أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - معز الزموري - العنف الدّينيّ بين الرّمزيّ والمادّيّ















المزيد.....

العنف الدّينيّ بين الرّمزيّ والمادّيّ


معز الزموري

الحوار المتمدن-العدد: 6040 - 2018 / 10 / 31 - 00:36
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تصدير: "أنت ما عبدت على الحقيقة إلا ما نصبته في نفسك" ابن عربي*
مقدّمة:
العنف سلوك متصل بالجانب الغريزي الحيواني في الإنسان، وله صلة بغريزة حبّ البقاء في البعد اللاواعي منه، وهي أقوى من غريزة الرغبة فيه بحسب الدرس النفساني لأنه وثيق الارتباط بمفهوم العدوانية والتدمير . لذلك يكون العنف في هذا المقام متصلا بالتهديد المباشر الذي يستهدف وجود الذات البشرية إن كانت تعيش في مجتمع بدائي لا تحكمه القوانين المنظمة. أما إذا كان حدّ الإنسان أنه حيوان عاقل، يصبح العنف سلوكا مرفوضا أمام العقلانية والقوانين الصادرة عنها الضامنة للعيش المشترك بين بني الإنسان الذين يتنازلون عن العنف الطبيعي لصالح مؤسسات الدولة المفترض أنها التي تجمع شتاتهم رغم اختلافاتهم . وحين كان العنف ظاهرة بشرية استمرّت في تاريخ المجتمعات الإنسانية فإننا غالبا ما نجد التمييز قائما عند الأنثربولوجيين وعلماء الاجتماع بين أصناف من العنف مثل العنف الفرديّ والعنف الجمعي، والعنف المادّي والعنف الرمزي، لأنه يبدو أنّ البشرية لم تتنصّل بعد من حنينها المتواصل إلى أصولها الوحشيّة الطوطميّة فلم تعقلن رغباتها، أو هي قد ألبست أشكال ظهور ممارستها للعنف بأنواعها لبوسا متحضّرا، يصبح معه العنف مقنّعا بأقنعة "التّمدّن" و "التّحضر" و"التديّن"الزائفة.
1- العنف رمزيا:
درج علماء الاجتماع على تناول ظاهرة العنف باعتبارها ظاهرة إنسانية سوسيولوجية صاحبت وجود الإنسان منذ الحقب البدائية وصولا إلى العصر الحديث، وقد ميزوا في أنواع العنف بين تجلياته المادية وتجلياته الرمزية.
ويُعزى مفهوم العنف الرمزي في أول نشأته إلى بيير بورديو في كتابه "الرمز والسلطة" باعتبار أنّ هذا العنف لا يُمارس بصورة مادية مباشرة وإنما يُلقَّن عبر وسائط رمزية يستنبطها الباثّ للتأثير في وعي المتلقّي، فهو عنف غير فيزيائي لأنه يظهر أنه خاضع لمبدأ المثير والإستجابة السلوكي لكن بشكل غير واع. وهو لئن سلّم في مصنّفه بأن لكل ثقافة من الثقافات "عنفها المؤسس" لتاريخها الذي تُستلهم أدبياته داخل المجتمع في شكل استعادة طقوسية، فإنه من جهة أخرى يبني هذا التسليم على نقد الإرث الماركسي في تسليمه بأن العنف هي مقولة مادية اجتماعية تاريخية من النتائج الحتمية للصراع الطبقي في التاريخ،عنف مسلَّط من طبقة لها مصالحها الرأسمالية التي تدافع عنها، يجابه بمقاومة تلك الطبقات وكفاح منها له وإن احتدّ تصبح المقاومة "عنفا ثوريّا" معقلنا، في شكل مقاومة من الطبقات المسحوقة لضمان العدالة الاجتماعية ولمكافحة الحيف الاقتصادي والقهر الاجتماعي. وينقد بورديو الفكر الماركسي الذي لم يول اهتماما كبيرا للأنماط المختلفة للعنف الرمزي، باعتنائه بأشكال العنف المادي والاقتصادي. وهو يشير في هذا السياق إلى أنّ العنف الرمزي يمارس تأثيره حتى في المجال الاقتصادي نفسه، فالسلع المعلن عنها عبر الإشهار في وسائل الإعلام أو المعروضة في واجهات المتاجر بقدر ما تؤجج الرغبة، بقدر ما تمارس عنفا اقتصاديا على الأفراد وعلى الطبقات المفقّرة، ثمّ إنّ العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم واستلابهم أمام تلك السطوة الإعلامية وجرهم نحو الاستهلاك الذي أصبح في المجتمعات "المتحضرة" قيمة. ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به باعتباره عنفا بل ينخرطون فيه ويخضعون له في شكل من الاستلاب.
