|
الآباء الأوائل بين التاريخ والأسطورة
أدهم محمود
الحوار المتمدن-العدد: 6008 - 2018 / 9 / 29 - 12:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ظل الناس لقرون يؤمنون بأن العهد القديم ليس فقط كلمة الله المقدسة التي أوحى بها إلى بشر استثنائيين، بل يمثل أيضًا تاريخًا دقيقًا لأحداث الكون الكبرى وتاريخ شعبه المختار. فالله قطعًا أرسل الطوفان ليدمر العالم، واصطفى أبرام ليكون أبًا لشعبه المختار، قبل أن يقودهم موسى من مصر محررًا، ويفتح بهم يشوع أرض كنعان، ليحكم منها سليمان مملكة عظيمة. ولكن ما إن راحت معاول الآثاريين تضرب في الأرض، ومع إعلان جورج سميث تعرفه على حكاية تشبه حكاية الطوفان التوراتي بملحمة جلجامش في العام 1872، يمكن القول أن العهد القديم، منذ تلك اللحظة، قد فقد الصفة التي لطالما تمتع بها، وعاد ليأخذ مكانه بين نظائره في زمرة التراث الأدبي الإنساني كأحد إنتاجات الخيال البشري الخصب لا وحي السماء الإعجازي. وبعد مرور قرن على صياغة يوليوس فيلهاوزن لفرضيته الوثائقية1، ومع التحول الحاصل في مسار البحث التوراتي منذ سبعينيات القرن الماضي على يد باحثين كتوماس تومسون وجون فان سيترز، وانتظام البينات الأركيولوجية (الآثارية) الجديدة التي بدأت في التدفق إلى المسرح منذ الثمانينيات في شبكة واضحة، صار بالإمكان الآن إعادة بناء التاريخ التوراتي على أسس جديدة، وإعادة قراءة التوراة على ضوئها لا العكس كما كان يتم في السابق.
تاريخ الآباء برواية سفر التكوين
تبدأ القصة التوراتية روايتها للتاريخ الإسرائيلي بهجرة أسرة أبرام بقيادة أبيه تارح من أور الكلدانيين إلى حاران – لسبب لا يكشف عنه النص – ليقيموا هناك فترة من الزمن قبل أن ينزل نداء الرب على أبرام ليطلب منه الهجرة إلى أرض كنعان حيث يعده بذرية عظيمة تسود كل شعوب الأرض. أطاع أبرام كلمات الرب وأخذ زوجته وابن أخيه لوط وغادر إلى أرض كنعان حيث أخذ يتجول بقطعانه في أنحاء المرتفعات المركزية؛ من شكيم (نابلس) في الشمال مرورًا ببيت إيل شمال أورشليم، وصولًا لحبرون (الخليل) في الجنوب، حيث يقيم المذابح هنا وهناك، ويخوض مغامرة في مصر مع فرعون [سفر التكوين 10:12-20] قبل أن يعود إلى كنعان ويفترق عن ابنه عمه لوط [تك 13] قبل أن يعود محاربًا وينقذه من الأسر [تك 14]. ثم يقطع الرب ميثاقه مع أبرام بأن يعطيه هذه الأرض [تك 15]، قبل أن يظهر له مجددًا [تك 17] ويجدد معه العهد ويبشره بإسحاق، ويغيّر اسمه إلى إبراهيم. ثم يسرد لنا الإصحاح العشرون من سفر التكوين حكاية إبراهيم مع أبيمالك الذي احتال عليه إبراهيم بنفس الطريقة التي احتال بها على فرعون. تلد سارة إسحاق بعد معجزة من الرب [تك 21] ويفديه الرب بكبش [تك 22] قبل أن إبراهيم على ذبحه بعد أمر منه. يشيخ إبراهيم ويطلب من كبير بيته أن يقود إسحاق ليأخذ له زوجة من ناحور في الشمال، فيأخذ رفقة ابنة بتوئيل ابنة ناحور [تك 24]. ويمضي بنا السفر ليروي لنا قصة إسحاق طبق الأصل من مغامرة إبراهيم مع أبيمالك. بعد ذاك يروي لنا السفر سرقة يعقوب للبركة من أخيه عيسو، وذهابه عند خاله لابان ليتخذ لنفسه زوجة، إلى أن يمنح يهوذا حق السيادة على إخوته في نهاية سفر التكوين. والسؤال هنا، ما موضع تلك القصص من التاريخ بمعيارنا الحديث للتاريخ؟ وهل وُجدت شخصيات كإبراهيم وإسحاق ويعقوب فعلًا؟ تاريخ الآباء وعلم الآثار هناك محاولتين رئيسيتين قام بهما اثنين من الباحثين المحافظين لإيجاد موطئ قدم لمرويات الآباء الواردة بسفر التكوين في السياق العام لتاريخ الشرق الأدنى، باعتبارها تنطوي، في جوهرها، على أحداث تاريخية حقيقة، تصدى لهما الآثاري الإسرائيلي إسرائيل فنكلشتاين في كتابه أركيولوجيا العهد القديم بالعرض والتفنيد كالتالي:
1. العصر البرونزي الوسيط (الفرضية الأمورية/العمورية)2. حاول الآثاري الشهير ويليام فوكس أولبرايت وضع هجرة إبراهيم ضمن سياق غزو/هجرة أمورية مفترضة حدثت في بداية الألف الثاني قبل الميلاد انهارت على إثرها ثقافة البرونز المبكر المزدهرة في بلاد كنعان. إلا أن هذا الحل لم يصمد أما النقد، حيث أن الربط بين انهيار ثقافات البرونز المبكر وبين غزو أموري مفترض تنفيه حقيقة أن هذا الانهيار كان انهيارًا تدريجيًا حدث على مدار عدة عقود ولم يكن مفاجئًا أبدًا، وذلك نتيجة هجر السكان لتلك المناطق على أثر تحولات مناخية. حتى أن تلك الخلفية الرعوية لترحالات الآباء لا تنسجم في سياق العصر البرونزي الوسيط (بين المبكر والمتوسط) الذي عرف ثقافات حضرية زراعية متطورة وإن لم تكن كسابقاتها. ضف إلى ذلك أن الدلائل تشير إلى وجود استمرارية ثقافية واضحة في العصر الوسيط، وأن سكان هذا العصر هم من أعادوا تأسيس حضارة العصر المبكر في العصر المتوسط مما ينفي تمامًا فرضية غزو أموري شمالي. وأخيرًا، تشير الدلائل الأركيولوجية إلى أن المدن المذكورة في مرويات الآباء كشكيم وبئر سبع وحبرون وجرار لم تكن موجودة أصلاً آنذاك. 2. العصر البرونزي المتوسط. المحاولة الثانية جاءت من رولاند دي فو الذى رشح العصر البرونزي المتوسط (2000-1550) ليكون خلفية لأحداث عصر الآباء؛ فمدن كشكيم وبيت إيل وحبرون وجرار كانت عبارة عن قلاع محصنة ما يتلاءم مع الصورة التوراتية عن ثنائية ’’الخيمة والمدينة‘‘، بالإضافة إلى تشابه أسماء الآباء مع أسماء عمورية سادت في أوائل الألف الثاني قبل الميلاد زاعماً أنها لم تظهر بشكل كبير في العصور اللاحقة. كما أشار العالمان ساويرس جوردن وأفرايم سبايرز إلى التشابه في الممارسات الاجتماعية والقانونية بين نصوص نوزي وممارسات الآباء. إلا أن هذا العصر لا يصلح أيضًا كخلفية لعصر الآباء، حيث لم يأت النص التوراتي على ذكر لمدن مهمة وقوية كانت قائمة آنذاك كمجدو وحاصور وجازر وحتى أورشليم. أما عن حجة الأسماء فيمكن الرد عليها بأن أسماء شبيهة بتلك الأسماء قد وردت بشكل متكرر في عصور لاحقة، كاسم يعقوب مثلًا الذي كان شائعًا حتى القرن الخامس قبل الميلاد، مما يعني أنها لا تنتمي حصرًا لفترة بعينها. أما عن التشابهات مع نصوص نوزي، فإن تلك الممارسات الاجتماعية لا تقتصر على البرونز المتوسط، بل هناك آثار لها يمكن تتبعها حتى قرون لاحقة.
