أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - أيامُ الرجل الكفيف














المزيد.....

أيامُ الرجل الكفيف


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 6029 - 2018 / 10 / 20 - 15:14
المحور: الادب والفن
    




بعد أيام سيموتُ الرجلُ الكفيفُ الذي عشقتُه حدَّ الهوس. الرجلُ الذي حوَّلَ مِحنتَه القاسية إلى منحة للبشرية ينهلون من نبعها العذب ويشربون من ماء عينيه المُطفأتين فيبصرون. سيموتُ حبيبي بعد عشرة أيام، ويصيرُ أيقونةً إنسانية وفكرية عزَّ نظيرُها.
أحببتُه منذ صباي الأول، حينما وقعت بين يدي مذكّراتُه التي سجّل فيها كلَّ يومٍ من أيام طفولته، فعشتُ معه مأساة ألا ترى لونَ السماء حين يقطعُ زرقتَها طائرٌ أبيض. كانت "الأيام" من أوائل ما قرأتُ في طفولتي من كتب ذات شأن. أتأملُ وجه ذلك الصبيّ الأسمر، وأمسحُ بأناملي على عينيه المقروحتين، وأحمل لأمّه صحنًا به بقايا زيت من قنديل المسجد، كي تدسَّ الزيتَ المقدّس في حدقتيْ عينيه المطفأتين، علّهما تبصران. كنتُ أنامُ إلى جواره في الليل، وألتصق بالحائط وأحكم الغطاء فوق جسدي النحيل وجسده حين نسمعُ عواءَ الذئب وهزيمَ الرياح وحفيفَ الشجر. حيث أخبرني أن تلك الأصواتَ لعفاريتَ تسعى في الحقول لتخطف الأطفال. عماؤه كان يضخِّم الرعبَ من الأصوات في قلبه الصغير، وفي قلبي. نقرأ "المعوذتيْن" لكي نحرق العفريتَ، ونختمُ بسورة يس: "… إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالًا فهي إلى الأذقانِ فهم مُقمحون...". فإذا ما وصلنا إلى قوله تعالى: "فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه تُرجعون."، يكون العفريتُ قد احترق وخمُد صوتُه. فنطمئن وننام. بكيتُ مع كل حزن ضربه، وغضبتُ من قسوة عَريّف الكُتّاب وهو يحفظّنا القرآن. وكنتُ أجمعُ معه أقماعَ السكّر لنرشو الشيخ فلا يضربنا بالفَلَكَة حين نلْحَنُ في الترتيل أو يخوننا الحفظ. فرحتُ بكل سورة أتقن حفظها ورددتُها معه. وعند المساء، أقف خلف باب المندرة أتلصّصُ وأصفّقُ حين أبوه يدعو أصدقاءه ليستمعوا إلى معجزته الصغيرة، الشيخ طه الطفل، وقد أتقن تلاوة جزئيْ "عمّ يتساءلون" و"تبارك". تحسّستُ معه السياج المعشوشب في طريقنا إلى البيت، وعيناي على يديه اللتين صارتا عينين مبصرتين، بدلا من عينيه المغدورتين.
قدّمت مصرُ للحياة رموزًا بشريةً وحضاريةً فريدة على مرّ عصورها، لكن طه حسين يظلُّ عندي النموذجَ الأكثر إثارة للعجب والإعجاب. فرغم عاهته البصرية (أم ترى بسببها؟) كان الأقدرَ على كشف تخوم الحقيقة منذ صباه. ليس صحيحًا أن مدينة النور التي صافحتْ شبابَه هي التي بذرت فيه نواةَ النور والشك في حُجُب الظلام التي تكاثفت ظلالُها فوق سماوات مجتمعاتنا. وليس صحيحًا أن بدايات حِسّه النقديّ الرفيع ظهرت عام 1926 في كتاب "في الشعر الجاهلي"؛ بل كان تمرّده على الظلامية والنقلية جزءًا من بنيته الفكرية ومكوّنه الفلسفيّ، ظهر مبكرًا حين ضجر، وهو صبي، من محاضرات المشايخ الاتباعيين الدوجمائيين. كان ذلك في بدايات عهده بالقاهرة التي جاءها أوائل القرن الماضي طالبًا للدرس في الأزهر؛ بوصفه الكفيفَ الذي لن يستطيع شيئًا إلا حفظ القرآن، وتلاوته على المقابر مقابل بعض القروش وثمرات البلح. لكنه، يدخل الجامعة ويكتب رسالة عن أبي العلاء وينال أول درجة دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية عام 1914، ثم يطير إلى باريس ويكتب رسالته الثانية عن بن خلدون فينال درجة الدكتوراه الثانية بعد خمس سنوات فقط.
سألتُ جدّي سؤالا طفوليًّا: "لو أن طه حسين، وهو مَن هو في عالم الأدب والفلسفة واللغة، قد وافق على إجراء عملية ترقيع قرنية وصار مبصرًا، ثم أمسك ورقة وقلمًا ليكتب، هل كان سيكتب؟ أم كان سيكتشف فجأة أنه أميٌّ لا يعرف الأبجدية؟" أطرق جدّي في حزن وقال: “هو الذي علمنا كيف نكتب ونقرأ، وكيف نفكر.”
تقول النظريةُ العلمية إن بداخل الإنسان طاقةً تكافئ طاقة ثلاثين قنبلة هيدروجينية. نعطلها ولا نُفعّل إلا أقل قليلها. فهل فَعّل الرجلُ طاقاتِه كاملةً ليحوّل البلاءَ إلى عظمة وسموّ؟ مَنْ مثله حورب ورُمي بالكفر والإلحاد ولم يُكسر؟ مَن مثله تناولته الأحجارُ والأحقاد أينما حطَّ وحيثما ولّى شطرَه فلم يزدد إلا علوًّا ومجدًا؟ ومَن سواه صدّر أحد كتبه قائلا: "أُهدي كتابي هذا إلى الذين لا يعملون، ويسوؤهم أن يعملَ الآخرون." طه حسين، حبيبي، كان المبصرَ بين أرتال من العميان.

***



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثلاثون عامًا على ميلاد الجميلة
- سوق برقاش... يا سيادة الرئيس!
- ليزا وأطفالي …. وقانون الطيران
- الرئيس يستثمر في الإنسان في مؤتمر شرم الشيخ
- الرئيس يستثمر في الإنسان
- مُعلِّمةُ البيانو
- كمال الجنزوري …. فارسُ البسطاء
- الطريق إلى العمّ نجيب
- دولة الأوبرا في حضن البتول
- يهودُ مصرَ …… المصريون
- دمشاو هاشم …. احذروا القُبلَةَ الخائنة
- رجاء الجميلة … سلامتك
- طوبَى لصُنّاع الفرح
- أشهرُ صفقة باب في التاريخ
- هرمُ الإسكندرية ... والشيخُ سيد
- حين يفترسُنا العشقُ سرًّا
- دموعٌ على جديلة … وآيسبرج على حُفاة!
- بوق نذير: -أنتِ ماحساش بالناس-!
- هل تعرفون المصريين الأرمن؟
- أسئلةُ -جوجان- الصعبة


المزيد.....




- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - أيامُ الرجل الكفيف