أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمر المحمود - حرية باذخة















المزيد.....

حرية باذخة


سمر المحمود

الحوار المتمدن-العدد: 6002 - 2018 / 9 / 23 - 02:32
المحور: الادب والفن
    


- هذه ألف ليرة .. بينما تشذب ياقة قميصه وتشد حزام البنطلون واضعة اللمسات الأخيرة على مظهره لتردف بحنق رافعة سبابتها في وجهه كتحذير: إياك أن تضيعها كما في المرات السابقة
- حسنا يا أمي .. بينما الأفكار البهيجة تغمره هو الطفل البكر لعائلته ذو العشر سنوات الفائض الطاقة والشقي هكذا يطلقون عليه .. يرى تلك القطعة من النقود ورقة تسريح مؤقت من المنزل وهم يرونها مشتريات الصباح مفكرا
بينما يهم بالخروج بينما تتابع والدته تحذيرها: إياك أن تخرج بالشحاطة والغبار يعبق خارجا
فيمتثل في إحجام وبابتسامة ماكرة يعيد الشحاطة لمكانها ويشرع بارتداء الحذاء محدثا نفسه بانفعال الريح التي تلعب معه في الحديقة محفزة مشاعره ليتناهى إلى مسمعه حديث جانبي لأخوته
– يا ماما نفضل أن نتناول الإفطار بما هو متوفر لأنه سيعود بخفي حنين بعدما يكون قد أضاع الألف ليرة
يمد رأسه من حديقة المنزل يتلصص من شفوف ستارة النافذة فتلمحه أخته الصغرى المرتابة في أمره وتزم شفتيها مدعية عدم رؤيته:
- هذا الولد لا يعرف أن يكون رجلا مرة واحدة في غياب والدنا .. يعقد حاجبيه مدعيا الانزعاج يطوف ببصره في الحجرة مترصدا والدته التي اختفت في المطبخ فيسرع كسهم عبر الفسحة الأمامية للبيت مغلقا الباب الخارجي وراءه كأنما أغلقه على تعاقب يومي مشحون بعواطف خضعت لفيزيولوجيا معينة مع تقليد رتيب زج فيه دون الأخذ برأيه .. وبلهفة مبطنة بالانتقام يرمي بالحذاء في الهواء كسجين يخلع عنه قيده ويفك حزام البنطلون ويحرر جسده من القميص النظيف ذو الرائحة الطيبة ليبقى بقميصه الداخلي نافشا شعره ثم يشرع بالركض ثم الركض مخترقا الجو الحار المثقل بالرطوبة لتلبسه الطبيعة بالأشجار التي يظنها تركض معه لاهثة بأوراقها الخضراء المصفرة والتراب يثير عجاجا في دوامات تدغدغ قدميه وقرص الشمس المتأجج حرارة يمد يده الضوئية ليزيد طبقات السمار على وجهه متجها نحو السوق القريب بانفعال مستعذب يسري في كيانه متنقلا عدة مرات بين واجهات المحلات ليجيل بصره على الخضروات ،البندورة الفتية في أقفاصها ، العنب الذي يتدلى في مجموعات مظهرا تعاضده وتلاحمه والبرتقال الذي يعشق لسعة مُرّهِ ، لبن حليب مواد غذائية مواد غذائية : مفكرا باستغراب كيف يقضي الناس على كل هذا الطعام ما أكثر الطعام ما أكثر الطعام ... ممممم ليجد قدميه تشدانه متجاوزا السوق الرئيسي حتى المحلات المجاورة التي تستعرض آخر منتجاتها من الدجاجات المدعوجة البياضة والديكة الفخورة بالحجم الكبير لعائلتها ، قطط ترمقه بشذر من وراء أقفاصها تمد قائمتيها بشراسة تنم عن جوع شديد وكلب صغير طليق يحرس ملكيته ، يأمل نفسه أنه سيحصل على واحد يوما ما .. ويتابع سيره حتى محلات تعرض سلعا مغرية من حلويات متنوعة تلبث في واجهة متزينة بثياب من الكريمة مختلفة الألوان يحدث نفسه بشعور ممتع: بوسعي أن أبتاع كل هذه الأشياء .. ولكنني لن أفعل هاأنا ما زلت أحمل النقود وسأعود للبيت محملا بالأكياس لأسلمه لوالدتي بعناية على مرآى من أخوتي المندهشين الواجمين .. ربما أمرر بها عقوبتي على توسيخ ثيابي وتمرغي بالتراب