خيال بلون التاريخ
يشيع بين العديد من المحافظين المتمسكين بتاريخية الآباء وحكاياتهم – والتقاليد التوراتية بشكل عام – حجة مفادها بأن غياب الدليل لا يعني بالضرورة عدم تاريخية تلك التقاليد، أو أن غياب الدليل حاليًا لا يعني غياب الدليل في المطلق، فعاجلًا أم آجلًا ستكشف الأطلال عما تحتها وتشهد بالحق. إلا أننا سنرى هنا أن مشكلة تلك التقاليد ليست في غياب الدليل عليها، بل مشكلتها في الواقع أنها لا تقول أي شيء تاريخي أصلًا، ولم يُقدر لها أن تقول. فقراءة مدققة لرواية الأصول الإسرائيلية توضح أن تلك الرواية ما هي في الواقع إلا عبارة عن عدة مرويات منفصلة شكلًا ومضمونًا. بعضها مجرد حكايات فلكلورية شعبية لم يُوجد أصلًا سوى للتسلية، والبعض الآخر منها ما هو إلا ’’وقائع نفسانية‘‘؛ أي استعارات أدبية تعكس مشاعر صاحبها تجاه واقع تاريخي معين، وبهذا المعنى، يمكن القول بأن الأساس التاريخي لرواية الآباء ككل تتأرجح بين الأساس التاريخي لحكايات كحكايات الأخوين غريم، وبين حكاية كحكاية الملك آرثر مثلًا. سنرى أن تلك المرويات على اختلافها، وتنوع سياقاتها وأهدافها، لم تُجمع معًا سوى في عملية تحريرية متأخرة للغاية لا تزيد في أفضل الأحوال عن القرن السادس قبل الميلاد، لتُشكل، في مجموعها، رواية واحدة ذات سياق زمني مطرد، وذات رسالة لاهوتية وقومية معينة تعكس مصالح وأحلام ومخاوف سكان يهوذا قبل سقوط أورشليم.3
العالم الأدبي لحكايات الآباء
إذا لم تكن حكايات الآباء تنتمي لأي من الفترات المقترحة سابقًا، فلأي فترة تنتمي، ومتى كُتبت؟ ساق إسرائيل فنلكشتاين عدد من الإشارات الإثنية والجغرافية التي يمكن من خلالها تضييق الفترة الزمنية المقترحة لعصر تأليف وتدوين حكايات الآباء استنادًا إلى سفر التكوين. فأولًا: هناك الآراميين الذين يهيمنون على قصص زواج يعقوب وراحيل، وعلاقة يعقوب مع خاله لابان، ومن المُعروف أن ظهور الآراميين على مسرح التاريخ كمجموعة إثنية لم يكن قبل القرن الحادي عشر، وظهورهم كقوى سياسية مؤثرة على الحدود الشمالية للإسرائيليين لم يكن قبل القرن التاسع، ومن ثم يمكن النظر إلى حكاية يعقوب ولابان بأنها تعكس على نحو مجازي العلاقات المعقدة بين المملكة الآرامية آرام دمشق، ومملكة إسرائيل السامرة. ثانيًا: المؤابيين والعمونيين، التي لم تزدهر ممالكهما وتصبح جزءًا من المسرح السياسي الإقليمي سوى بعد القرن التاسع. ويخبرنا سفر التكوين أن هاتين الأمتين وُلدتا من علاقة زنا بين لوط وابنتيه، الأمر الذي يعكس نظرة الاستحقار التي حملها الإسرائيليون تجاه شعوب هاتين المملكتين. حيث أنه من المعروف أن مملكة إسرائيل السامرة قد سيطرت على مؤاب في أوائل القرن التاسع. ثالثًا: هناك قصة يعقوب مع عيسو التي تشكل استعارة أدبية لنظرة يهوذا القرن السابع لآدوم، حيث تفيدنا المصادر الأشورية إلى أنه لم يكن للأدوميين دولة قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد. ولم تصبح آدوم منافسة ليهوذا سوى إبان السيطرة الآشورية على المنطقة. رابعًا: هذا الذكر المتكرر للجمال لاسيما في قصة بيع يوسف، ومن المعروف أن الجمال لم يشع استخدامها كدواب لحمل الأثقال إلا في عصر الحديد الثاني إبان الهيمنة الآشورية على المنطقة. وقد كشفت التنقيبات التي تمت في موقع تل الجمة، الذي كان مخزنًا مهمًا على طريق التجارة بين الجزيرة العربية والبحر المتوسط، عن زيادة كبيرة في عظام الجمال في القرن السابع. خامسًا: تلك الإشارة إلى جرار الفلسطينية التي لم تزدهر سوى في القرنين السابع والسادس، وقبل ذلك كانت مجرد قرية ضئيلة الشأن. سادسًا: ذكر مدينة أور ملحقة بالصفة الكلدانية، والتي بالطبع لم تحمل تلك الصفة سوى إبان حكم سلالة بابل الأخيرة في القرن السادس. بوضع هذه المؤشرات بجانب بعضها البعض، نخلص إلى أن عالم الآباء يقع بين القرنين السابع والسادس؛ أي بعد خمسة عشر قرنًا على الفترة المفترضة للزمن الذي عاشوا فيه.
