|
المجتمع الصحراوي يتشكل...
حمدي حمودي
الحوار المتمدن-العدد: 6056 - 2018 / 11 / 17 - 00:02
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لا ينفرد المجتمع الصحراوي كثيرا عن المجتمعات المحيطة من ناحية الدين حيث أن الإسلام هو الدين الوحيد، غير أن تطبيقات هذا الدين من ناحية يختلط بالقيم والتقاليد التي تميز مجتمع عن آخر. ولن أسترسل في الاحكام العامة والجزء النظري بل سأقرب المفهوم بمثال من الحياة العامة. وسأقف عند القدوة أو الانسان المثالي، وهنا لا يمكن النظر بعيدا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وحبه الذي فاق كل الانام بما هو أهل له وما أوجبه الله من محبته صلى الله عليه وسلّم حيث اوجب تعالى جل ذكره وعظم مقامه أن يكون أحب الى المسلم من نفسه وآبائه وأبنائه ومن في الأرض جميعا حتى يتم الإيمان ويكتمل للمسلم ففي الحديث عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمر))؛ رواه البخاري[1]
والأحاديث كثيرة في هذا، فالمجتمع الصحراوي له لفتة خاصة عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن يتبع ذلك مباشرة الآباء دون ذكر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الركائز الكبرى من البشر التي تعتبر أمثلة من البشر التي لو أتبعت لكان هناك الكثير من الخير فما هي الأسباب في القفز الى الآباء مباشرة رغم أن أولئك الصحابة والأنبياء يأتون كثيرا في الأمثلة والحكم الشعبية الصحراوية مثل "صبر أيوب وجمال يوسف" عليهما السلام. لعل أهم عامل في هذا المجال آنذاك ربما هو شح المعلومات عن حياة هؤلاء الرجال والصحابة الكرام، والعامل الثاني هو تلك القدوة التي كان عليها الآباء الكرام، من ناحية الخلق الكريم وتفرد الأب الصحراوي بالولد وتلقينه أساليب الحياة المتنوعة الثرية والعميقة التي تملأ حياة الإنسان البدوي الصحراوي، ابتداء من أساليب الفروسية وما تلزم من قوة مبهرة للأبناء كركوب الإبل ومهارات الرماية من فوقها والسباق بها والصيد بها وتقصي وقص الأثر وترويضها وطرق التعامل معها ومصاحبتها ومداواتها مداراتها وغيره كثير من الأمور التي يضيق الحديث عنها والتي يتم تلقينها، من تجربة ودروس حسب التطور العمري للابن والحاجة الماسة الى تكوينه الجسدي . ثم أن ذلك التكوين الجسدي مرفقا بمعلومات موسوعية في المجال الروحي والعقلي، فحفظ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة والتفقه في فهم العبادات والاحكام الشرعية وغيرها من الأمور المتعلقة بذلك النبع الذي يظل الانسان المسلم ظمئا للاستزادة منه مدى الحياة. ثم نأتي الى تكملة ثقافة المجتمع من ناحية الاخلاق والعادات والتقاليد والمعاملات ومعرفة الأرض والنجوم والنبات والتاريخ والانساب والشعر والامثال والحكم وغيره كثير مما يكتسب من مصاحبة الابن لأبيه او جده. ان الاب في المجتمع الصحراوي هو اب ومدرسة وبالتالي كان بديهيا ان يظل الابن تحت وصاية الأب وتحت جناحه خاصة أن الأب لديه أيضا سنوات كثيرة من التجارب التطبيقية لتلك المفاهيم والأفكار والمعلومات القيمة وجدير بالتواضع والتسليم للمعلم الأب الحبيب، وهذا الوصف ينطبق على الجد كذلك الذي بطبيعة الحال وبطول العمر ستكون تجربته أكبر وأوسع وأعمق وبالتالي هو كنز آخر من التجربة ومورد ومعين للارتواء، وكل هذا الأمر ينطبق على مدرسة الأمومة التي