أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافع الصفار - إنتفاضة















المزيد.....

إنتفاضة


رافع الصفار

الحوار المتمدن-العدد: 1518 - 2006 / 4 / 12 - 11:22
المحور: الادب والفن
    


كان ذلك في أحد أيام آذار الدافئة. خرجتُ إلى باب المشهد أبحث عن بطاريات لجهاز الراديو الصغير الذي كان وسيلة اتصالنا الوحيدة بالعالم الخارجي، وخافض حرارة لإبنتي التي ظلت تتلظى في لهيب الحمى طوال ساعات الليل الطويل. أفرغت جيوبي من أجل الاثنين وبضعة برتقالات ذابلة شددت زوجتي عليها كي تصنع منها عصيرا للطفلة المريضة.

ليلة أمس لم أنم أيضا، في الواقع لم أعد أنام ليلا منذ بدأت حرب الطائرات اللعينة، فأنتظرها حتى تأتي عند الفجر وتنهي قصفها الذي قد يكون بعيدا فأصغي لأصوات الإنفجارات المتتالية محاولا تحديد بعدها وموقعها، وقد يكون قريبا فتتعلق أنفاسي بهزات البيت وجدرانه والشبابيك والزجاج، فتتشنج عضلات رقبتي، وأغمض عيني في انتظار أن تسقط القذيفة التالية فوق سقف المنزل، حتى يطبق السكون على الأشياء ثانية، فأرتخي وأنا أزفر فزعي تدريجيا لأدخل في اللحظات التالية في إغفاءة قلقة متقطعة.

صرت لا أنام في الليل حتى بعد أن توقف القصف وأعلنت الهدنة وانتهت الحرب. ما عدت أعرف طريقي إلى عتمة الهدوء، إلا بعد أن تنقضي ساعات الليل الطويل ويأتي الفجر فأغفو قليلا لأصحو بعدها مفزوعا على صوت ما في الخارج.

حالما تحل الظلمة أشعل الشموع وأقوم بتوزيعها في أرجاء البيت، واحدة في الحمام وأخرى في المطبخ وثالثة في الكيليدور، ثم أضيء الفانوس وأضعه على طاولة في ركن من غرفة الجلوس، حيث أباشر بعدها بإعداد الخبز للعشاء. أضع طاسة البناء المعدنية، والتي كنت اشتريتها لهذا الغرض، بالمقلوب على صوبة علاء الدين وأتركها حتى تسخن تماما. عندها تجلب ابنتي ذات السنوات الست العجين من المطبخ والمعد سلفا من طحين بطاقة التموين الذي يحتوي كل شيء من الغرائب والعجائب إلا الطحين كما يقول البعض متهكما. وأقرفص على ركبتي قبالة الصوبة وتجلس ابنتي قبالتي تراقبني بإعجاب، وأبدأ بفتح قطع العجين، التي كنت أتناولها بين أصابعي، على هيئة أقراص دائما ما تأتي مشوهة الأطراف، رغم الجهد الذي أبذله والبراعة التي أبديها كي تكون دائرية دون جدوى.

ليلة أمس سكت الراديو فجأة فانقطع تواصلي بالعالم، ولم أسمع شيئا من أخبار الدنيا. جربت أن أعيد الحياة إلى البطاريات المنهكة المبعَّجة بكل الوسائل والأساليب البدائية الممكنة والمبتكرة حديثا وقديما لكن جهاز الراديو رفض الكلام والتزم الصمت بإصرار وعناد غريبين. لم يبق أمامي من بدائل في استهلاك ساعات الليل سوى القراءة والاسترسال في مسلسل الأحلام.

لكني وأثناء إعدادي للخبز انتبهت إلى أن طفلتي لم تكن على ما يرام. كانت محمرة الوجه نزقة وتتأوه. سألتها ماذا بها، فأجابتني وهي تسعل:

- راسي يوجعني.

وعندما وضعت كفي على جبينها اكتشفت بأنها كانت تغلي كالفرن. صرخت بالأم وقد طار صوابي:

_ هل لدينا خافض حرارة؟

خرجتْ من المطبخ، وعند بابه أجابتني قائلة:

- طلبت منك أكثر من مرة أن تشتري خافض حرارة، لكنك لم تكن تأبه.

لم أرد عليها، لأنني كنت أعرف مسبقا ماذا ستكون النتيجة، كما أن الوضع لم يكن يحتمل أية مشاحنات أو مصادمات. كان كلانا متعب تماما، بعد ما يقرب من شهرين من الحصار داخل بوتقة الفزع والرعب والجنون، فالتفت إلى طفلتي كي أتدبر أمرها.
وبدلا من التواصل مع صفحات (العامل البشري)*، فتحت صفحة الألم في جسد ابنتي كي أمتص وجعها عبر كمادات الماء البارد. ولم التفت لأحد غيرها. بقيت مكرَّسا لها عقلا وقلبا وجسدا طوال ساعات الليل حتى انبلاج الفجر. تسربت مني قواي وهدني الإعياء وأنا أواصل دون كلل تغيير الكمادات، فوضعت رأسي إلى جانب رأسها المتوجع على المخدة الصغيرة واستسلمت صاغرا مقهورا للنوم...

