|
قراءة في النموذج الثقافي التونسي (الماضي و الحاضر)
بلال المزوغي
الحوار المتمدن-العدد: 6072 - 2018 / 12 / 3 - 05:24
المحور:
الادب والفن
في بداية هذ المقال ، سنقوم بتحدبد مفهوم الثقافة و ذلك بالرجوع إلى التعريف التايلوري الشهير لهذا المفهوم في كتابه الثقافة البدائية سنة 1871 حيث أكد على أن " الثقافة أو الحضارة بالمعنى الأثنوغرافي الواسع هي المجموعة المعقدة التي تشمل المعارف و المعتقدات والفن والقانون والأخلاق و التقاليد وكل العادات التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع ما"( 1) . و يمكن أعتبار هذا التعريف يندرج ضمن التعريفات الرسمية التي أعتمدت لدى المنظمات الدولية ، و خاصة منها اليونسكو. كما يمكن تعريف هذا المفهوم أنطلاقا من التعريف الذي قدمه محمد عابد الجابري في كتاب المسألة الثقافية عند قوله بأن الثقافة هي " مركب متجانس من الذكريات و التصورات والقيم و الرموز و التعبيرات و الإبداعات "( 2) . تتفق هذه التعريفات في مجملها على أن الثقافة هي كل ما يكتسبه الفرد من عادات و تقاليد و نظم أنطلاقا من علاقاته و تفاعلاته داخل الكل الأجتماعي ، وهي أيضا الذاكرة و الروح الجماعية التي تميز مجتمع معين على غيره من المجتمعات أي بأختصار كما سماها ليفي ستراوس "كل ما ينضاف على الطبيعة ". و أنطلاقا من هذه التعريفات النظرية يمكن أن نستخلص بأن لا يوجد شعب دون ثقافة ، و أنها غيابها يؤدي بالضرورة إلى حالة من فقدان هذا الشعب لوجوده داخل العالم و التاريخ . لكن يبقى السؤال كيف تحافظ الشعوب على ثقافتها خاصة في ظل تنامي سؤال الهوية و تمدد الحركات الأصولية ، ؟ إلى اي مدى نجح النموذج التونسي في بناء ثقافة وطنية أنخرط فيها الشعب؟ و ماذا تبقى لنا من تمثلات هذه الثقافة الآن ، خاصة في ظل تنامي الفكر المتشدد و مواجهته لكل عمل ابداعي متحرر ؟ يمكن أن نبدأ تحليلنا للنموذج الثقافي التونسي بقاعدة أن كل الشعوب تقاس بثقافتها و مثقفيها ، و تونس كانت رائدة في هذا المجال منذ بداية دولة الأستقلال و بداية التفكير في " تونسة " المشاريع الوطنية الكبرى من ثقافة ، تعليم ، قضاء ، إدارة . و هذه " التونسة " تطلبت برامج وطنية تنفذها الدولة و ينخرط فيها الشعب و النخبة ، فكانت المبادرة في المجال الثقافي خلال السنوات الأولى من الأستقلال في بناء ملامح " الثقافة القومية " التي تقوم على التوفيق بين التراث الوطني و التمشي التحديثي ، و ذلك عبر تولي " الشاذلي القليبي " لوزارة الشؤون الثقافية كأول وزير بعد الأستقلال حيث قال أمام مجلس الأمة " حاولنا أن نفسح أمام الشباب أبواب النشاط الثقافي على قدر طاقاتهم و بحسب متطلبات تكوينهم ....." إضافة على ذلك تمظهرت ملامح السياسة الثقافية الوطنية عبر تكوين الفرق الوطنية للمسرح ، الموسيقي ، السينيما . إضافة إلى الأنخراط في بناء "دور الشعب "التي أصبحت فيما بعد دور الثقافة ، و ذلك عبر التأثر بالنموذج الفرنسي و الأنخراط في تأسيس قيم الثقافة الوطنية في بعدها التاريخي و الحضاري و القيمي .