عادل صالح الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 6058 - 2018 / 11 / 19 - 19:08
المحور:
الادب والفن
الشعر البريطاني الحديث والعلم (2)
عادل صالح الزبيدي
تتناول الدراسة الحالية العلاقة بين الشعر البريطاني الحديث والعلم. في دراسة سابقة تناولنا هذه العلاقة على الصعيد النظري والفلسفي والجمالي، أما في هذه الدراسة فسوف نتناول الجانب التطبيقي من هذه العلاقة من خلال تبيان مواضع تأثر الشاعر الحديث بنظريات ومكتشفات العلم الحديث وتطبيقاته التكنولوجية فيما يكتب من شعر وكيف انعكس ذلك على موضوعات الشعر وأساليبه وفنونه.
*************
انطلق ما يطلق عليه بشعر الطبيعة مع حقبة الثورة الصناعية، وعادة ما ارتبط بالشعراء الرومانسيين. وبسبب الآثار المدمرة للتصنيع على الريف والطبيعة، أصبحت الطبيعة البكر التي لم يمسسها التصنيع قيمة روحية. و تتأتى الأهمية الأكبر لهذا الشعر من كونه يعبر عن محاولة شعراء معينين، ومن بينهم الجورجيون، العودة إلى الشعر العضوي وذلك من خلال وضع أنفسهم في بيئة يمكنهم انطلاقا منها التعبير عن رفضهم لقيم مشهد الممكننة الجديد، المدينة، التي بدأت تصبح مركزا للحضارة. كان ذلك جزءا من محاولتهم الحفاظ على تلك القيم أو إنقاذها وذلك من خلال إعادتها إلى تلك الحقبة من التاريخ المنتمية إلى الريف، ومن خلال التعامل معها تعاملا أكثر عضوية. إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل بنظر أتباع حركة الحداثة ممن كانت ميولهم مناهضة للرومانسية، ذلك لأنهم لم يستطيعوا مواكبة متطلبات العصر ومزاجه الجديد. وهذا بالتأكيد واحد من الأسباب التي تقف وراء الهجوم الذي شنه هيوم وباوند واليوت على الشعراء الجورجيين من منطلق كلاسيكي مناهض للرومانسية. أنتج عصر التمدن الجديد منظومة قيم جديدة وتطلب بذلك "رعوية جديدة،"(1) بعبارة برادبري، بدلا من القديمة، المنظر المديني بدلا من المنظر الطبيعي.
تتناول الناقدة بابيت دويتش دور رواد الحداثة بهذا الخصوص فتقول: "يمكن تعقب الوعي الحيوي بالمشهد المديني إلى اليوت وباوند بشكل أساس."(2) وتصف دويتش مختلف الأساليب التي قام اليوت من خلالها بتشخيص طبيعة عصره والتعبير عنها في شعره، متمثلة بالصور اللا شعرية، اللغة الحوارية المحكية، الإيقاعات الأكثر سلاسة، الانتقالات السينمائية، لقطات التلاشي البطيء، اللقطات القريبة، النبرة المشوبة بالمفارقة الساخرة وبالتعقيد، الشعور والإدراك، اللهجة ذات المفارقة الساخرة ، الظُرف الأشد قسوة الذي استعاره من جول لافورغ (1860-1887) وغيره من الرمزيين الفرنسيين، بل حتى الإيقاعات التي تعكس ضوضاء الآلة الفظة.(3)
إن ردة فعل اليوت والحداثيين الآخرين تجاه العلم لم تكن لتعبر عن عدائية اتجاه المنهج العلمي بقدر ما كانت تعبيرا عن قلق عميق على العالم الحديث الذي هو نتاج العلم إلى حد كبير. يصور اليوت في شعره عالما تشظت فيه قيم الماضي، عالما فيه قدرة العلم البناءة توازيها قدرته المدمرة إن لم تتفوق عليها، مما أدى إلى تحطم القيم الروحية وروح الإنسان بفعل ذلك.
