|
لغز الوجود
طوني سماحة
الحوار المتمدن-العدد: 6064 - 2018 / 11 / 25 - 18:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من هو الانسان؟ هناك مقاربتان للإجابة على هذا السؤال.
المقاربة الأولى وغالبا ما يتبناها الفكر الالحادي وهي ان الإنسان عبارة عن جزيئات مادية وتفاعلات كيميائية تطورت في محيط مناسب للحياة على هذا الكوكب المسمى الأرض. وخلال ملايين السنين وصل الانسان الى ماهو عليه اليوم.
المقاربة الثانية وغالبا ما يتبناها الفكر المؤمن وبالتحديد الفكر الديني الابراهيمي وهي ان الانسان مخلوق وان الخالق هو هذا الكائن العظيم الذي نطلق عليه تسمية الله. نقرأ في سفر التكوين ان "لله خلق الانسان على صورته ومثاله".
لكل مقاربة تحدياتها. فالمقاربة الاولى تعجز عن الاجابة عن السؤال من اين اتت المادة اولا والحياة ثانية؟ فالمادة لا تستطيع خلق نفسها بنفسها، إذ ان الفكر الفلسفي واضح ولا يقبل الجدل "فلا شيء يأتي من لا شيء". هذا الفكر اختبره الانسان منذ بداية وجوده. فلا مختبر ولا عالم استطاع ان يخلق شيئا من لا شيء كما انه ما من امرإ استطاع ان يلاحظ او يراقب او يرى شيئا يولد من لا شيء. هذا ولو سلمنا جدلا ان المادة ازلية الوجود، كما آمن بها ارسطو، وكما يروج لها اليوم الفكر الالحادي، يبقى امامنا تحد لا يقل أهمية عن الاول ألا وهو كيف نشأت الحياة من المادة العقيمة. فالانسان لم ير يوما حياة تنشأ من كائن غير حي مثل الصخر والماء والحجر. لا بل لا بد من الحياة لنشؤ حياة جديدة، ولا بد من وجود أهل، أكان الأمر في عالم النبات او الحيوان، كي ينشأ أبناء. وقفت هذه الفكرة حجر عثرة امام الفكر الرافض لفكرة الخلق، حتى ان ريتشارد داكينغ، أحد أبرز المبشرين بهذا الفكر اقترح امكانية وصول الحياة الى الارض من خلال كائنات أتت من كواكب أخرى. ولا شك ان هذا الحل الذي اقترحه السيد داكينغ أكثر إشكالية من التحدي الرئيسي نفسه.
المقاربة الثانية هي ان كائنا عظيما، كلي المعرفة والقدرة ويتخطى حدود الزمان والمكان ويتسامى عن المادة هو من اوجد الحياة والمادة. هذا الكائن هو ما اصطلح اتباع الديانات التوحيديةعلى تسميته الله. فالله، بحسب المؤمنين، روح وليس مادة، وبالتالي لا يخضع لقوانيين المادة اوالطبيعة، بل هو من يضع هذه القوانين. الله ليس سجين المكان ولا مقيدا بالزمان بل هو خارج اطار المكان والزمان، وإلا لما كان إلها. إذا الله حي بذاته، هو مصدر الحياة على الارض وهو خالق المادة والحياة. يبقى التحدي الأكبر في مواجهة هذه النظرية أن ما من امرء شاهد الله. لم يسمعه أحد يتكلم، لم يره أحد يمشي أو يعمل كما ان احدا لم يتصل به ما من قريب او بعيد.
لماذا كان من المهم ان نطرح هذه التساؤلات؟ لأنه لكل مقاربة انعكاساتها على حياة الانسان وفلسفته الوجودية والعملية والاخلاقية والروحية، أمر سوف نتطرق له في مقالة تالية. فإن كان المؤمن والملحد عاجزين عن إثبات فكرهما بالأدلة المخبرية والعلمية، يصبح السؤال أي مقاربة أكثر منطقية من الاخرى؟ أيهما تحمل إجابات مقنعة أكثر من الاخرى؟ فإن كان الله، كما يصفه المؤمن، فوق المادة وخارج حدود الزمان والمكان، فبالتالي يعجز على المرء ان يأتي به ليخضعه لتحليلات مخبرية تثبت وجوده وتحلل مكوناته، كما انه يعجز على الحواس الخمسة رصده واختباره. وإن كان الله غير موجود، كما يقول البعض، ترى كيف لنا إثبات عدم وجوده؟ علاوة على ذلك لا يستطيع الانسان رفض وجود شيء ما بناء على عدم رؤيته. فالجاذبية غير مرئية ولا ينكر احد وجودها، مع انك لو طلبت من اعظم عالم ان يصف الجاذيية ومكوناتها، لوجدته يقف صامتا. الجاذبية على عكس النور، لا نستطيع رؤيتها، ولا نستطيع ان نجزأها الى مكونات وأطياف مثل أطياف قوس القزح، ولا نستطيع ان نرصد موجاتها مثلما نرصد أمواج وذبذبات الضوء. لكن ومع كل ذلك، لا أحد ينكر وجود الجاذبية بناء على استنتاجات فكرية ومنطقية حتمت علينا القبول بها على الرغم من عجز الحواس الخمسة عن رصدها.
