توقّعت الولايات المتحدة بعد حملتها الاعلامية الهادفة الى إثبات وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق، وإظهار خطورة حيازة أسلحة كهذه من قبل النظام العراقي على سلامة العالم وأمنه، توقعت بعد كل هذا، ان تنطلق التظاهرات الشعبية في العالم لتبارك للنظام الاميركي حربه المقدسة والعادلة ضد أحد أركان محور الشر الثلاثي. لكن سرعان ما انقلبت تلك التوقعات الى خيبة وحيرة عند الاميركيين، عندما انتظم ولأول مرة، أكثر من عشرة ملايين انسان في تظاهرات متعددة في المدن الكبرى من العالم والتي كان أكثرها عواصم دول غربية، مما فرض على الاميركيين ان يعيدوا صياغة السؤال الذي سألوه على أنفسهم بعد حادثة 11 أيلول: لماذا يكرهنا العرب والمسلمون؟ الى السؤال ب: لماذا يكرهُنا العالم؟
بالطبع لن تمنع التظاهرات الحرب على العراق التي يبدو ان الاستعدادات الاميركية لخوضها قد اكتملت، ولكنها خلقت مشهدا عولميا ذات دلالات خصبة على المستوى الثقافي والسياسي والمدني، نذكر منها:
اولا: عملت السياسة الاميركية على إعطاء حملتها العسكرية بعدا ايديولوجيا، يحرك الحساسية الغربية في مسائل الحرية والليبرالية والأمن والارهاب، فتبدو الحرب نتيجة تحتمها قيم الحداثة الغربية للدفاع عن مكتسباتها التاريخية والانسانية ضد النظام العراقي. مع تفكك المنظومة الشيوعية، تفاءل العالم بذهاب الحتميات التاريخية ونهاية الشموليات التي تخنق الخيار الانساني، الا ان هذا التفاؤل سرعان ما بددته شموليات أميركية جديدة، تتحدث عن النهايات الحتمية للتاريخ (نهاية التاريخ)، وعن شموليات ليبرالية منتزعة من شروطها التاريخية والاجتماعية (العولمة)، وعن تاريخ قادم يكونه صراع حتمي بين منظومة ثقافة غربية عليا ومنظومة ثقافة اسلامية عليا (صراع الحضارات). أصبح انتصار الاميركيين بعد الحرب الباردة هو الحضور الكلي لأيديولوجيتهم، وتحولت الليبرالية من عقيدة اقتصادية الى عقيدة نعمة وخلاص ورؤية قويمة للعالم، وكما يقول ويتمان: <<إن أميركا تشمل العالم، وتاريخها هو تاريخه حاضرا ومستقبلا وماضيا>>.
لم تكتف الولايات المتحدة في استثمار نهاية الحرب الباردة بتحقيق هيمنة اقتصادية وتحكم سياسي ودبلوماسي بالواقع الدولي، بل عملت على إنتاج ايديولوجية، تنقل الحداثة الغربية من الفضاء الانساني والذي يلغي أحادية المعنى وشمولة التفسير، الى عقائد في الله والشيطان وقوانين إيمان في الخير والشر والمروق، والى نموذج سلوك استهلاكي يجوف باطن الانسان ويسطح وجوده ويعبث بحواسه، ويمهد الطريق أمام أمركة الآداب والذوق الانسانيين، يقول الكاتب الفرنسي ميشال بوغنون: <<كانت أميركا تزعم شمولية نمطها التنظيمي الخاص، ولم يسمع مفكروها إخفاء هدفهم الأخير: فرض انموذجهم المجتمعي على العالم>>.
