عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري
الحوار المتمدن-العدد: 6014 - 2018 / 10 / 5 - 12:51
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية, لقبه المشهور : مروان الحمار. وحتى لا يتهمني القارئ بالجرأة على خليفة أموي كانت دولته من أكبر الإمبراطوريات في التاريخ, أسارع إلى القول بأن المؤرخين على اختلاف ميولهم أعطوه اللقب من باب الثناء, وهو ثناء تؤيده الوقائع التي تخللت أيام حكمه. فقد كان يصل السير بالسير, ويصبر على ويلات و مكاره الحرب. ويقال في المثل: فلان أصبر من حمار في الحرب.
ما الأسباب التي دعت الخليفة الأموي مروان بن محمد لمنع لعب الشطرنج في دولته عبر منشور عام يوزعه على الأمصار؟ وهل كانت لعبة الشطرنج من الأسباب التي فطن إليها الخليفة فحاربها لمنع سقوط الدولة الأموية؟
على كل حال لم تكن خلافة مروان بن محمد عهداً موسوماً بالراحة والإخلاد إلى السكينة, بل كانت فترة عاصفة بالتقلبات والفتن, فالثائرون في كل مكان, وما يكاد مروان بن محمد يقضي على أحدهم حتى تنشقّ الأرض عن ثائر آخر. وختمت تلك الثورات بظهور أبي مسلم وأعوانه في خرسان, واجتياحهم المشرق كله, ولذلك كانت أيام مروان تنقلاً من مكان إلى آخر, وتعبئة الجيوش, وقودها أو إسناد قيادتها إلى أحد ولديه أو واحد من أعوانه.
كان مروان بن محمد مشهوراً بالفروسية, والإقدام, والدهاء, والعسف. بويع خليفة للمسلمين في منتصف شهر صفر سنة سبع وعشرين ومائة للهجرة. وقد شارك عبد الحميد بن يحيى الكاتب , أمين سر مروان بن محمد وكاتبه, في هذه الحركة الدائبة, وكتب عنه الرسائل الكثيرة ومعظمها يتحدث عن فتنة هنا وخروج هناك, وأخذت الارهاصات كلها تومىء نحو نهاية فاجعة.
فقد لاحظ المسعودي في تعداده صفات هذا الخليفة أنه كان "يلقى أموره وهي مُدبرة ويريد أن يجعلها مُقبلة" وتعبر هذه الملاحظة الدقيقة عن مأساته الحقيقية. فقد جاء مروان بن محمد في نهاية السلسلة الطويلة من الأسباب والظروف التي أثارتها السياسة الأموية وأوصلت دولتهم إلى نقطة التلاشي. ومع ظهور قائد محنك كمروان بن محمد يبقى من المستحيل تفادي هذا المصير, لأن نجاح القيادة رهن بالظروف المواتية, أما حين تكون الأمور مدبرة, كما يقول المسعودي, فليس بمقدور أية قيادة مهما بلغت من الكفاءة أن تجعلها مُقبلة. ومن الأمور العجيبة في إدبار الزمان عن مروان بن محمد انقلاب الطبيعة ضده فقد فاض نهر الفرات في أيامه وشرد أهل القرى والخيام على ضفتيه. وقد وصلتنا رسالة شيقة بقلم عبد الحميد الكاتب تصف حال أمير المؤمنين الذي أصبح مرتاعاً وجلاً لما أصاب أهل الفرات من الغرق وخراب الديار.
وتحكي الروايات عن المعركة الأخيرة لجيش مروان بن محمد عند نهر الزاب الكبير أنها كانت امتحاناً عسيراً, لا لخططه الحربية البارعة وعقليته العسكرية الفذة, وإنما لقدرة جيوشه على الاستمرار والتحمل والصبر. انكسرت جيوشه وهرب مروان مع كاتبه عبد الحميد إلى الشام, ثم بلغا في مسيرهما إلى بوصير بمصر, فقبض على مروان وقتل سنة 132 هجرية, قتله عامر بن إسماعيل المسلي صاحب طلائع صالح بن علي, ولم يقتل عبد الحميد الكاتب وإنما أمر بإرساله إلى أبي العباس السفاح, فسلّمه هذا إلى عبد الجبار بن عبد الرحمن, فكان يحمي دستاً وفيه الزيت, ثم يضع الدست على رأس عبد الحميد, فلم يزل يفعل به ذلك حتى مات سنة 133 هجرية.
