|
كاموك- رواية- (78- 84)- الاخيرة
وديع العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 5997 - 2018 / 9 / 17 - 00:47
المحور:
الادب والفن
وديع العبيدي كاموك (رواية)
الى: ايغور كركجورديان كاموك، المناضل والانسان والشاعر..!
(78) ذبابة ميتة على افريز النافذة منذ اسبوع.. لما تعدْ إليها الحياة.. هكذا تركتها لأعرف أين يذهب الذباب عندما يموت.. هل يقوم ويطير ثانية.. هل يتحوّل إلى كائن آخر.. هل يتبخر أو يتفتت أو ماذا.. سوف أتركه اسبوعا آخر أو شهرا، لأعطيه فرصة أطول.. عندما تموت نملة.. تجتمع عائلة النمل.. يحملون الجثمان مترنّحين ذات اليمين وذات الشمال.. إلى مغارتهم.. ماذا يحصل هناك.. لم أعرف.. فمغارة النمل عصية على عين الانسان.. ربما يدفنونه.. ربما يلتهمونه ليعيش من خلالهم.. ربّما يغنّون ويرقصون ويدورون حوله حتى تدبّ فيه الحياة.. ربما يتحوّل إلى طوطم ويعبدونه.. أو يضمّونه إلى أكربول آلهتهم في جبل مقدّس خاص بهم.. لكن الذباب ليس له عائلة ولا قبيلة.. ولا شيء يجمعهم مع بعضهم.. ربما كان هذا الذباب من عصر العولمة.. أو له أصل في جنس البشر.. لكن الاستعجال في الحكم ليس من الصواب.. يبدو أن حال الذباب بين الطوائر، يشبه حال الحمير بين الدواب.. حسب ما ترويه الحكايات عن الحمير طبعا.. أولا.. أن صوته مزعج.. لكن حسنة الصوت تفضح وجوده في المكان.. أما عندما يسير على أقدامه الأربعة فهو لا يحدث صوتا.. وقد تقف الذبابة من غير صوت أيضا.. ولكن عندما يطير الذباب فهو مفضوح.. وللذباب أربعة أجنحة أيضا.. فيكون مجموع القوائم والاجنحة ثمانية.. ولمناسبة الرقم، فأن للعنكبوت ثمانية أرجل، أربعة على كل جانب.. نبقى في الذباب الطائر.. أنه يطير بشكل دائري.. توجد الآن ذبابة متلبسة في الستارة ولا تستطيع الخروج.. أسمع أزيزها واصطدامها كلّ مرّة.. لأن الذباب أعمى.. لم أكن أعرف أنه أعمى.. من الصعب ملاحظة ذلك.. لكن دورانه المستمر في حلقات صغيرة يشبه عصا الأعمى في الاستدلال.. والأزيز المزعج له هو تأكيد عماه.. فهو يستدلّ بالصوت.. ولابدّ أن سمعه من أقوى حواسه.. يتجمع مثل معظم الحشرات حول الضوء.. ويعشق النوافذ التي لا يعرف ماهية الزجاج الذي يجوسه بأجنحته ولوامسه ثمّ يسقط على الافريز.. والذباب غير مرحّب به عند ربّات البيوت، لكثرة فضلاته التي تتجمع على الافريز والأثاث كنقاط سوداء.. لكنها تلتصق بشكل تصير معه جزء من الزجاج أو الافريز أو الحائط.. ومرة أخرى.. ثمة حسنة في اللون.. فلولا كونه أسود.. أعني فضلاته.. لما أمكن ملاحظتها.. لغز الذباب أنه أسود.. لم أر ذبابة بيضاء ولا شقراء ولا صفراء.. أحيانا يميل لونه للسّمرة أو لمعة حمراء.. خاصة في صدفة الرأس أو الظهر.. والذباب كبير الحجم يشبه هيلوكوبتر.. لا أدري أيّهم مصنوع على هيئة الآخر.. والهيلو كوبتر له صوت مزعج.. ويطير بشكل دائري.. فلا ترى غير ذيلها وهو يدور.. والهيلوكوبتر بين الطائرات بمثابة الحمير بين الدّواب.. والهيلوكوبتر أول طائرة مصنعة.. تم تطويرها من المنطاد الفرنسي.. ثم أضيف لها المحرّك.. ذي الصوت المزعج مثل ساحبة زراعية.. ولم يتطور عن أصله بعد.. وهو في هذا أيضا يشبه الذباب العاجز عن التطور.. دالة السواد ليست امتياز الذباب الوحيد.. انما سمته الأخرى هي عشقه للسكّر.. وهو لغز محير.. فالبشر أيضا يعشقون السكر.. وسيما الاناث.. انما السرّ في لون السكر.. الذبابة سوداء سواد الليل.. والسكر أبيض بياض النهار.. وكيف يجتمع الأثنان في واحد.. هذا لغز ذباب فلسفي لا يمكن تفسيره بغير علم تشريح الذباب.. ولا أدري ماذا كتب أرسطو أو الجاحظ أو دارون في هذا الجانب.. لكنّ المؤكد أن الحل موجود.. وقد يكتشفه غيري.. هذه الملاحظات تتجمّع عندي للتغلب على معضلة الوحدة.. ولا أحد يعرف عمق الألفة مع الحشرات والحيوانات غير الذي يعيشها بجدّ.. ومن يضطر لمعاشرة الذباب إذا وجد بجانبه شيئا أكثر حيوية وأكثر بياضا ودفئا.. صحيح أنه قد لا يطير .. وهذه نعمة العبد في رجواه.. ولكن الكلام