أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - أجراس














المزيد.....

أجراس


هاشم تايه

الحوار المتمدن-العدد: 1509 - 2006 / 4 / 3 - 11:00
المحور: الادب والفن
    


في العام 1987 خرجتُ من مديرية زراعة البصرة بهويّة متقاعد، الهوية الشخصيّة لمن تبلى عظامه وتصدأ خدماته من العاملين في الوظيفة الحكومية فيستغنى عنه ويُسرَّح من الخدمة وفي جيبه الذي يرتجف تحته قلبُهُ الهالك، تخشخش هويتُهُ التقاعدية التي قد يطول أمدُ سريانها، أو يقصر بحسب حسن تصرّف القلب أو سوئه، الهويّة التي تسبق عادةً هوية الكائن الأخيرة، هويّة النهاية- هويّة التقاعد عن الحياة – التي تُحشَر في كفن المتقاعد بعدما يضع عزرائيل إمضاءه على رقبته، ومن ثمّ عليها فترسله إلى قبره ويدخل بها، باجتهاد ربّه، جهنم أو الجنة حيث تكونان!
كيف حملتُ هوية التقاعد في وقت كان فيه عودي ما يزال نشوانَ بمائه، ولمّا يبلغ الأربعين بعد؟
بل كيف، قبلاً، دخلت أرض الزراعة أنا الذي لم أضع بذرة في تربة في أيّ يوم من أيّامي؟ اللّهمّ إلاّ إذا استثنيت حفنة شعير كنتُ أدسّها، أيّام طفولتي، في صرّة قماش بالٍ وأسدّ بها فم إبريق من الفخار يستيقظ ماؤه الغافي حين تطلبه حباتُ الشعير السجينات في الصرّة فيصعد إليهنّ وينعش أرواحهنّ ويطلقها مثل أصابع خضر تشقّ كرة القماش التي ألانَها جرثومُ الماء...
كنّا، نحن الصغار، نزيّن ركن طفولتنا بتلك الأرواح الخضر المبتهجة الطالعة من إبريق الماء ونستقبل بها صباحاتنا...
والآن عليّ أن أجيب نفسي عن سؤاليْها الطويلين البغيضيْن:
في العام 1982 طلبني مدير مدرستي البعثيّ على الرغم من أنفه، وأراني مكسورَ الفؤاد الأمر الإداريّ الذي أخفاه عنّي بضعة أيّام ولم يكن أمامه إلاّ أن يطلعني عليه أخيراً تحت هول مسؤوليته الإداريّة الباهظة.. الأمر الذي احتفظت به إلى اليوم كعلامة على احتفاظي ببكارة روحي طاهرة من أدران ذلك التاريخ...
كان الأمر المذيّل بإمضاء من لا رادّ لأمره يطلب من خدّامه المعنيين الإسراع بنقل خدماتي من ملاك وزارة التربية والتعليم إلى ملاك وزارة الزراعة التي حوّلها إلى منفى لمنبوذيه..
في الأيّام التي أخفى فيها مديري الحزين فحمةَ هذا الأمر عنّي، كنت أراه كلّما التقيتُه في غرفة الإدارة يميل عليّ كاسفاً بالمتنبيّ بكلّ أثقاله:
يا من يعزُّ علينا أنْ نفارقَهم فقدانُنا كلَّ شيءٍ بعدكم عدمُ
وكأنّه يقرع به باب وداعي، ولفرط غفلتي كنت أرشقه بالمتنبيّ أيضاً مدمدماً بلا شعور:
إذا ترحّلْتَ عن قومٍ وقد قدروا ألاّ تفارقهم فالرّاحلونَ همُ
لا بدّ أنني شعرت بالأسى لنفسي حين أبصرت اسمي ضائعاً في صحراء ذلك الأمر الذي تجرّدت كلماته من الروح، وقد تجسّد لي وحشاً عزم على اقتلاعي من أرضي بعدما توكّل على ربّه الحجريّ...
أقسى ما في الأمر ذاك أنه اختزلني في مجرّد مادة قرّر أن يتخلّص منها بوضعها في تمثال بغضائه... ولم تكن أمامي فرصة في أن أدافع عن نفسي، وأنا أرى ما هو عزيز عليّ يُنتزَع منّي وأُجرَّد من ملكيته برغبة الحجر الذي اعتاد أن يشرب الماء في كؤوس أوامره التي تُجرّد البشر من الحياة ومن الصفات...
مديري الطيّب اقترح عليّ، مهوّناً، من أجل البقاء بين طلبتي، بأن يتوسّط لي لدى المدير العام للتربية آنذاك (شين) الذي سحقه السرطان وأنهى حياته قبل أن تسحقه البطّة في شوارع البصرة، بعد أن أحالت أمريكا (الشريفة) دولته غير الشريفة على التقاعد، لكنّني، من باب العزّة بالهمّ، وهوايتي المحبّبة- دفع الأثمان- وولعي بالخسائر، رفضت تلك الوساطة، وفضلت الخضوع للسيّد الأمر، تحت لُطف قناعتي التي رسّخها دوام العشرة الزوجيّة، بأنْ أتقبّل ما يقع لي برضا تام مهما بشع رأسه لأنّ ذيله سيكون فيه الخير...
لكن أيّ خير كان وراء انتزاع الطباشير من يدي، وهجرتي تلامذتي المغرّدين في عشّ الصفّ المدرسيّ، وحبسي خمساً من السنوات في دار الزراعة؟ أيّ خير اخترعتْهُ لي هويّة التقاعد يوم ألصقْتُها فوق قلبي؟ وقبل كلّ هذا لماذا نفاني الأمر الطغيانيّ عن أرضي؟



#هاشم_تايه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أجل أمّي
- مَنْ يحلب القيثارة السومريّة في لندن ؟
- كولاج الألم
- لا أذودُ الطّيرَ عن شَجَرٍ
- صنائع الصحفي
- ديمقراطية تبحث عن مكان
- التشكيلي محمد مهر الدين فعل الرسم بين التجريد والرغبة في الب ...
- طريقٌ أم طرق ؟
- الرؤية الكونكريتية
- التشكيلية السورية هالة الفيصل الأنثى بعين الجسد
- أسمال ليست طاعنة في السن
- بصوت هادئ حمّال الأسيّة !


المزيد.....




- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - أجراس