أرادت الولايات المتحدة في حربها ضد العراق، ان تلقي بثقلها الثقافي والايديولوجي من أجل تحقيق تعبئة غربية شاملة، اي تشكيل معسكر غربي يدعم الآلة العسكرية الاميركية، فتتحول الحرب الى حرب قيم والى صراع منظومات ثقافية. الا ان المظاهرات الكبرى التي نظّمت في العواصم الغربية الرئيسية، استطاعت ان تجرد الحملة الاميركية من مضمونها الثقافي والقيمي، وان تظهر بوضوح التذمّر الغربي نفسه من الممارسة الاميركية، التي تبين انها الخطر الأكبر على الحريات والأمن والرفاه والبيئة في العالم. ورغم معرفة الجميع بخطر وجنون صدام، الا ان دائرة تهديده تبقى محدودة بالقياس الى تفرد سياسي أميركي يشرط حركة الثروة والقوة في العالم ويهدد مصالح الدول والشعوب بأسرها، وكما يقول فريد هاليداي، فإن الهيمنة الاميركية وصعود الانفرادية السياسية فيها قد شجعا على بروز كراهية عولمية مقلقة للولايات المتحدة وغير صحية لمن يقع ضحيتها. لقد خففت التظاهرات العبء الاخلاقي عن الجندي الاميركي الذي اعتقد أنه يؤدي رسالة انسانية وأخلاقية سامية، وأبلغته ان مهمته في العراق هي مهمة قتل للقتل ودمار للدمار.
ثانيا: لاحظ ألكسي دو توكفيل في أواخر القرن الثامن عشر، ان الاميركيين يعتبرون الدين بمثابة المؤسسة السياسية الاولى. اي نجح الاميركيون في تأسيس نظام ديمقراطي يتعايش مع الايمان الديني، ولكن سرعان ما أخذت مطلقات الاعتقاد الديني، تشق طريقها داخل الخطاب السياسي الباحث عن مشروعية لسلطة أميركية عابرة للحدود والمحيطات، يقول ريتشارد نيكسون: <<الله مع أميركا الله يريد ان تقود أميركا العالم>>، ويقول أنطوني لاك الذي كان معاون كلينتون لشؤون الامن القومي: <<ان مصالحنا ومثلنا لا تلزمنا بالتدخل فحسب بل تلزمنا ايضاً بالقيادة>>، كما كثر مؤخرا في خطاب جورج بوش تسميات: دول الخير ودول الشر والدول المارقة والقوى الشيطانية. لقد قامت نواة ايديولوجية أميركية من محورين: انها مكلّفة برسالة، واليقين بأن أداء هذه الرسالة يستلزم استخدام كل الوسائل بلا تحريم، وهذا يشبه دعوات القديس برنارد في القرون الوسطى بأن القتل في سبيل المسيح لا إجرام فيه.
أعادت التظاهرات الاولوية لقداسة الحياة والانسان، وان النفط او المصالح الحيوية لا يبرران الحرب التي تحصد أرواح الأبرياء. الرسالة الانسانية العالمية التي ترددت أصداؤها في عواصم العالم هي بداية ناجحة لإيقاظ الولايات المتحدة من دوغمائية الاصطفاء الإلهي.
ثالثا: نجحت التقنية الاميركية في إيجاد شبكة اتصال ثقافي وتفاعل معرفي بين شعوب العالم، ولكنها أخفقت في خلق ثقافة توحّد الوعي والفهم العالميين في نسق إيديولوجي ومنظومي محدّد سلفاً. اي مكنت التقنية العالية العالم من التعرف على نفسه، وساعدت على تبديد الوهم بأن الخصوصيات تمنع من خلق مدى إنساني مشترك، وقد تجلّى هذا المدى في المظاهرات الحاشدة التي شهدناها، حيث جاء هذا المدى مضاداً لكل إسقاطات المعنى وصرامة الدلالة التي حرصت آلة الدعاية الأميركية على زرعها في العالم.