و جعل الثقافة متاحة لكل التونسيين . لقد أنخرطت دولة الأستقلال في "الأسثمار "في الفكر و المعرفة ، رغم أن ذلك كان نسبيا ، لكن على الأقل وجدت نخبة و إرادة سياسية كانت حاملة لمشروع مجتمعي كامل مثل الحصانة الفكرية للحركات الرجعية التي ما أنفكت أن تعطل كل مشروع حداثي تقدمي لهذا الشعب .لقد كانت نونس مستوعبة لفكرة الانفتاح و بضرورة الأنخراط في التجارب الأوروبية الناجحة آنذاك في حميع المجالات ، فكانت سباقة عربيا في بناء دور للثقافة كفضاءات للتعبير الحر و للأبداع ، و ذلك في إطار رهان سياسي يقوم على دمقرطة الثقافة اي جعل الثقافة مفتوحة لجميع الفئات الأجتماعية و متاحة لكل التونسيين. و لقد كانت هذه السياسة الثقافية متأثرة باالنموذج الفرنسي الذي ظهرت ملامحه في سنة 1959 عندما تولى الروائي الفرنسي" آندري مالرو" وزارة الثقافة الفرنسة (3) . لقد كانت التجربة التونسية في المجال الثقافي لدولة ما بعد الأستقلال رائدة و حاملة لمشروع مجتمعي يقوم على الأنفتاح و التنوير ، لكن هذا لا ينفي نسبيتها و عدم وصولها إلى الغاية الرئيسية طالما أن هذه الثقافة أرتبطت فيما بعد بما هو سياسي ، و تحولت من ضرورة مجتمعية لتكريس مبدأ الابداع و الحرية و "تثقيف "الشعب إلى آلية من آليات الهيمينة السياسية ، و هذا ما يفسر الأزمات السياسية التي شهدتها تونس و تزايد الحركات الأجتماعية الرافضة للنموذج الواحد سواء الثقافي ، السياسي ، التي ظهرت خاصة في السبعينات و الثمانينات. أما اليوم و في ظل تزايد الحركات الأصولية و تنامي خطاب التكفير أصبحت المهمة الموكولة للثقافة و للمثقفين أكثر جرأة و أكثر وحدة ، لأن النقاش لم يعد داخل المربع الديمقراطي و الأطار المدني ، بل أصبح داخل مربع "العنف " ، فالانتهاكات التي ظلت في ذاكرة كل التونسيين من اقتحام قصر العبدلية من السلفيين ، الى تكفير المسرحيين و الفنانين و المفكرين ، تحيلنا الى ضرورة بناء حصانة فكرية جامعة ينخرط فيها كل التونسيين من أجل الحفاظ على المكتسبات المدنية للدولة . لقد كان مشروع دولة الأستقلال هو دمقرطة التعليم و المعرفة و الثقافة ، حيث تم "الأستثمار" في العقول التونسية وفي الراسمال البشري ، و كان ذلك بفضل حركة الاصلاحات و انخراط النخب و المنظمات الوطنية في البناء الوطني و خدمة الشعب .فكانت الميزانية الموجهة للتربية و الثقافة مهمة .أما اليوم و في ظل غياب مشروع تربوي و ثقافي واضح و تزايد نسبة الأمية ، اضافة الى أنخراط الكل في تكفير الكل و محاكم تفتيش للضمائر و للمعتقد ،وتنامي العديد من الظواهر التي تعلن عن موت معلن للضمائر، ألا يجدر بنا القول "أوقفوا هذه المسرحية".
المراجع :
_ الطاهر لبيب ، سوسيولوجيا الثقافة ، دار محمد علي الحامي للنشر ، تونس 10 محمد عابد الجابري ، المسالة الثقافية ، مركز دراسات الوحدة العربية . ص213 Philippe Urfalino , l’ invention de la politique culturelle , paris , la documentation française, 1996, p 13
#بلال_المزوغي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو إنسان جديد ( 1)
-
جلسات سرية
-
محاولة لفهم الازمة .
-
العقلانية و يوتوبيا التحرر
-
الثقافة وتاريخية الفعل
-
هرمونيطيقا النص ام ازمة الأنا
-
الاسلام بين التسليم الروحي و الجدل العلمي و المنطقي
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|