بهذا المعنى فان قصيدة اليوت الرائدة ((الأرض اليباب))(1922) هي تصوير متكامل لعالم يخلو من هذه القيم. فبمشهدها المديني القذر ومدنها "الوهمية" وأبراجها المتهاوية، بنهر التيمز الملوث بالقار، بالجو الخانق لأحيائها الصناعية ومصانعها، بسكانها الذين فقدوا إنسانيتهم وأرواحهم وقدرتهم على الحب والإيمان، تعرض القصيدة صورة بالغة التعبير عن جحيم العالم الحديث. وهذا الجحيم الحديث، كما يقول الناقد فيكتور ستراندبرغ، هو نتاج العلم الحديث الذي أدى بالإنسان إلى أن يرى نفسه حيوانا عديم القيمة قد أودع الظلام والقلق والانحلال بفعل نظريات داروين وفرويد واينشتاين فضلا عن الكوارث الحديثة مثل الحرب العالمية الأولى والثورة الصناعية. يوضح سترانبرغ ذلك قائلا انه مع تطور العلم "دخلت المعارف الجديدة في صراع مع معتقدات الماضي الأكثر قبولا وجحيم العالم الحديث خلقه انهيار الأفكار القديمة التي ترى الإنسان كائنا روحيا، وان التاريخ سهم موجه إلى الأعلى والى الأسفل باتجاه التقدم اللامتناهي،"(4) مما يؤدي بالنتيجة إلى ما يعبر عنه في عنوان مقالته بــ ((أزمة المعتقد في الأدب الحديث))، والتي يجدها في أعمال الفكتوريين الكبار وفي الشعراء الحداثيين بما فيهم ت. س. اليوت. فقصائد اليوت مليئة بالصور والمشاهد والشخصيات التي تجسد هذه النظرة عن الإنسان الحديث والحضارة الحديثة. ففي قصائده التي سبقت ((الأرض اليباب)) نجد وصفا لرتابة حياة المدينة الممكننة القذرة والكئيبة والخالية من العافية الروحية والقيم وكذلك في شخصيات مثل الشهواني المتوحش سويني الشبيه بالقرود، السيد ابوليناكس، البروفيسور والسيدة تشاننغ-تشيتا، ابن المدينة الجبان المتردد بروفروك ومواطن العالم المنقطع الجذور غيرونتين الذي يرمز إلى جنس بشري هابط "حالم" ووعي مجدب محطم. فلا عجب ان يكون المصدر الأساس الذي تستقي منه قصائد اليوت المبكرة هذه، بما فيها ((الأرض اليباب))، هو الجنس الذي غالبا ما ينظر إليه من منظور الآلية البيولوجية والحيوانية لا على كونه حبا بشريا يتميز بالحرية والامتلاء الروحي.
في قصيدة ((الأرض اليباب)) تختفي جذور الإنسان التقليدية ورؤياه وسط جفاف وعقم حضارة ممكننة ومتشظية وملحدة:
ما الجذور التي تتشبث، أية أغصان تنمو
من هذه القمامة الحجرية؟ يا ابن الإنسان،
لا تقدر أن تنطق، أو تحزر، لأنك لا تعلم
إلا كومة صور متهشمة، تسفعها الشمس،
ولا تمنح الشجرة الميتة ظلا، ولا الجدجد راحة،
ولا الحجر اليابس صوت ماء.(5)
إن وعي اليوت بالعلم، كما يشير دوغلاس بوش، يعبر عنه على نحو غير مباشر ويشوبه الغموض. بهذا المعنى فان ((الأرض اليباب)) تؤكد الإيمان الديني، وتعكس روح العصر الحديث، وتصور حضارة تحتضر، وبذلك يمكن وصفها بكونها، بعبارة بوش، "جحيم الكوميديا الإلهية لأليوت،"(6) تلاها فيما بعد شعر اليوت المتأخر الذي تعمقت فيه موضوعة الدين وتأكدت النظرة الايجابية للإيمان، كما في قصيدتي ((أربعاء الرماد)) (1930) و((الرباعيات الأربع)) (1935-1942).
تعكس ((الأرض اليباب)) وتعبر عن العالم الذي تصفه ليس في موضوعها فحسب وإنما أيضا في أسلوبها وتقنيتها. انه عالم يعبر عنه بطريقة تجعل منه عالما ينتصر عليه الفن. وهي الطريقة التي يطلق عليها اليوت اسم "الطريقة الأسطورية،" في سياق وصفه لرواية جيمز جويس ((يوليسيس)) (1922) ثم يشرح هذه الطريقة قائلا إنها "طريقة للتحكم بالمشهد البانورامي العريض للعقم والفوضى الذي هو التاريخ الحديث وتنظيمه وإعطائه شكلا وإضفاء أهمية عليه."(7)، كما يؤكد في المقالة ذاتها على أن طريقة جويس "لها أهمية اكتشاف علمي،" وهي نظرة يمكن بكل تأكيد تطبيقها على الأسلوب الذي يتبعه اليوت في ((الأرض اليباب)).
إن البعد الأشد إدهاشا لنظرية اينشتاين في النسبية بالنسبة للحداثة هو حاجة الأخيرة لخلق عالم والوقوف خارجه في الوقت نفسه، ثم تأمل حقيقة أن المرء يقف خارج هذا العالم. وقد مكنت محاولة شعراء الحداثة القيام بذلك من رسم صورة اشد ثراء لطبيعة الواقع المعقدة، وكانت الأسطورة وسيلتهم لذلك. وتعد ((الأرض اليباب)) القصيدة الأكثر تمثيلا لهذا البعد. يصف الناقد مارتن سكوفيلد الطريقة الأسطورية للقصيدة بقوله: "انها مكنت اليوت من أن يقف بعيدا عن تجربته ثم يعممها لتكون نظرة للحياة؛ وبطريقة أخرى فقد مكنته من الاقتراب من تجربته، أي التعامل مع الأمور التي كان يمكن أن تكون مقاربتها اشد إيلاما بأية طريقة أكثر مباشرة."(8) يظهر سكوفيلد هنا إدراكه لوجود تناقض ظاهر يعتقد انه السبب وراء تعليقات اليوت التي أصدرها فيما بعد استجابة للآراء النقدية المختلفة حول القصيدة بوصفها تعبيرا عن خيبة أمل جيل، أو أنها تسببت في حصول انفصال تام بين الشعر والمعتقد، أو فيما إذا كانت القصيدة شخصية أو لاشخصية، أو كونها ذات بنية أو ليس لها بنية وهكذا.