لديها هي ايضا كم وكيف آخر ومدرسة من التعلم في مختلف مراحل تطور الابن أو البنت على حد سواء. ان مدرسة البيت أو الخيمة الصحراوية سواء من ناحية الابوة والامومة كانت تنفرد بالإنسان الصحراوي بعيدا عن المجتمعات الأخرى وتغذيه من ثديها الغزير دون تدخل من العوامل الخارجية وكان الإنسان الصحراوي يتشكل بتلك الطريقة، التي تزداد باحتكاكه بالمجتمعات القريبة الغريبة التي كان يتبادل معها بذكاء وحذر بعض المفاهيم والتجارب ويطور أدواته المعيشية دون ان يبدل طباعه وأخلاقه كما أنه كان يجلب المدرسين لتلقين ابناءه العلوم الشرعية في كثير من الاحيان وقد صارت بعض الاسر الى اليوم هي جزء من المجتمع الصحراوي استقبلها واحتضنها وهيأ لها بكرمه وفضله البيئة التي غنتها عن العودة الى اوكارها الأولى وتشهد هجرات لعلماء معروفين اسقروا نهائيا مع مجتمعنا بل صاروا ابناءه. وقد كانت هذه من الأسباب الرئيسية التي وقفت في وجه الاستعمار حيث أن تماسك المجتمع الصحراوي وتركيبته الاجتماعية كانت وراء عجز الاستعمار وكسر كل محاولاته للهيمنة على شعبنا حتى سنوات قريبة لم يستطع الاستعمار أن يسيطر على شعبنا ابدا. حقيقة في سنوات أخيرة وبعد تطوير أساليب العدو الجهنمية في القضاء على المقاومة في اتفاق المستعمر الاسباني والفرنسي وتطويق المقاومة المسلحة وبالتآمر مع البلاط الملكي أيضا، تم اعمال الجزرة والعصى خاصة بعد القضاء على الثروة الحيوانية وسنوات الجفاف القاسية التي مرت وفتح التدفق المعيشي في شبه تجمعات مدن صغيرة في محاولة لدفن المقاومة وجعلها من جيش المستعمر وعمليات فرق تسد التي انتهجها المستعمر من اجل السيطرة على السكان، كل تلك العوامل لم تستطع ان تمس الجوهر ولا ان تؤثر في عمق وتراكمات البناء الفكري والعقلي والروحي بل ظل متوهجا رافضا متحيزا ينتظر لحظة الخروج من قيد المستعمر. ولم تجد الثورة الصحراوية بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب مشكلا كبيرا في تأطير الشعب الصحراوي او العمل كثيرا من اجل ذلك، فكان انضمامه في لمح البصر للجهاد في سبيل حريته واستقلاله لان تلك الروح البدوية لا تزال مصانة ولاتزال مضيئة متوهجة. وأمام ضربات الرجال الصحراويين الناجحة ضد الجيش الاسباني في مختلف تواجداته والالتحاق السريع بصفوف جيش التحرير الشعبي الصحراوي، كان الخيار واضحا أمام المستعمرين أنه إذا لم يقض على هذا الشعب فإن المؤامرات والاغراءات لن تنفع معه أبدا وبدأت المؤامرة الكبرى في اتفاقية 14 نوفمبر المشؤومة. التي نابت الحكومات العميلة عن الاستعمار الاسباني في محاولة ذبح شعبنا في خيانة يندى لها الجبين، وكانت القنبلة في ام ادريكة وفي التفاريتي وغيرهما بالطائرات على الخيم سببا في نزوح عشرات الآلاف من أبناء شعبنا الى المخيمات في الجنوب الجزائري لحمايتها من حرب الإبادة وسنوات اللجوء القاسية التي كانت فرصة لتنظيم مقاومة شعبية كان لها الأثر العميق في ابطال مخططات الاستعمار ومشاريعه ليس في الصحراء الغربية فقط بل وفي افريقيا والعالم. إن تلك التحولات السريعة في أسلوب الحياة والبيئة وطرق التفكير سيكون لها الأثر الكبير إيجابا وسلبا على المجتمع الصحراوي، وأثرت على بنية الأسرة الصحراوية وعلى القيم والأعراف والتقاليد والعادات، وكانت سنوات الحرب المفروضة على شعبنا جعلت المقاتل الصحراوي المرابط بعيدا