يهوذا القرن السابع كإطار نفسي لرواية الآباء
سقطت إسرائيل السامرة سنة 721 على يد قوات الملك الآشوري صارغون الثاني الذي عمد إلى تصفية المدينة وإحلال أقوام أخرى محل السكان الأصليين بعد محاولتهم التمرد. تشتت سكان إسرائيل السامرة في أنحاء الشرق الأدنى، وكان لمملكة يهوذا نصيب من هذا الشتات. حيث ازداد عدد سكان يهوذا بعد تصفية السامرة، وازدهرت بشكل كبير، وطورت مؤسسات إدارية ودينية قوية، وظهرت كقوة بارزة في المنطقة. من هذا الواقع، طوّرت يهوذا (الفقيرة الضئيلة الشأن) شعورًا قوميًا بأهميتها ورسالتها الإلهية المقدسة. لقد رأت في بقائها شاهدًا على إرادة الرب، وبأنها الوريث الشرعي لأراضي إسرائيل الشمالية. وفي هذا المناخ المضطرم بالمشاعر القومية والدينية، وٌلدت فكرة كل إسرائيل أو إسرائيل الموَحدة التي مركزها أورشليم يهوذا3، وتبلّور الواقع النفساني الكامن وراء تقاليد الآباء والتقاليد التوراتية بشكل عام. وفي هذه اللحظة الحاسمة، ظهر الملك يوشيا الذي يُعد عهده هو ذروة التاريخ اليهوذي. أخذ الملك يوشيا على عاتقه تنفيذ المهمة التي أوكلها القدر إلى يهوذا، وهي "استعادة" أراضي الشمال و"توحيدها" مرة أخرى مع الجنوب، فانبرى إلى إجراء إصلاحات دينية تهدف إلى توحيد العبادة في الهيكل الأورشليمي، استنادًا إلى كتاب العهد الذي عثر عليه النبي حلقيا في الهيكل4 في السنة الثامنة عشر من حكمه، فشرع في تطهير الهيكل من أشكال العبادة غير اليهوية، وتحطيم أماكن العبادة خارج أورشليم. وفي هذه الأثناء أيضًا، كان المسرح الإقليمي يموج أيضًا بتحولات كبيرة، وتغيرات دراماتيكية في ميزان القوى. ففي الشرق، أخذت آشور في الاضمحلال في عهد الملك آشور نيبال، حيث انسحبت القوات الآشورية من مصر ومن المناطق الكنعانية التي احتلتها في السابق لتتركها لمصر لتسيطر عليها مقابل أن تقدم لها الدعم العسكري عند الحاجة. أما في مصر، فقد بدأ الملك بسماتيك عملية إحياء واسعة بهدف إعادة الإمبراطورية المصرية إلى سابق عهدها، كما كانت في عهد الرعامسة، بعد خروج الآشوريين، فسعى إلى استعادة النفوذ المصري على المناطق الكنعانية التي تركها الآشوريون. بعدئذ، استنجد الملك الآشوري ببسماتيك لتقديم الدعم العسكري له في صراعه مع البابليين، فانطلق لنجدته إلا أنه مات في الطريق ليخلفه ابنه نخاو الثاني. مثلت لحظة انسحاب الآشوريين من إسرائيل السامرة الفرصة التي تحينها يوشيا لتحقيق الأحلام اليهوذية ببسط نفوذهم شمالًا وحكم إمبراطورية واسعة. إلا أن أحلامهم اصطدمت بالفرعون المصري نخاو الثاني الذي قتل يوشيا بينما كان في طريقه شمالًا ليكتب النهاية للإمبراطورية اليهوذية قبل أن ترى النور حتى. وبعد عدة سنوات من مقتل يوشيا، سقطت أورشليم في يد نبوخذ نصر الذي دمرها في النهاية ونفى سكانها إلى بابل.