مهما يمكن للمرء أن يقوله عن القصيدة وعن مغزاها وغرضها وأسلوبها، فان توظيف اليوت للأسطورة فيها إنما هو وسيلة لإعطاء النسق المعقد للواقع الذي تصفه شكلا جماليا معقدا مكافئا له من خلال ترتيبه على وفق الشكل المثالي للأسطورة. انها طريقة لا يتم من خلالها تنظيم الحياة الحديثة فحسب بل التاريخ كله على وفق أسطورة الكأس المقدسة. ان شكل الأسطورة أو بنيتها مثالي بمعنى انها ليست ذاتية ولا موضوعية، ليست داخل الزمن ولا خارجه، وليست حصرية ولا شاملة. بعبارة أخرى، انها وجهة نظر لا يمكن إثباتها ولا دحضها—باختصار، انها وجهة نظر نسبية بإمكانها تقديم زوايا نظر متعددة لفهم الواقع.
ولغرض فهم علاقة الفيزياء الحديثة بأسلوب ((الأرض اليباب))، من الجدير ربط وجهة نظر اليوت عن الواقع كما يعبر عنها في أطروحته لنيل درجة الدكتوراه عن فلسفة ف. هـ. برادلي بالأفكار الأساسية لنظرية اينشتاين في النسبية. كان الفيلسوف البريطاني فرانسيس هربرت برادلي احد الفلاسفة الذين قاموا خلال أواخر القرن التاسع عشر بتطوير مفاهيم جديدة عن الواقع وعلاقته بالزمن والفضاء. في مؤلفه المعنون ((المظهر والواقع)) (1893) وكذلك في أعماله الفلسفية الأخرى، توصل برادلي إلى نتائج مهمة عن مفهوم الزمن والفضاء، وأثبتت نظريات اينشتاين صحة تأملاته الفلسفية فيما بعد. إن أطروحة اليوت المعنونة ((المعرفة والخبرة في فلسفة ف. هـ. برادلي))، التي كتبها في عام 1916 ولم تنشر إلا في عام 1964، تظهر انه كان على اطلاع تام على نظام برادلي الفلسفي بكامله.
ان جميع وجهات النظر نسبية وفقا لبرادلي كما يفهمه ويشرحه اليوت في أطروحته، حتى حينما يكون ممكنا الاعتقاد بها جميعا. يقول اليوت: "كل شيء من إحدى وجهات النظر ذاتي؛ وكل شيء من وجهة نظر أخرى موضوعي؛ وليس هناك وجهة نظر مطلقة يمكن ان يتخذ قرار انطلاقا منها. وجهة النظر المطلقة وحدها يمكن ان تكون صادقة، إلا انه ليس هناك وجهة نظر مطلقة، لذلك فجميع المواقف نسبية، وبالتالي فهي صادقة نسبيا. نتيجة لذلك فان "النظم الميتافيزيقية محكوم عليها بالانطلاق كالصاروخ والسقوط كالعصا،" وعلى الرغم من ان العالم "لا يوجد إلا في خبرات المراكز المتناهية" فان كل خبرة من هذه الخبرات تنطوي على "مفارقة في كونها تسعى إلى أن تكون مطلقة، إلا أنها مع ذلك نسبية."(9) تلك هي نظرة اليوت للواقع كما يؤكد الناقد جون هيليس-ميلر، وهي النظرة التي يعرضها اليوت ببراعة وحذق في أطروحته التي تزامن تأليفها مع قصائده المبكرة ويمكن أن تعد نقطة انطلاق لتطوره الشعري فيما بعد.(10)
---------------------
الهوامش:
Malcolm Bradbury, The Social Context of Modern English Literature, p. 52.
2 Babette Deutsch, Poetry in Our Time (New York: Doubleday, 1963), p. 201.
3 Ibid.
4Victor Standburg, “The Crisis of Belief in Modern Literature,” The English Journal, Vol. 53 (October, 1964), pp. 476-7.
5Quotations from Eliot’s poetry are taken from Collected Poems 1909-1962 (London: Faber, 1963).
6Bush, Science and English Poetry, p. 161.
7Eliot “Ulysses, Order, and Myth,” in Selected Prose of T. S. Eliot, ed., Frank Kermode (London: Faber and Faber, 1971), pp. 177-8.
8Martin Scofield, T. S. Eliot: The Poems (Cambridge: Cambridge University Press, 1988), p. 132.
9T. S. Eliot, Knowledge and Experience in the Philosophy of F. H. Bradley (London: Faber and Faber, 1964), pp. 21, 22, 168, 166.
10John Hillis-Miller, Poets of Reality (Cambridge: Harvard University Press, 1966), p. 134.
#عادل_صالح_الزبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