ومن هذه الزاوية يمكن، حسب بورديو فهم الأساس الحقيقي الذي تستند إليه السلطة السياسية بتزاوجها مع الرأسمال الاستغلالي،في بسط سيطرتها وهيمنتها؛ فهي تستغل بذكاء التقنيات والآليات التي يمرر من خلالها العنف الرمزي، والتي تسهل عليها تحقيق أهدافها الربحوية التسلّطية بأقل تكلفة وبفعالية أكثر.إنّ هذا النقد من بيير بورديو ينطلق من نفس الآلية الابستيمولوجية لماركس، ليصل إلى هذا المفهوم الجديد الذي يتراءى مقابلا للعنف المادّي لكنه في واقع الأمر شكل من أشكال العنف المادّي. فلئن كانت منطلقات العنف الرمزي الرغبات الفردية أو الأشكال الرمزية الاجتماعية، فإنّ نتائجها متصلة بالجانب المادّي المتعلّقة بالربح اقتصاديا والسيطرة سياسيا، وأما إذا سحبنا مفهوم "العنف الرمزي" على الجانب الديني، فإنه يصبح رأسمال رمزيّ تستغلّه المنظومتان السياسية والاقتصادية لإقناع الجمهور عاطفيا وإثارة مشاعره، أو تضليله - من خلال ما يسميه بورديو في آخر الكتاب الكاريزما ، بشكل ينعدم فيه البرهان العقلي وحجته أمام طغيان حجة الرغبة في التملّك. فإذا كان المجتمع "متمدّنا" يكون الرأسمال الرمزي وسيطا لظهور العنف الرمزي سياسيا أو اقتصاديا، فأما سياسيا باستغلال العبارات الدينية أو الطقوس الدينية المناسباتية لإظهار الصدق والورع الزائفين لغاية بسط النفوذ. أمّا اقتصاديا فباستغلال الرموز الدينية أو مواقيت الطقوس التعبّدية أو الإباحة الدينية"حلال"من أجل ترويج منتوج مّا، بشكل يحظر بطريقة غير مباشرة ما سواه. أمّا إذا كان المجتمع "متديّنا" فإنّ ذلك الرأسمال الرمزيّ سيصبح هو عينه عنفا رمزيا يفتتح سلسة لا تنتهي من ممارسات العنف المادية داخل الفضاء العموميّ، مثال ذلك تكفير الخصوم السياسيين أو المنافسين الاقتصاديين ونعتهم بالتجديف والإلحاد، آنذاك يميل المجتمع "المتديّن"أو "التقليدي" أو "الأرذوكسي" ميلا لا عقلانيا مستلبا إلى من له القدرة على استغلال الرأسمال الرمزي الجمعي إستغلالا عبر الوسائط الرمزية العمومية لتحقيق مآرب خاصة. وبناء عليه إذا أقررنا أنّ العنف الرمزي نتاج فوقيّ للعنف المادّي فإنّ العكس يصبح صحيحا أيضا، لأنّ العنف الرمزي إنما هو سادن للعنف المادّي، بشكل استبداليّ مقنّع. فقد يحصل في مجتمع مّا عنف مادّي تكون له نتائجه الرمزية العنيفة، وقد يتطوّر العنف الرمزيّ في مجتمع آخر ليصبح عنفا مادّيا ظاهرا. فلذلك يقع الاستبدال على مستوى شكل ممارسة العنف ووسائله وحامله، في حين أنّ العنف هو نفسه مهما تكن آلياته.تكلفة وبين البنيات الذهنية الحاصلة على مستوى الفكر.