ظل عبد الحميد الكاتب على مدى ما يقارب سبعة وعشرين عاماً يكتب, بصفته موظفاً في الديوان, رسائل مختلفة بلغت ألف ورقة. وقد ضاع من رسائله القسم الأكبر, وما بقي منها لا يتجاوز خمسين ورقة. قام بجهد إعداد ما تبقى من هذه الرسائل العلامة الفاضل الدكتور إحسان عباس -رحمه الله- وقدمها مع دراسة قيِّمة عن عبد الحميد الكاتب. ومن جملة هذه الرسائل التي سلمت من عاديات الزمان "رسالة في الشطرنج" كُتبت بأمر من الخليفة مروان بن محمد يمنع فيها لعب الشطرنج في دولته. فما الأسباب التي دعت الخليفة لتبني هذه الفكرة في منشور عام يوزعه على الأمصار؟ وفي ظني أن شيوع هذه الرسالة وشهرتها في البلاد قد حفظها وحماها من الضياع.
إن الرسالة توضح أن المجتمع الأموي كان قد غمرته موجة من الانكباب على الشطرنج, فاللاعبون يعكفون عليه من الصبح إلى المساء - وهذا شبيه ما يفعله أهل هذا الزمان في بلاد الشام مع لعبة الشّدة الشائعة أو الكتشينة في مصر- وبذلك تفوتهم الواجبات الدينية والدنيوية, وهم في مداعباتهم بعضهم البعض يستعملون ألفاظاً فظة سيئة, كما أنهم يجاهرون بلعبها في الأندية والمجالس, وتضيف الرسالة سبباً آخر, من المستبعد أن نربطها بالشطرنج, إذا قيل في الرسالة إنها تضر بالعقول, مع أن المعروف عن الشطرنج أنها لعبة ذكاء تمرن الذهن.
جاء في الحكايات أن مخترعها يعمل معلماً للأولاد في بلاد الهند, وقد دهشته رقعة الشطرنج واختلاف الأوضاع الممكنة فيها, فقدمها هدية لملك الهند. تقول الروايات أن الملك سر لهذا الاختراع النادر وأمر بمكافأة مجزية تصرف لهذا الحكيم المتواضع. وسأل الملك مخترع الشطرنج عما يتمناه, فصمت الحكيم مفكراً ثم قال: تعلم أيها الملك المقتدر أن رقعة الشطرنج تتألف من أربعة وستين مربعاً وأريد أن تضع لي في المربع الأول حبة قمح واحدة وفي المربع الثاني حبتين وفي المربع الثالث أربع حبات, وهكذا تضاعف عدد الحبات في كل مربع عن سابقه حتى نهاية المربعات. فتعجب الملك من هذا الطلب المتواضع, وأمر بتحقيق رغبته. وعندما قام أعوان الملك بحساب الكمية التي طلبها الحكيم جائزة له تبن لهم أن سائر مخازن المملكة من القمح لا تكفي لذلك, مما زاد إعجاب الملك بلعبة الشطرنج ومبتدعها.
ولتوضيح هذا اللبس عدت إلى مؤلف كتاب "الرياضيات المسلية" للروسي ياكوف بيريلمان الذي حسب عدد حبات القمح فكان هذا الرقم العجيب (1844674407379551615) وإذا قدرنا أن المتر المكعب من القمح يعادل 15 مليون حبة, وهذا يعني أن مكافأة مخترع الشطرنج يجب أن تشغل مخزناً يبلغ حجمه (12000 ) كيلو متراً مكعباً, وإذا كان ارتفاع المخزن 4 أمتار وعرضه 10 أمتار لوجب أن يمتد لمسافة 300 مليون كيلو متر, أي أكبر بمرتين من بعد الأرض عن الشمس. وهذه من عجائب الرياضيات المدهشة.وقد جاء في الأثر أن الخليفة المأمون بن هارون الرشيد صاح ذات يوم مستغرباً فشله في قيادة هذه اللعبة: أنا الذي يحكم العالم من نهر السند شرقاً إلى الأندلس غرباً لا استطيع أن أسوس اثنين وثلاثين قطعة شطرنج في مساحة ذراعين بذراعين. لا بأس عليك يا أبا العباس , فأنت خير من ساس الناس. وقد اتفق الذين كتبوا عن فيلسوف المعرة أنه لعب الشطرنج, وقد احتار طه حسين في تفسير هذا الأمر في كتابه الشهير:تجديد ذكرى أبي العلاء. وسأل: كيف يلعب الأعمى الشطرنج؟ وقال: ما نشك في إحدى اثنين: إما أن تكون الرواية مكذوبة مصدرها المبالغة فيما شاع عن ذكاء الرجل وقوة حسه, وصدق فطنته, وإما أن تكون لعبة الشطرنج قد كانت بأحجار معلَّمة تميزها الأيدي. وأغلب الظن أن طه حسين لو قرأ رسالة عبد الحميد الكاتب في الشطرنج لأدرك أن العميان يلعبون الشطرنج بفطنة ودراية ممتازة في العهد الأموي.