وبسرور صبياني مبالغ فيه يدس يده في جيب بنطالونه يتحسس النقود يقطب حاجبيه كأنما يستذكر شيئا ما لينقبض قلبه وتكفهر تعابيره، يهز رأسه ثم ينكسه بينما خطواته المثقلة توحي بالتردد ولكن هذا الشعور يزول حين تقوده قدماه حتى الطريق المعتاد إلى الحديقة ليعود الابتهاج يسري في داخله تدريجيا شاعرا بنفسه حديقة صديقة تحمل لها النقود ليقتحمها متهيجا بشعره المشعث يطوف ببصره في أرجائها الفارغة من الزوار ، يمط شفتيه ويفتح فمه للريح كأنما يبتلعها بغبارها وحشراتها الصغيرة يختار زاويته المعتادة بين الشجرة والسور ليتبول فيها مع حساب الطول الذي خلفه الدفع قياسا بالمرات السابقة يرفع بنطالونه الذي فقد ثباته بعد انتزاعه الحزام و يدس يده في جيبه
مخرجا الألف ليرة ويضعها على راحة يده المنبسطة محدثا الريح أنه سيعاقبها إذا استمرت بالغش محددا مرماه ، تمر دقائق والورقة الخجلة تتراقص بحوافها متهيئة لتعتلي موجة ريح ثم تسكن قليلا ليعود هياجها حين تداهمها نسمة قوية فتحلق بالهواء لينتفخ وجهه من النشوة ويركض وراءها وبصره معلق باتجاهها، ثوان وتسقط على الأرض .. حسنا لقد ربحت هذه الجولة أو تعلنين استسلامك لكن الورقة تبدأ بالحراك كمن تشحذ همتها لتطير مرة أخرى مبتعدة ويعاود الركض خلفها لاهثا حتى تتقطع أنفاسه فيقرر بغيابها عن ناظريه أن يستريح دقيقة ليعاود البحث عنها فيما بعد وبحركة سريعة يلقي بنفسه على الأرض وهو لايزال محمرا متقطع الأنفاس لحظة ثم لحظات ليتقلب على التراب ثم يولي وجهه إلى السماء مفكرا بالعقوبة التي تنتظره في البيت يعقد يديه خلف رأسه مع احساسه بالاختناق .. لابد أن الساعة الواحدة والنصف ويتخيل والدته تعد الغداء في المطبخ تعنفه وتهدد بإخبار والده الطبيب الذي يعمل في إحدى الدول المجاورة ويرسل لهم الكثير من النقود من فئة الورقة النقدية التي هربت منه ، مع سخرية أخوته اللاذعة ، وستثير جلبتها المعتادة حين تفقد عقلها برؤيته متسخا وتؤنبه بأنه يسيء إلى نفسه وللعائلة بتصرفاته لتنهمك بإعداده للحمام بعد أن تخبر عمه الرجل المسؤول عن العائلة في غياب معيلها ليمسك الحزام الذي عثروا عليه في جوار المنزل الكبير وينهال بالضرب عليه ،
يتصاعد الدم إلى رأسه وهو يصك لسانه بسقف فمه محدثا صوتا ينم عن استنكاره
فينهض وإحساسه بالسكون يسيطر على كل شيء يثقل قلبه، سكون يشبه سكون المنزل الكبير بعد وجبة الغداء والانتهاء من التنظيف حيث يتجه كل منهم إلى غرفته ليأخذ البيت بما فيه قيلولته المعتادة أما هو فأشد ما يكرهه النوم في الليل فكيف بالنهار حيث يرن الصمت وتسمر القواعد كالعادة في هوائه ومائه وسقفه وأبوابه: أغلق الثلاجة .. لا تصدر صوتا قويا .. أخفض صوت التلفاز .. لا تفتح الباب لا تحدث جلبة .. أذهب لغرفتك .. أغلق النافذة سيهجم الغبار .. وهو يجهد نفسه ليتحمل سكونه ويكبح جماح رغبته في الخروج واللعب مع الأولاد تحت وطأة حر الشمس لكنه يستبق عقاب والدته بحركة ما لتنهره : من يخرج للعب في منتصف النهار إلا أولاد الشوارع