2- العنف مادّيا:
يمكن القبول من حيث التمييز بين أشكال العنف بأنواعها باعتبارها تفضي جميعا إلى العنف المادّي الذي يهدد وجود الآخر في المجتمع بإقصاء مبدأ التحاور الضامن للتجاور، مما يعني تقويض ما يسميه بول ريكور"التعايش" ، المنبني على الاعتراف بالآخر مهما كانت ثقافته، وعلى مبدأ الحوار البنّاء الذي تكون معه عملية إنتاج حقيقة مّا داخل الفضاء العمومي عملية جماعية تشاركية غير إقصائية تضمن استمرار الذات في المجموعة، كلّ هذا يتمّ تقويضه إذا وجد العنف، سواء كان رمزيا أو ماديا، ممن يتبنّاه ويتقمّصه، فيصبح حامل العنف، فردا أو مجموعة، مستلبا، كالخاضع لاستلاب المنتجات الاستهلاكية، بخضوعه لمقولات رمزية مبررة للفعل العنيف،على أنّ الثاني مستلبٌ لأجل الإحياء، أما الأوّل فمستلب لأجل الإفناء، مما يعني أنّ الفرد أو المجموعة إن كانت خاضعة للعنف الرمزي في الاستهلاك مثلا فإن نتيجة ذلك تكديس الربح ومواصلة نفس النهج السياسي لمُصدّر العنف الرمزي، وتحقيق ما نصطلح عليه"الرخاء البيولوجي" فيما يتعلّق بالمستهلك وهما نتيجتان ماديتان. في حين أنّ العنف الديني غايته فيما يخصّ النظام الباثّ للعنف الرمزي إبكات أي حقيقة أخرى تخالفه وإخراسها من أجل بسط مشروعه السياسي، وفيما يخصّ حامل ذلك العنف الرمزي ومتبنيه فغايته ضمان مصالحه المادية وتعنيف الآخر المخالف له وإقصائه لاحتلال مجاله لضمان ما نسميه "الرخاء التيولوجي" وهما نتيجتان ماديتان. وبناء على هذا يتحول أيّ عنف رمزي اتخذ شكلا دينيا، إلى عنف مادّيّ مرتبط بالواقع لا ينفكّ عنه، يتمّ إنتاجه وترويجه بعلاقة جدلية بين الفرد والنظام الديني حتى لكأن الفرد نظام والنظام فرد. ولهذا التداخل نتائجه الوخيمة على المجتمع لأنّ العنف آنذاك يتخذ صفة مادّية واحدة له هي الإرهاب.
ودون الدخول في تفاصيل العنف المادّي باعتباره نتيجة لكلّ أشكال الصراع حتّى الرمزية منها، فإنه يمكن إجمال العنف المادّي جماعيا في الحرب وفرديا في الجريمة . وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى بعض الفوارق في أشكال ممارسة العنف بين الفرد والجماعة، إذ أن الجريمة الجماعية قد تتصل بطبقة من الطبقات الاجتماعية فتكون فيها ظاهرة، أو تتصل بشريحة عمرية في سياق ثقافيّ-تاريخيّ مّا، ويمكن كذلك أن تكون جريمة نظام أو جريمة دولة، حين تنخرط تلك الدولة في تعنيف مجموعة مّا، أو شعب مّا، والفارق بين جريمة الدولة أو النظام والحرب، أنّ جريمة الدولة تكون عنفا موجها لشخص أو لنظام مقاوم، في حين أنّ الحرب تكون بين نظام ونظام أو بين شعب وشعب بغاية التوسع أو لضمان مصالح اقتصادية جيو سياسية. والملاحظ تاريخيا أنّ الانخراط في حرب غالبا ما يمكن تبريره سياسيا واقتصاديا وحتى ثقافيا بما جعل البعض يتحدّث عن "حروب عادلة" لأن غايتها القصوى ضمان السلم، والسلم الذي يتأسس على العنف لا أهلية له. في حين أن جريمة الدولة لا يمكن تبريرها البتة لأنها غالبا ما تنبع من نظام فاشي. أما الجريمة الفردية فلئن كانت ذاتية الدفع، فأسبابها موضوعية إن كانت تتصل بما هو مادّي، بمعنى إن عولجت أسبابها يأفل ظهورها، وهذا النوع من العنف قد يرتدّ إلى الذات فتعتدي الذات على ذاتها إن كانت الأسباب ذاتية، كالعُصاب واضطراب السلوك فتكون ضحية العنف هي نفسها القائمة بفعله أمام واقع العجز والضعف(الانتحار ) وكبت الرغبة (العنف اللفظي المستشري في المجتمعات المكبوتة مثلا).