عن الولد وعن الاسرة الا أياما قليلة على طول السنوات، وجعلت الولد لضرورة التمدرس والتعلم في المدارس بعيدا عن الاسرة في تجمعات او في الخارج لسنوات تعزله عن بيئته الاصلية. ان دور الابوة والأمومة ودفئ الاسرة، كانت أولى التضحيات التي دفعها شعبنا من اجل نيل حريته. إن فقدان البيئة الاقتصادية التي كان يعيش منها الانسان الصحراوي وتغييرها لبيئة أخرى غريبة -الاعتماد على المساعدات-ضحية أخرى أكبر مما نتصور ويجب العمل على ارجاع تلك الأساليب التي تعتمد على ان يظل المجتمع منتجا للإبل والغنم وراعيا وتطوير أساليب ذلك بما يتاح من الوسائل التي تؤمنها لما في ذلك من مخزون ليس اقتصادي فحسب بل ثقافي أيضا. إن كل ذلك يعني الكثير في التحولات الكبرى في المجتمعات ،حيث اننا لا نقدم لأجيالنا وأبنائنا اليوم الا اليسير القليل من تلك الثقافة الصحراوية العميقة التي فقدناها . بل ونقدم للعالم مجتمعا جديدا فقد الكثير من الأصالة لا يلبس ثوبه الأصلي الرزين الساتر وكأننا نقلد غيرنا وكأنما نحن عرايا. إن المجتمع الصحراوي الآن في مرحلة كبرى من التحول التي لم تتوقف ولا زالت التغيرات مستمرة نتيجة الشتات والاستعمار وكذا الاحتكاك المستمر بالجيران وما إدراك ما الجيران أضافة الى الهجرة نحو الغرب، وعلى المجتمع الصحراوي أن يكثف العمل الثقافي الأصيل خاصة في الجانب الدراسي كي يحمل أبناءنا جينات المجتمع الاصلية وعلى الاسرة الدور الأكبر في تلقين أبنائها تلك الثقافة التي ابدا لا تعني التعليم والتعلم وعليها الآن أن تلقنه أولا روح الاسلام النقية الصافية التي تتجه الى عمل القلوب قبل الأبدان وزرع حب الله ونبيه وحب الناس والعمل من أجل الآخرة. إن الجانب الديني والبحث عن القدوة الصالحة خاصة تبقى من أهم الأمور التي يجب التركيز عليها وإن لم تكن في الأنبياء والصحابة الكرام ففي الشهداء الذين ضحوا في سبيل حرية الوطن كمواطنين نزهاء قدموا أغلى ما يملكون روح المقاومة والشجاعة والكرم والإيثار التي هي من المميزات الكبرى لمجتمعنا.
#حمدي_حمودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة للقرار الافريقي الجديد حول الصحراء الغربية...
-
سقوفٌ ورفوفٌ...
-
غروبٌ أم شروقٌ...
-
بعض الدلالات الدولية للفتة الصينية الانسانية لدعم الشعب الصح
...
-
على هامش الصراع في مجلس الامن على القضية الصحراوية...
-
الحركات التكتيكية المغربية قبل ابريل... زوبعة في فنجان...
-
خطة كوهلر الجديدة في الصحراء الغربية...رأي خاص
-
معركة الفسفات الصحراوي قضية وجود...
-
ساحة جنيف يتدفق فيها الشعب الصحراوي باقة ورد...
-
ضربة وتد هزت تاج الرباط...
-
المبعوث الالماني -كوهلر- - السلام في الصحراء الغربية على حسا
...
-
لا حل بدون طلقة الحرية التي يجب ان تولول وتزغرد لها النساء ف
...
-
دول الساحل تشكل قوة تشرف عليها فرنسا: شراء صمت الدول ام القت
...
-
-التنازل-...قصة قصيرة
-
كلام على هامش زيارة -ٍهورست كوهلر- الى الصحراء الغربية
-
هل سيقدم الفرنسيون على الانتحار...؟
-
لمذا يعد الصحراوي بالليلة وليس بالنهار أو اليوم ...؟ كيف ينظ
...
-
20 ماي طلقة الحرية وشهقة وصرخة الميلاد الاولى...
-
رأي خاص في الزفزافي...
-
احتجاز سفينة على متنها حمولة من صخور الفوسفات موجهة من الصحر
...
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|