حالما وضعت البرتقالات الذابلة والبطاريات وخافض الحرارة في كيس واحد تهيأت للعودة سريعا إلى البيت من أجل أن تأخذ ابنتي الدواء، والتي تركتها معصوبة الرأس تنظر حولها بعينين كسيرتين، لعلها تستعيد سريعا شيئا من توقدها وحيويتها.

كنت واقفا تحت جدارية القائد التي تتصدر مدخل حديقة الجبل، أتلفت حولي أبحث عن وسيلة نقل يمكن أن تأخذني إلى البيت، عندما توقف زيل عسكري قريبا مني وهبط منه جندي. تحرك الزيل مبتعدا، وظل الجندي في موضعه يتلفت حوله. ملابسه العسكرية بقايا أسمال ممزقة. حاسر الرأس، منفوش الشعر، طويل اللحية، وجهه مسود ومبقع. وكان حافيا، وقدماه متورمتان. وعندما تقدم خطوتين على الرصيف نحوي، مشى على جانبي القدمين كالأفحج.

كنا متقابلين، وخلفي ينتصب قائدنا المنصور بكل جبروته ملوحا للجمع الذي راح يتحلق حولنا. كنت أنظر إليه مذهولا، والفجيعة تتكور لتمسك بقلبي وتعتصره.

ولم يكن ينظر إلى شيء محدد. كان ضائعا. دنا منه أحد الشباب يريد أن يسنده، فدفعه بذراعه، ثم صاح بصوت كان أشبه بالحشرجة:

- لم أسقط بعد كي تسندني. ألا ترى بأنني ما أزال واقفا.

صرخت امرأة تتلفع بالسواد، وكان صراخها بكاء:

- لن تسقط، لا والله لن تسقط...ابن الملحة لن يسقط....
رفع الجندي رأسه فالتقت عيناه الكليلتين بوجه قائده المنصور. عندها تشنجت قسمات وجهه وصرخ منتفضا وهو ينبش الهواء بذراعيه:

- أسقطوه، أسقطوه..لا تدعوه هناك..أسقطوا المجرم..أسقطوا المجرم..

سرت همهمات مكتومة بين الرؤوس التي اكتظت حولنا، وما عدت أرى سوى وجوها تغلي وتزفر غضبا. عاد الجندي ليصرخ ثانية وهو يقذف ذراعه بوجه قائده:

- أسقطوه،...لا تتركوه واقفا، أسقطوه قبل يأتي عليكم جميعا....

عندها صاح أحدهم بصوت مرتعش متوجس.. كأنه يزيح جبلا عن صدره:

- يسقط.....

كان الصدى أصواتا راحت تخرج من الأفواه خائفة خافتة...

- يسقط...يسقط...يسقط...

أخذ الصوت يتناغم ويعلو...

أطلقت المرأة المتلفعة بالسواد زغرودة، فتعالى الصراخ..

- يسقط المجرم...يسقط الطاغية...

عندها انطلقت الزغاريد من كل مكان كأنها أسراب حمام تخفق فوق رؤوس الرجال، وارتفعت الأذرع تضرب في الهواء. تحول الحشد إلى بحر يموج...

- يسقط المجرم...يسقط الطاغية...

وظهرت في الأفق بيارق حمراء وسوداء وخضراء تخفق في الفضاء...

- الله اكبر...الله أكبر...الموت للطاغية...

وانطلق الرصاص يلعلع في الهواء...و...ليرسم ثقوبا سوداء في وجه القائد المنصور....

صرتُ جزءا من البحر المتلاطم..كأني موجة فيه تعلو وتهبط مع الآخرين...

فاندفعت... أطلق صوتي ورأسي وذراعيَّ.. وكيس الدواء.. عاليا في الفضاء....



أبو ظبي 22 / 03 2006

______________________________________
*(العامل البشري) رواية للكاتب الانجليزي غراهام غرين



#رافع_الصفار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق بعيون أجاثا كريستي - 3
- العراق بعيون اجاثا كريستي - 2
- العراق بعيون أجاثا كريستي - 1
- عندما تصطادني الكلمات - 6
- عندما تصطادني الكلمات - 5
- عندما تصطادني الكلمات - 4
- عندما تصطادني الكلمات - 3
- عندما تصطادني الكلمات - 2
- عندما تصطادني الكلمات
- حالة تمرد


المزيد.....




- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافع الصفار - إنتفاضة