ومجمل القول أنّ العنف خروج على ضوابط المجتمع الذي يتأسس على ضمان العيش المشترك، وتوابعه خطيرة حين يستشري فيصبح ظاهرة، إذ يتردّى المجتمع إلى نوع من العيش البدائي العدواني القائم على سلطة الغريزة بدل سلطة العقل، الذي تكون وظيفته مقتصرة فقط على "إدارة التوحش". فكل عنف إنما يخفي رغبات نفعية ناجمة عن ضعف وهوان أصيلين، رغم ما يظهره العنف غالبا من قوّة مادّية مؤثرة في البنيان النفسي للمجتمعات.
3- العنف الدّيني:
إنّ العنف الديني هو أخطر أشكال العنف، وذلك باتصاله في نظرنا بمبدأين إثنين يلازمانه فينتجانه أولهما التأسيسla fondation وثانيهما التقديس la sacralisation،في علاقة جدلية بمفهوم الحقيقة la Vérité . ودليل هذا الرأي أن ما يسميه الأنثربولوجيون وعلماء الاجتماع"العنف المؤسس"إنما هو في أصله قائم على تأسيس تاريخي قائم على حقيقة متعالية مفارقة في الغالب تظهر في مجتمع مّا بديلا عن منظومة أو رؤية قائمة تنبني أساسا على إقصاء الآخر المخالف لها، وقيامها على مبدأ التحريم وكبت الرغبة ثم شمولية الخطاب للفرد والجماعة، وهذه الحقيقة المتعالية تستمدّ القداسة من تعاليها فيكون خطابها مقدًّسا مؤسّسا حملته يقدَّسون وهم يؤسّسون، باعتبار أن ما جاء به ذلك الخطاب من شرائع ومناهج تنظيمية ليست إلا دينا جديدا يصبح الاعتقاد فيه واجبا، وهنا تكون العقيدة خاضعة في رؤيتها لتعاليم الحقيقة التي كلما تراكمت في التاريخ كلما زادت قداستها بقانوني الاستعادة والتقمص.إنّ هذا الثالوث (الحقيقة-التقديس-التأسيس) تشترك فيه غالب الأديان المؤسسة ذات المنزع الشمولي، فالدعوة للانضواء تحت جناح هذه الحقيقة أو تلك إنما يكون عند حملتها طقسا يُتقمّص له إهاب قدسي يضمن درجة من الإقناع العاطفيّ للمجموعة وبذلك تتأسس الحقيقة المقدسة في لحظة تاريخية مّا فتنسب إلى نبيّ أو إلى طائفة مّا أو إلى آباء مؤسسين، تصبح تعاليمهم وأفعالهم نماذج تحاكى في التاريخ وتستعاد.