كم مرة فكر بالهرب .. لا أحد يسأله فقد فكر مئات بل آلاف المرات واضعا عدة سيناريوهات طفولية ، لكنهم قد يضعونه في ملجأ للأيتام ليس إلا سجن من نوع آخر، أو ربما تتبناه امرأة حنون كأمه تماما لكن برية تقطن في بيت بعجلات متنقل وربما تكون لاعبة سيرك تجول وإياه والفيلة والقردة المدن والقرى وقد ينقطع بهم الطريق يوما ما في غابة مخيفة لتعوي عليهم الذئاب طيلة الليل .. يضحك بخشوع لينتقل لسيناريو أقل رعبا قد يتجه للعاصمة متنكرا ويتحول إلى بائع يعيش في الطرقات مثل هؤلاء الذين شاهدهم نائمين تحت الجسر حين كان مع عائلته في زيارة لبيت جده ليتذكر كيف رمقهم بدهشة مبطنة بالحسد موجها الحديث لوالده الذي أحكم قبضة يده: أبي كيف سمحت لهم عائلتهم بالنوم في الشارع ؟! ليبدو أن ما أثار عجبه ليس نومهم في الشارع... ليجيبه أبوه بصوته الرزين مع ابتسامة مخفية: لابد وأنهم سيقضون وقتا طويلا في الحمام يغتسلون حين عودتهم
أجل .. يحدث نفسه بحماسة وبصوت مسموع .. يطلق عليهم مشردين لا مأوى لهم .. شاهدتهم في التلفاز
ولكنْ .. يكفهر وجهه مفكرا أنه لن يعود بإمكانه مشاهدة برامجه المفضلة
لينتفض كملسوع مخمنا أن الساعة ربما تجاوزت الثانية وستفوته حلقته الكرتونية المفضلة ولابد أن عائلته ظنت أنه خطف أو حصلت مصيبة ما ليبدو كأنه استفاق من شروده وعاد للتفكير المعذب بالعقوبة، يحث خطاه مسرعا بالعودة ليتراءى له المطبخ في مقدمة المنزل ولاح رأس والدته ثم تبينت الغرف كلها ، لابد وأن أقرانه يهيئون الحزام الذي يبدو أنه اختفى مع القميص والحذاء حيث وضعهم ووجدوهم بحكم التكرار ليتناولوا إفطارهم متأكدين من عدم عودته بالمشتريات فشعر برضى خفيف كون سلوكه لم يعد مستغربا لديهم حتى أن والدته اعتادت أن تطرد وسواس الخوف عليه من مصيبة ما ، لأنه سمعها تردد في المطبخ بصوت يائس متوعد : سيكون عقابه شديدا هذه المرة .. ماذا أفعل يا إلهي؟ هذا الولد سيقتلني بسلوكه



#سمر_المحمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماهو إلا .. خريف
- أنواء
- أنا وأنا
- مشروع ميت
- كرسي مصاب بالزهايمر
- عبوس
- أصغر من سؤال
- هناك دائما طفل ..هناك
- لاجئين
- مرة واحدة
- طبخة موروثة
- الريح العازبة
- رتابة مألوفة
- شرٌّ تبرَّج بمحبَّة إله
- خلفاء التاريخ
- بوصلة
- أرضنا وسماؤنا
- مُرَاهَقة
- نضج
- زيارة منتصف الليل


المزيد.....




- صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
- إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م ...
- مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
- خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع ...
- كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
- Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي ...
- واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با ...
- “بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا ...
- المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
- رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمر المحمود - حرية باذخة