أما الخليفة الأموي مروان بن محمد فقد أرقته هذه الرقعة الصغيرة التي تسمى الشطرنج فأمر بمنعها في الدولة التي يحكمها, مستأنساً برأي أهل المدينة الذي يمثّله الإمام مالك بن أنس. فقد سُئل مالك عن الشطرنج فقال: لا خير فيه وليس بشيء وهو من الباطل واللعب كله باطل. وهذا الحذر من الشطرنج يرجع إلى الخوف من ارتباط اللعب بأمور مستنكرة, إذ يقترن أحياناً بها القمار والسفه في تشهير المغلوب. ومع ذلك فإن رأي مالك لا يفهم منه التحريم الكلي, وإنما هو إشارة إلى الكراهية وحسب. يضاف إلى ذلك كله أن أحجار الشطرنج في العصر الأموي ظلت على هيئة تماثيل مجسَّمة تتعارض مع مفهوم الدين الإسلامي في التصوير.
غير أن الدكتور إحسان عباس في تحليله لنص الرسالة يرجح أسباباً أخرى كانت حافزة لصدورها, إذ لو دققنا النظر لوجدنا أن كثيراً من الفئات التي تلعب الشطرنج لم تكن قريبة من الأمويين, بل يمكن القول أن أغلبها في الصف المعارض لحكم بني أمية. وروي عن علي بن الحسين أنه كان يلاعب أهله بالشطرنج, وكذلك شاع الشطرنج بين قراء ثاروا ذات يوم على الدولة الأموية مثل سعيد بن جبير, أبو عبد الله أعلم التابعين على الإطلاق, قتله الحجاج لاشتراكه في ثورة عبد الرحمن بن الأشعث على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة 95 هجرية. وقد بلغ من مهارة سعيد بن جبير في لعبة الشطرنج أنه كان يلعب مستدبراً, وذلك أنه كان يحول وجهه ويقال له لعب صاحبك كذا , فيقول ألعب كذا. وقد رُئي الشعبي - أحد التابعين الكبار - وفي لحيته قصب مغروز, فلما سئل عن ذلك قال: كلما غلبوني مرة غرزوا في لحيتي قصبة. إنه لمن المستبعد أن نستنتج من ذلك كله أن الدولة كانت ترى في إقبال الفئات المناوئة لها على تلك اللعبة تمريناً على أساليب الكر والفر. ولكن انتشار اللعبة وزيادة عدد المقبلين عليها كان يعني خلق فرص جديدة من مجالس ومنتديات لنقد الدولة, وتذاكر الناس لحقوقهم المهضومة. كما كانت تلك المجالس والمنتديات مجالاً لاجتماع المعارضة, ظاهرها لعب الشطرنج, وباطنها إشاعة النقمة على الدولة وسياستها.
وفي عصرنا الحديث هذا وجدتُ في أغلب مذكرات السجناء في سجون الأنظمة العربية كافة أن "السجناء السياسيين" كانوا يصنعون أحجار الشطرنج في الزنزانات من "فتات الخبز" بعد عجنه بالماء ومن ثمَّ يشكلونه على هيئة ملك ووزير وفيلين وحصانين وقلعتين وثمانية بيادق, ويلعبون بها على رقعة شطرنج الأنظمة العربية ...كش ملك.
#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