق لفظيهما ومعناهما على أي شيء لم يذكرانه ، وهذا يعني إن الرسالة هي مفهوم إجتماعي ينبثق من وعي وحاجة الناس ومن ضرورتهم للعيش . لكن النبوة ليست كذلك ، فهي لا تخضع لهذا القيد ولا تُلزم نفسها به ، لأن مدآها أوسع ومعانيها لا تتحدد بالأعراف المكانية والزمانية ، والإيمان بها حتمي أو هو قريب من ذلك ، لكن الإيمان بالرسالة : هو إيمان محدد ، بالرسول الذي يؤمنون به أو بكونهم يعيشون في ظلال حكمه وتشريعه ، ولهذه الطبيعة جعل الله الرسول واحداً من وسط المجتمع الذي يعيش به ويتحدث بلسانه ، قال تعالى : - [ وما أرسلنا من رسول إلاَّ بلسان قومه .. ] - إبراهيم 4 ، وهذا القيد ليس شرطاً في النبوة ، لأن ما يقصده النبي وما يطلبه ليس تعاليم وأحكام تشريعية من وأوامر ونوآه ، بل الذي يطلبه ويريده هو تحريك وتحفيز العقل لتحليل الكون والطبيعة ، هو إذن يُركز على المبادئ والأفكار ، وهذا هو لسان حاله ، ولهذا لم يشر الله إلى ذلك كونه من باب تحصيل الحاصل . يتبين مما تقدم : إن النبوة هي تلك المعرفة أو ذلك الدليل على المعرفة بالقوانين الكلية للطبيعة والكون ، ولهذا تقلصت أو إنعدمت أخبار النبوة في تراث المسلمين ، وأما الغالب العام فهو أخبار الرسالة ولهذا اٍسباب لا مجال لسردها هنا ، ولهذا فقد توهم عامة رجال الدين ، في إعتبار صحة إسلام المرء بشهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله ، وهذا منهم وهم كبير لأن الإسلام هو : - إيمان بالله الواحد الأحد ، والإيمان بالغيب ، والعمل الصالح - ، وهذه الثلاثية لآزمة في إيمان الرسول كما هي لازمة في إيمان عامة الناس ، قال تعالى : - [ إن الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والنصارى ، والصابئين ، - من آمن بالله ، واليوم الآخر ، وعمل صالحاً - ، فلهم أجرهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] – البقرة 62 ، وهذا هو المعيار ، وهذا هو الميزان في إسلام المرء أي مرء دون النظر إلى لونه ولغته وقوميته ودينه ، وفي هذا لا يشترط : - شهادة أن محمداً رسول الله - ، لأنها زائدة في المقام ... آية الله الشيخ إياد الركابي 3 ربيع الآخر 1440 الحلقة الثانية
#الشيخ_إياد_الركابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المفهوم الإفتراضي لمعنى قوله تعالى : [ فلا أقسمُ بالخنس ، ال
...
-
تداعيات النص 40 من سورة التوبة
-
المعجزة والتاريخ
-
السُنة التاريخية و السُنة الطبيعية
-
هل التاريخ يُعيد نفسه ؟
-
ما الفرق بين بكة ومكة
-
قول : ( في نسبية مفهومي الجنة والنار )
-
خرافة عالم البرزخ
-
- الخلل المفاهيمي في لغة النص : - القلب ، الفؤاد ، العقل ..
...
-
في معنى قوله تعالى : [ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ولكن
...
-
إشكالية الحكم في الإسلام
-
تحرير العقل المسلم
-
الإسلام والتشيع جدل اللفظ والمعنى
-
السنٌة والشيعة ... إشكالية المفهوم والدلالة
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|