|
«المعلوم!»
ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 6059 - 2018 / 11 / 20 - 00:41
المحور:
كتابات ساخرة
لدى بلوغ حافلتنا المركز الحدودي في «العريضة» للانتقال إلى الأراضي اللبنانية، حيث دفع الرسوم المتوجّبة للعبور والتدقيق بأوضاع المسافرين. كان الطابور طويلاً والركّاب متذمّرون لبطء الإجراءات بسبب وجود موظف واحد بالمركز للقيام بهذه المهمة. الوقت قُبَيل الفجر والظرف مناسب للنوم أكثر مما هو مناسب للانتظار المملّ في قاعة المركز، القاحلة من أبسط الخدمات الضرورية لراحة المسافرين. عندما وصل دوري وأنا أكاد أهوي من شدّة النعاس، قابلني الموظف بوجهٍ يفور غيظاً وقال لي بصوتٍ يفحّ كالأفعى: «أين السائق؟ قل له أن يحضر فوراً». واحتفظَ ببطاقتي الشخصية لديه بأن أزاحها ووضعها جانباً. نظرتُ إليه مستوضحاً، لكنه تجاهلني واستلم أوراق من هو بعدي. ألقيت عليه نظرة أخيرة متوسّلة عساه يرجع عن قراره، ألفيته متجهّماً، مكسوّاً بقشرةٍ من الكراهية والاحتقار. تركته وهرعتُ لإبلاغ المشرف على الرحلة التي نظّمتها إحدى الشركات السياحية، ضرورة حضور السائق ومثوله أمام الموظف. لدى إبلاغي المشرف الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره عن فحوى الرسالة التي حملتها، ارتسمت على وجهه ابتسامة مغمّسة بالسخرية، وقال بلهجة الخبير العارف رغم حداثة سنّه: «الأصحّ، ضرورة حضور (المعلوم)» واتجه من فوره إلى الموظف. تابعته مهرولاً لأكون شاهد عيان على التسليم والاستلام، ووقفتُ أرمقهما من مسافة قريبة. وصل المشرف إلى كوة التذاكر ومدّ قبضته المكوّرة بمنتهى الثقة والهدوء وسلّم(المعلوم) للموظف، الذي سرعان ما أضاءت وجهه بسمةَ من فاز بحلّ الكلمات المتقاطعة بعد طول عناء. وبدأ يعمل بحماس وهما يتبادلان بعض عبارات المجاملة المنافقة المعتادة. أثناء التسليم، لمحتُ لون الفئة النقدية التي تشير إلى ورقة الـ (500) ليرة. وبعد أن عاد المشرف إلى خارج المبنى، وقف وأشعل سيجارة. تبعته مقترباً منه سائلاً بحيرة ولهفة متوثّبة: - أمرٌ غريب أن يقبل الموظف منك مبلغ (500) ليرة فقط!؟ نظر صوبي وقد اكتست ملامحه أمارات الدهشة والاستنكار والمرح بآنٍ معاً وأجاب: - نعم؟! لقد أخذ (5000) ليرة.. قلت له وقد أشعلتُ بدوري سيجارة تماهياً به: - لماذا يحتفظ بالبطاقات الشخصية للركاب؟ - ليُحْصي عددهم، وقد لا يسلّمها إلاّ إذا أخذ المزيد من المعلوم.. - برأيك كم تبلغ غلّة هذا الموظف اليومية؟ أجاب بعد أن تمتم بشفتيه وكأنه يجري عملية حسابية: - مم، لا أقلّ من خمسين إلى ستين ألف كحدّ أدنى.. (واستدرك مضيفاً) طبعاً المبلغ ليس كله له! فهناك من ينتظر حصّته منه.. ثم لا تنسى كم دفع هذا الموظف من رشاوى لأصحاب القرار إلى أن تمّ فرزه إلى هذا الموقع! قلت له ببراءة: - هذا يعني أن دخله الشهري يفوق المليون بكثير! طيب لنفترض أنك امتنعتَ عن دفع المعلوم كما تسمّيه، ماذا بإمكانه أن يفعل، لا سيما وأن كل الشروط التي تتطلّبها مغادرة الأراضي السورية متوفرة وسليمة..؟! أجاب متبرّماً ومن دون تردّد: - يا أخي بكل بساطة، بإمكانه خلق عشرات القصص والمشاكل التي تعيق مغادرتنا. مصلحتنا أن ننهي كافة الإجراءات بأقصر زمن ممكن. ثم كما ترى، لا مكان للاستراحة في هذه المنطقة إلا داخل البولمان. ولا شك من أن بقاءه متوقفٌ مدة طويلة سيثير ضجر الركاب وامتعاضهم. وختم بقوله بعد أن نظر صوبي بابتسامة جوكندية تتداخل فيها السخرية بالرثاء والأسى: هكذا هي البلد يا عزيزي.. لقد تعوّدنا على كل ما يذلّنا ويُهيننا! قلت له بإلحاحٍ ثقيل محاولاً ما أمكنني إطالة الدردشة معه: - لفت انتباهي في بهو المركز الحدودي صندوق شكاوى مثبتاً على أحد الجدران، وقد أُلصِقت عليه ورقة مكتوبٌ عليها «الرجاء عند أية ملاحظة، تقديم شكوى». لماذا لا تجرّب وتقدّم شكوى عمّا يحصل معك في كل رحلة؟ ابتسم بدايةً وهو يتمعّن بي ليتأكدّ من أنني لا أمزح، وعندما وجد جدّيتي وفهم بأنني أريد شرحاً، انفجر ضاحكاً باحتفالية مزيّفة وقال: - هل تعلم مفتاح الصندوق بيد من؟ وهل تعلم إلى من ستصل الشكوى؟ مدّ أصبعه نحو خدّي مداعباً والبسمة لا تفارق وجهه: - أنت لبيب يا عزيزي، وليس من داعٍ لمزيد من الشرح. فقد يستخدم صاحب القرار الشكوى لمزيد من ابتزاز الموظف المختص للحصول منه على الحصة الكبرى من الغلّة.. ثم معس سيجارته بعنف واستدار عائداً إلى المركز لمتابعة الإجراءات.. تأمّلت غبش الفجر الذي بدأت طلائع نور الصباح تبدّده عند الأفق الشرقي متسائلاً بمرارة: تُرى، متى سيشعر المواطن السوري من أن الجهات الأمنية والرسمية بتنوّعاتها، والتي يفترض أنها تصونه وتحميه، لن تنهبه، أو تذلّه، أو تدوس على رقبته؟
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المرأة ربيعٌ أيضاً
-
لا للقتل..
-
دعوة لتغيير النشيد الوطني السوري
-
ذكريات
-
حنا مينه يودّع مصدر إلهامه..
-
البيرة، وما أدراك ما البيرة!
-
الفقراء في كل مكان..
-
إلى متى سيبقى القلقُ دَبِقاً بنا؟
-
المطار، مطارك أستاذ!
-
لسعات خليجية..
-
«الوشّيش!»
-
بعثيّة، بعثيّة..
-
ليس بالعلمانية وحدها يحيا الإنسان!
-
في الصَّيدليَّة
-
حلّاق القَبْوُ
-
هلْوسة مُحْتَضَر
-
المُسَلّي
-
مقطع من روايتي «في قبضة الحليف»
-
إنّنا نُخْصِي العجول!
-
النقد اختصاص وليس إدارة!
المزيد.....
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|