لدى التعمق بكلا المقاربتين وما تقدم كل منهما من ادلة منطقية وفلسفية وفكرية، يجد كاتب هذا المقال، ويشاركه شريحة كبرى من الناس رأيه، أن الإجابة الاكثر منطقية هي ان الفكر المؤمن يقدم حلولا تنسجم مع التجربة الانسانية و لا تتعارض مع المبدإ الفلسفي الثابت "لا شيء يأتي من لا شيء". كما ان نظرية ان الكون أزلي الوجود وقائم بذاته تسقط امام الدراسات العلمية الحديثة التي تثبت ان للكون بداية ونهاية. فما هو أزلي لا يستطيع ان يكون له بداية او نهاية. إن كانت نظرية البغ بانغ، أو الانفجار العظيم، تحمل الكثير من المصداقية، فهي خير دليل على عدم أزلية الوجود، وعلى رواية الخلق إذ، وبحسب هذه النظرية، التي عارضها الكثير من العلماء لأنها تنقض ما يؤمنون به من ازلية الكون وتضعهم في موقف محرج فكريا وفلسفيا أمام نظرية الخلق، انفجر الكون في مرحلة زمنية لا تتعدى جزأ من ثانية، ومن جزيئة تقل كثيرا عن حجم الذرة، ليتمدد ويتطورالى ما هو عليه اليوم. لنظرية "الانفجار العظيم"، إن صحت، انعكاسات كثيرة وخطيرة، فهي تؤسس لمرحلة اسمها "الخلق". فما قبل الانفجار ليس كما بعده. في لحظة الصفر، ابتدأ العد للزمان، وأصبح هناك مكان، وولدت المادة، ثلاثية تهيئ للحياة على مختلف أنواعها. فكرة ان الحياة أوجدت ذاتها بذاتها وان الكون ازلي الوجود، تخالف ابسط انواع المنطق ولا تجد ما يؤيدها فلسفيا ولا حتى علميا. يبقى ان من ينسف وجود الخالق، لمجرد انه لا يراه، يبني على منظومة رملية لا تساعده على بناء فكري يثبت في مواجهة الرياح. إن نحن حددنا الوجود في المرئي والعمل المخبري فقط، نكون قد سجنا الوجود في قمقم وأقفلنا على أنفسنا حتى اننا لن نستطيع رؤية ما هو خارجه. كما ان من يطالب المؤمن تقديم الادلة المرئية للإيمان بفعل الخلق، هو نفسه قد حبس ذاته وفكره ومنطقه في خانة صعبة، إذ لا إثبات مرئيا لديه للغز الحياة وبداية الكون. عندها يكون الملحد قد وقع في فخ نصبه لنفسه، فهو شأنه شأن المؤمن يؤمن بعقيدة لا يستطيع ان يقدم عنها إجابات مرئية وحسية ومخبرية. كما أنه هو أيضا يؤمن بدين، اسمه الالحاد، لا يتعدى كونه منظومة فكرية لا تستند على أدلة مخبرية وحسية بل هي عقائد فكرية تستعمل طريقة التفكير الديني لتثبت صوابيتها.
للمزيد عن هذا الموضوع، يمكنكم مشاهدة اليوتيب التالي: https://www.youtube.com/watch?v=N1cg28_Ih80&rel=0 شكرا
#طوني_سماحة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على خطى يسوع- 18- القيامة
-
على خطى يسوع- 17- -يا يهوذا، أبقبلة تسلّم ابن الانسان-؟
-
على خطى يسوع- 16- ساعة الحقيقة
-
على خطى يسوع- 15- لن تغسل رجلي أبدا
-
على خطى يسوع- 14-دعوا الأطفال يأتون إلي ولا تمنعوهم
-
على خطى يسوع- 13-الموت والحياة
-
من وحي عيد الميلاد
-
الخرافة المسيحية والعقل
-
على خطى يسوع-12- الأعمى
-
على خطى يسوع-11- من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر أولا
-
شبهة وردود 3- المسيح الارهابي
-
على خطى يسوع-10- الرغيف
-
على خطى يسوع-9- أسكت أيها البحر، إهدئي أيتها ا لريح
-
سارق الحساء
-
شحاذ سجائر
-
على خطى يسوع-8- إنه سبت آخر
-
على خطى يسوع-7- هل يصير الحجر خبزا؟
-
على خطى يسوع-6- نؤمن أن لا إله إلا السبت
-
عذرا أيها الحب
-
على خطى يسوع-5- الابرص
المزيد.....
-
عمال أجانب من مختلف دول العالم شاركوا في إعادة بناء كاتدرائي
...
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|