إنّ تقمّص الحقيقة الدينية من حمَلَتها يضفي قدسية على كل عملية استعادة لفعل التأسيس، بوهم إعادة تأسيس التقديس واستعادة النموذج الأصلي للحظة التأسيس، بما في ذلك من تعال عن التاريخ وعن الواقع، وبناء عليه لم يعد العنف الذي يصاحب عملية استعادة التأسيس عنفا رمزيا فحسب، بل هو عنف مادّي مقدّس أما في نظر حمَلَته إن هو إلا طقس من طقوس الديانة تأسّيا بالمؤسّس، وهنا يكون العنف محاكاة مقدسة للأصل . وقد تجد أن هؤلاء الحَمَلة في عملية الاستعادة تلك يقومون بإسقاطات تاريخية خطيرة دون أدنى قراءة للحظة تأسيس التقديس وإكراهاتها التاريخية الموضوعية التي فرضت ربما العنف على الواقع الذي نشأت فيه، وهذه الإسقاطات تلوح في تلاوين خطاباتها المتخللة للخطاب المستعاد بأن يصبح الحمَلةُ حواريين والآخرون شياطين، بل إنّ استعادة العنف المؤسس تتمّ بمباركة من المجموعة إن كانت فردية، وبمباركة الفرد إن كانت جماعية، لأنّ كليهما يشتركان في نفس مَصدر الرؤية. ومن نتائج ذلك أن تكون الدوغمائية الدينية المنغلقة المحمولة مشحونة بخطابات إقصائية استئصالية تقف عاجزة أمام برهان العقل رغم استقوائها بالقداسة الموهومة، وكونها وهما لأنها ترتدّ إلى مبدأ الرغبة إضمارا وإظهارا. وذلك لأنّ التقديس المستعاد إنما ينجُم أساسا في الجانب النفسي عن الحقد، ودوافع الحقد عديدة تُردّ جميعها إلى واقع الحرمان أو الكبت أو العجز عن تغيير بنى الواقع وفق ضوابط ذلك الواقع. ولئن كان العنف المقدس المؤسس قد ظهر تاريخيا في شكل ديني ثقافي متصل بتأسيس ثقافة مّا، فإنّ عملية استعادته جماعيا تتخذ ضرورة شكلا سياسيا متصل بإعادة بناء الواقع وفق رؤية استعادية تخالف مبدأ الواقع، لذلك نجد لها نزوعا تأصيليا جذريا يروم طمس معالم الواقع الذي تنشأ فيه، وفضلا عن العنف المادّي الذي يصاحب عملية تقديس الحقيقة لتأسيسها فإن الرؤى أو الايديولوجيات التي تنتج عنه تتخذ بعدا رمزيا عنيفا يُجذّر النزوع إلى العدوانية والإقصاء، تعاليا منها على التاريخ.(أدلّ مثال من عصرنا مثالان:الكيان الصهيوني باستلهام التراث التوراتي والتنظيمات الجهادية المتأسلمة باستلهام التراث الدموي للخلافة) وبناء على هذا يصبح العنف المقدّس أخطر أنواع العنف وأشدها وبالا على الإنسانية،لأنه مصحوب بخلفية مقدّسة تضادّ التاريخ، ويصدر عن لاوعي جمعيّ يكبت مبدأ الرغبة والتعايش المتسامح، ويتحرّك وفق مبدأ الصراع، وينتهي إلى الفعل السياسي برؤية دوغمائية منغلقة، تقتل إنسانية الإنسان وهي تتطلع إلى نعيم الجنان.
خاتمة:
إنّ البحث في العنف بأشكاله يتطلب جهدا بحثيا متواصلا لفهم الظاهرة وردّها إلى أسبابها، وإيجاد معالجات لها، ولا يجب أن يُكتفى فيها بمكتسبات العلوم الإنسانية والاجتماعية وأن لا يقتصر البحث كذلك على إجراء المفاهيم الجاهزة، إذ لكل مجتمع خصوصياته الثقافية التي تفرض حلولا من صميم نوعية ذلك المجتمع حتى يتمّ تجاوز مجتمع العنف إلى مجتمع السلم، والإنسانية بلا سلم لا أفق لها.. وأما مجتمعنا التونسي، فبعد أن كان العنف فيه مقتصرا على بعده الرمزي أساسا و متصلا بالفرد دون المجموعة، لواقع الكبت والحرمان فيه، فإنه يبدو أنه متمحّض إلى أن يصبح العنف المادي فيه ظاهرة قائمة تهدد أواصر المجتمع ووحدته، لظهور من يتبنّى نهج العنف ويتقمّصه أو يُبطنه، والشخصية التونسية مثل الشخصية العربية الراهنة، شخصية هشة انهزامية لا إيمان لها بذاتها، بما يعني قابلية الفرد أو المجموعة للتأثر المستلب بالخطاب الرمزيّ للعنف، خصوصا أنّ هذا العنف الطارئ أتى مُجرّرا أذياله بلبوس مقدّس.