رابعاً: اشتهر عن جورج بوش الابن قبل 11 أيلول إهماله لقراءة صفحات الشؤون الدولية في الصحف التي يطالعها كل صباح، ونُقل عن بطرس غالي الذي علّق على عزل الاميركيين له عن منصب الامانة العامة للأمم المتحدة بطريقة تخلو من اللياقة: <<إنك لا تحتاج الى دبلوماسية عندما تكون قوياً جداً>>. يبدو ان الهيمنة والسيطرة الاميركيين وفائض القوة الاميركية الزائدة عن حاجة العصر في قوتها التدميرية، قد تركت جميعها تأثيرها على الخطاب السياسي والمنطق الثقافي الاميركي، وقللت من اهتمام الاميركيين بما يحدث في العالم خارج دائرة مصالحهم، وخففت من حرصهم على إنتاج لغة إقناع منطقي وعقلاني، وأفقدتهم المبالاة ببناء تحالف توافقي حر بين إرادات الدول، فالمعقول والصواب يحددهما بطش القوة لا ما تقتضيه حقائق وطبيعة الأمور.
رسالة العالم في المظاهرات كانت واضحة، في التقاط خطر فائض القوة على سلامة العالم وأمنه، وفي التأكيد على ان حاجة العالم ليست في قوى الردع، بل في سياسة معالجة انسانية لإشكالات العالم الحقيقية والتي تتصدرها مشكلة الجوع والفقر والتلوث.
خامسا: على المستوى العربي والاسلامي، تدفعنا التظاهرات الى إعادة قراءة الواقع الدولي كما قال السيد حسن نصر الله، اي التخلّي عن مقولات التفسير التعبوية والاطلاقية التي تخلط بين المعنى الثقافي والتاريخي والسياسي. ليس الغرب كتلة سياسية او ثقافية او اجتماعية واحدة، وليس التاريخ في أوروبا سياقا واحدا متناغم الايقاع والنتائج، وليست المسيحية حملة صليبية او تبشيرية لا همّ لها إلا القضاء على المسلمين او تغيير دينهم. لقد عيّبت الفاتيكان المسيحية على الولايات المتحدة بأن الصليبية تغلّب على خطابها السياسي، وتضامنت الاغلبية الساحقة من الكنائس في العالم بما فيها كنائس الولايات المتحدة مع نداء منع الحرب.
لا بد من تضييق مساحة الخطاب التعبوي في الداخل، الذي يشوّه صورة العالم الغربي في الأذهان، والعمل على نزع الجاذبية عن التعميمات المتداولة كالتبشير والاستعمار والصليبية والغزو الثقافي التي توظف في بناء التحالفات الداخلية والتي تستعمل ايضا في تفسير السلوك الغربي. لقد أثبت هذا الخطاب، من خلال نموذج بن لادن، كارثيته على مستوى الواقع العربي والاسلامي، وان التماهي مع هكذا خطاب، يعمق العزلة السياسية ويؤصل لعدوانية غير عاقلة ضد العالم بأسره.
ليس الغرب بما فيه الولايات المتحدة، واحة انسانية خالصة، ولكنه بالتأكيد مجال تواصلي يختزن إمكانات انسانية مهمة. لا بد لنا من الفصل بين ما هو مرغوب في الغرب وما هو غير مرغوب فيه، والتمييز بين التنديد الأوتوماتيكي لسياساته وبين الانخراط الموضوعي في نقاش حوله.
أثبتت التظاهرات العالمية، ان الخيار السياسي والثقافي ضد الحرب لا يفرض علينا بالضرورة ان نقف في صف المدافعين عن النظام العراقي. علمتنا التظاهرات الحاشدة ان المشترك الانساني الذي يبحث عن عالم متحرر من رهانات القوة العسكرية ولعبة المصالح الضيقة، قابل لأن يتحول الى كيانات سياسية ضاغطة ومؤسسات دولية فاعلة وكتل بشرية مؤثرة، قادرة على فرض كليات جديدة في إدارة وتسيير شؤون العالم، وتأسيس شروط جديدة في ممارسة القوة. أقنعتنا المظاهرات من جديد ان العالم لا يتآمر علينا، بل هو بحاجة لأن يفهم منا بوضوح ما نريد.
©2003 جريدة السفير