المحرر J ورسالة التوراة الشاملة
بعد سقوط السامرة، واختلاط سكان يهوذا بسكان إسرائيل، وإدراك يهوذا لأهميتها لكونها المملكة الوحيدة المستقلة آنذاك، وجد المحرر J نفسه أمام تركة من التقاليد القديمة المتفرقة والحبكات والموتيفات المتنوعة التي يتعين عليه تنظيمها لخدمة غرضه وهمه الرئيسي: المملكة الموحدة من النيل للفرات، وأوّلية يهوذا. أما منهجه في تحقيق هذا الغرض فقد تمحور حول توحيد عدد من التقاليد المتفرقة المستقلة وحشرها في سلسلة الأنساب التي ابتكرها لخلق سياق زمني مطرد لقصته. الوعد: يعد ثيم الوعد أحد العناصر الأساسية – بجانب سلاسل الأنساب والبؤر الجغرافية - التي استخدمها المحرر J في ربط تقاليد الآباء ببعضها البعض وخدمة همه الرئيسي بالتأكيد على كون يهوذا هي الوريث الشرعي لأرض كل إسرائيل. يأتي الوعد الأول مع نداء الرب لإبراهيم بالهجرة إلى كنعان والوعد بذرية كبيرة (تك 1.12)، ثم يأخذ الوعد صيغة أوسع بعد افتراق إبراهيم عن لوط ليشمل، مع الوعد بالذرية الكبيرة، الأرض (تك 14.13). يؤكد الرب على الوعد مع إبراهيم من خلال العهد الذي يقطعه معه (تك 15). يتكرر الوعد مع إبراهيم في مواضع أخرى عديدة من سفر التكوين تشمل: (18.17-18؛ 21.13، 18؛ 22.15-18؛ 24.60,7). أما في قصص إسحاق القليلة أصلًا، فقد اقتصر ظهور الوعد على الآيات 3-24،5 من الإصحاح السادس والعشرين. أما في قصص يعقوب، فقد تجدد وعد آبائه معه في المواضع التالية: 28.10-22؛ 31.3، 42،29؛32؛ 32.10-13؛ 35.1-7. وحدة إسرائيل وأوّلية يهوذا: في سعيه للتأكيد على أوّلية يهوذا ووحدة إسرائيل، قام المحرر J بربط تقاليد الآباء الثلاثة، المستقلة في أصلها، ببعضها البعض. فبالنظر إلى البؤر الجغرافية التي تحرك بينها الآباء، يمكن القول أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب هم مجرد أسلاف مجازيين لقبائل مختلفة؛ فإبراهيم مرتبط بقبائل الجزء الجنوبي من المرتفعات المركزية ولاسيما حبرون، أما إسحاق فيرتبط بقبائل بئر سبع وصحراء النقب، فيما يرتبط يعقوب بالقبائل الشمالية في إسرائيل السامرة. وحّد المحرر J بين هؤلاء الأسلاف المنفصلين في سلسلة أنساب واحدة لخلق تاريخ موحد، وجعل من إبراهيم أول تلك السلسلة كأب لهؤلاء الأسلاف للتأكيد على أوّلية يهوذا التي ينتمي إليها المحرر. يُضاف إلى ذلك ربط المحرر مصير كلًا من إسحاق ويعقوب بحاران موطن إبراهيم من خلال علاقات الزواج، وبحبرون محل إقامته كموضع لقبورهم. أما عن سبب اختيار المحرر J (أو محرر السبي) لخط أور-حاران كمسار هجرة لأسرة إبراهيم فيمكن رده إلى الأهمية التي حظيت بهما المدينتين في عصر الملك نوبنائيد آخر الملوك الكلدانيين وعملية الإحياء الشاملة التي شملتهما، نظرًا لارتباطهما بعبادة الإله القمري سين، ومن المعروف أن جدته لأبيه وكذلك والداه كانوا من كهنة معبد هذا الإله في حاران، أو أنها تتشابه مع حكايات عن الأسلاف المجازيين لبلدات بحاران حيث تذكر المصادر الآشورية بلدات تحمل أسماءً شبيهة بأسماء أسلاف إبراهيم كتارح وناحور.