معز الزّمّوري*

الهوامش والإحالات:
*التصدير مقتطف من الفتوحات المكية لإبن عربي مج 14 ص 255
1- سيغموند فرويد: الطوطم والحرام.ترجمة جورج طرابيشي،دار الطليعة،بيروت(د.ت)ص ص 173-197
2- هذا من فلاسفة العقد الاجتماعي معلوم،وقد اصطلحت عليه الإنسانية فتواضعت حوله أملا في التحضر وتحقيق السلم الاجتماعية.
3- بيار بورديو:الرمز والسلطة.ترجمة عبد السلام بن عبد العالي،دار توبقال للنشر ط3،الدار البيضاء،المغرب .ص30
4- نفسه ص 50 إذ يقول:"السلطة الرمزية هي سلطة بناء الواقع وهي تسعى لإقامة بناء معرفيّ".يراجع في هذا السياق كذلك:روجيه كايوا في كتابه"الإنسان والمقدّس"ترجمة سميرة ريشا،مركز دراسات الوحدة،بيروت2010ص ص 199-241
5- حول العنف الثوري يراجع: فيليب برنو: العنف وعلم الاجتماع، في المجتمع والعنف، تأليف فريق من الاختصاصيين، ترجمة الأب الياس زحلاوي، ط2، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1985 ص95. ونتساءل في هذا المضمار هل يعتبر العنف المقاوم للعنف عنفا؟هل يكون العنف المسلّط من نظام مّا على شعبه مساويا للعنف الذي يردّ به ذلك الشعب؟ثمّ هل العنف الذي يمارسه شعبٌ مّا على سلطة عنيفة بطبعها هو عنف أم مقاومة؟إن كان العنف الثوريّ عنفا رمزيا غايته السلم فإنّ عنف السلطة هو عنف مادّي غايته الحرب أوالاستبداد.
6- بورديو:ص71
7- Bachmann ,C et Le Guennek ,N : Violences urbaines. Paris, Hachette 2002. p117
8- حول مفهوم التعايش coexistence يراجع بول ريكور في"نظرية التأويل":الخطاب وفائض المعنى"،ترجمة سعيد الغانمي،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء 2006 المغرب. ص 103
9- لاحظ ما في أصل لفظ"الرخاء" باللغة العربية من دلالات على الرخاوة والكسل وبلادة الطبع وقعود الهمّة،( لسان العرب ومختار الصحاح والقاموس المحيط). ونختار لما يعنيه في اللغة الفرنسية مصطلح aisance وليس prospérité.
10- Bachmann ,C et Le Guennek ,N : Violences urbaines. Paris,Hachette 2002. p413
11- يراجع:- رينيه جيرار:العنف والمقدس،ترجمة سميرة ريشا،مركز دراسات الوحدة،
بيروت 2009.ص 285-295
-يوسف زيدان:اللاهوت العربي وأصول العنف الديني،ط2 دار الشروق،القاهرة
2010.ص 79
-تركي علي الربيعو: العنف والمقدّس والجنس في الميثولوجيا الإسلامية،المركز
الثقافي العربي،الدار البيضاء ص ص113-118
12- رينيه جيرار:العنف والمقدّس،مرجع مذكور، ص106
13- نفسه،ص 305



#معز_الزموري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - معز الزموري - العنف الدّينيّ بين الرّمزيّ والمادّيّ