الهوامش
1. تنص الفرض الوثائقية، استنادًا إلى بعض الدلائل الجغرافية واللغوية والأدبية، على أن الأسفار الخمس الأولى من الكتاب المقدس هي في الحقيقة مجموع أربعة مصادر كانت مستقلة في الأصل، ثم جُمعت معًا في مرحلة متأخرة. هذه المصادر هي المصدر اليهوي J الذي كان يُنسب في الماضي إلى عهد المملكة الموحدة، والإيلوهيمي E المرتبط بمملكة إسرائيل الشمالية بعد الانقسام، والتثنوي D الذي يُنسب إلى عهد الملك يوشيا، ملك يهوذا، وإصلاحاته، والكهنوتي P الذي يُرد إلى مرحلة السبي ويهتم بالأمور الطقسية. نشأت فيما بعد مدارس أخرى تعارض الفرضية الوثائقية كمدرسة نقد الشكل التي تعارض فكرة وجود مصادر مستقلة جمعت معًا في مرحلة ما وترى في التوراة بكاملها مجرد تأليف أدبي كهنوتي متأخر يعود للعصر الفارسي وينتمي إلى تلك المدرسة الباحث توماس تومسون الذي ذهب في مراجعة متأخرة إلى تأريخ تلك العملية التأليفية إلى العصر الهيليني، والمدرسة التكميلية التي تتفق مع الفرضية الوثائقية في مبدأ وجود مصادر عدة ولكنها ليست مستقلة بل اعتمد بعضها على بعضها البعض وتقصرها على ثلاثة مصادر وإليها ينتمي الباحث جون فان سيترز الذي يرفض وجود مصدر إيلوهيمي شمالي ويؤرخ المصدر اليهودي والكهنوتي بعصري السبي وما بعد السبي على الترتيب. 2. يقسم علماء الآثار العصور التاريخية لكنعان كالتالي بناء على بعض الاعتبارات الثقافية والتاريخية كالتالي: - العصر البرونزي المبكر 3500-2200 - العصر البرونزي الأوسط 2000-2200 - العصر البرونزي المتوسط 2000- 1550 - العصر البرونزي المتأخر 1550-1150 - العصر الحديدي الأول 1150- 900 - العصر الحديدي الثاني 900-586 - العصر البابلي 586-538 - العصر الفارسي 538-533 3. قد يقول قائل بأن التفاصيل الجغرافية والإثنية وغيرها من التفاصيل الواردة في تلك المرويات - والتي سيرد ذكرها في بقية المقال ونستخدمها كدليل على عدم تاريخية تلك المرويات بشخصياتها - مجرد اقحامات متأخرة في تقاليد قديمة أصيلة. إلا أن هذا الواقع النفساني الكامن وراء العديد من الحكايات، والرواية التوراتية الكلية، كفيل بالتدليل على أن تلك لتفاصيل ليس مجرد اقحامات متأخرة، بل أن الحكاية تنتمي بالكامل، في بنيتها الأساسية وتفاصيلها، لتلك الفترة المتأخرة وبالتالي فالحديث عن أي قيمة تاريخية لتلك الروايات أو عن الوجود التاريخي لشخصيات كإبراهيم وإسحاق ويعقوب هو محض هراء. 4. لم تشكل إسرائيل ويهوذا يومًا مملكة واحدة، ولم تُوجد مملكة داوود وسليمان العظيمة أبدًا. ففي الواقع، إن تلك المملكة المزعومة ما هي إلا مجرد إسقاط أدبي ماضوي لأحلام يهوذا إبان عهد يوشيا في السيطرة على أراضي إسرائيل السامرة باعتبارها الوريث الشرعي لها. 5. من غير المتصور بالطبع أن تكون قصة اكتشاف الكتاب تلك حقيقة، والمنطقي أنه كان قد تم إعداده في السابق لتبرير تلك الإصلاحات. ويُعتقد بشكل كبير أن كتاب العهد يشكل نواة سفر التثنية. 6. من الإضافات المتأخرة للغاية والتي تعود إلى الفترة الفارسية أو الهيلينية هي الحكاية الواردة في الإصحاح الرابع عشر عن إبراهيم وإنقاذه لوط من الأسر.
المصادر - Israel Finkelstein, Neil Asher Silberman, The Bible Unearthed - Thomas L. Thompson, Early History of the Israelite People - John Van Seters ,THE PENTATEUCH: A Social-Science Commentary - Thomas L Thompson, The Historicity of the Patriarchs - Thomas L Thompson, The Origin Tradition of Ancient Israel - آرام دمشق وإسرائيل، فراس السواح - Lidar Sapir-Hen and Erez Ben-Yosef, The Introduction of Domestic Camels to the Southern Levant: Evidence from the Aravah Valley - نائل حنون، ملحمة جلجامش: ترجمة النص المسماري - مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة: الجزء الأول – طه باقر
#أدهم_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|