نصف المعاشرة.. والمجرّب حكيم.. كلّ وجود الذباب متعلق بالطعام.. كلّ عمله متعلق بالتصيد والتشبث.. الالتصاق بكلّ شيء يجد فيه ما يمتصّه.. فالذباب ليس له فم.. ولذلك لا يعرف الابتسام.. وطبعا لا يعرف شيئا عن القبلة.. ربما يسمع صوتها في الهواء.. فيحسبها حشرة أكبر منه.. لكن لا تنتظر منه قبلة بالمقابل.. تطوّرت علاقتي مع الذباب.. حتى صرت أتناول طعامي وهو يحوم حولي.. يتمشى على الطاولة دون أن يلمس شيئا.. لكن أكثر ما شدّ انتباهي لهذا الحيوان اللمّاع في الضوء.. أني وجدته واقفا ذات مرة على مسافة أصبع من مكان الأكل.. وجرّبت كالعادة أن أتركه وشأنه.. لأرى سلوكه.. لقد بقي واقفا هناك.. ولا أدري إذا كان ينظرني أو يشمّ.. أو يتحسّس بلوامس خاصة.. قمت لأملأ كوب قهوة مجددا وعدت.. فوجدته في مكانه لا يتحرك.. قرّرت مع نفسي التشاغل عنه.. وعدم التفكير فيه حتى لا يكون للتليباث أثر عليه.. انتهيت من الطعام.. وأنا أتناول الطعام والقهوة ببطء.. ولا أحبّ التسرّع في شيء.. بدأت في تنظيف المنضدة.. وحملت أوعية الطعام.. بدأت الذبابة تتمشى ببطء مبتعدة.. فإذا صارت على بعد، أطلقت أجنحتها للرّيح، وعادت تئز.. ومن يومها صرت أحترم الذباب.. وأعرف أنه ينطوي على عقل وحكمة.. وليس متهوّرا أو بلا طائل.. لابدّ أن البعض سمع أو قرأ عن أهمية الذباب في الوجود.. يعني في الطبيعة.. وذلك لدوره الستراتيجي في المحافظة على نسبة الأوكسجين في الطبيعة.. فلولا وجود الذباب لما عاش البشر.. وهؤلاء الذين يكرهون الذباب ويلاحقونه بالمقشات طوال النهار.. مثل واجب عسكري.. لا يعرفون أنه سبب حياتهم.. فليس بالخبز وحده يحيا الانسان.. والغريب أن الذين يسمونهم علماء فضاء وبيولوجيا.. يبحثون في المريخ عن وجود الثلج والماء ويعتبرونه دليلا على احتمال وجود الحياة.. أعني أن الدليل على الوجود ليس الثلج وانما الذباب.. وربما يكون لونه في المريخ مختلفا عن طبيعة الأرض.. لكن الأكيد.. أنه الدليل الوحيد على وجود الحياة.. يبدو أن أشياء كثيرة ذات شكل وصوت ورائحة غير مناسبة عند الناس.. لها أهمية وفائدة أضعاف الشكل والرائحة .. لكن الذباب حسب ملاحظتي من الكائنات البدائية جدّا.. فدورة حياته قصيرة جدّا.. وهذا منبع سعادته وأزيزه الدائم.. أنه لا يعرف الهرم والسأم والألم.. ولا يعاني طبعا من تبعات المكان والمطاردة والمنافسة غير الشريفة أو مشاكل الأوراق والفواتير.. ولم أجد ذبابتين تتصارعان على الطعام.. ولا تخزر الواحدة الأخرى كما يحصل بين بعض فقاريات الغابة.. ويصدر أحدها زئيرا كالأسد.. أعني كالقطط.. وأنا أتناول الطعام.. وقع نظري على الأرض خلف الباب.. بقي ذهني مشدودا هناك.. ألتفت نحوه بلا وعي.. قبل المغادرة عاودت الملاحظة.. ثمة نقطة سوداء غير معقولة على الأرض.. نقطة لا تتحرك.. تأكدت منها.. كانت ذبابة أخرى ميتة.. ذبابة في الشباك.. وذبابة خلف الباب.. لا هذه خرجت من النافذة.. ولا أخرى عبرت من الباب.. بقيت تدور حول الباب ولم تجد الثقب.. حاولت التفكير فيها هي الأخرى.. لكن الشمس مالت للمغيب.. فتركتها في مكانها.. وغادرت الحجرة..
(79) في سنّ المراهقة.. يكون كلّ قرار سهلا.. كلّ تفكير سطحيا وقصير المدى.. دون أن يشعر المرء أن تفكيره سطحي وقصير.. يومذاك كنت أشعر بطاقة كونية عالية في داخلي.. طاقة خام غير مقولبة أو مقننة.. تعطيني قوة لعمل أي شيء، ومجازفة أي شيء.. وكالعادة.. لا أعتبره مجازفة أو نزوة.. على الدّوام كنت أصف نفسي بالحكمة والعمق والتردد.. لكنني تصرفت بالعكس.. قرار الفراق اتخذته بإرادتي.. لم يكن قدرا من الخارج.. فكرة الهروب من البيت والعائلة كانت تسكنني من البدء.. ربّما كانت في جيناتي.. شعوري بالوالدة والأخ والأخت يراكم في داخلي الغربة.. عشت داخل نفسي أكثر من الواقع.. في بيت جدّي أحسست بالراحة والانسجام.. لكنني هناك كنت لوحدي في الواقع.. لم يكن ثمة غير عجوزين.. بالكاد يتكلمان أو يفعلان شيئا.. يعيشان حياة روتينية، ويتداولان أياما متشابهة.. ربما كان ذلك أعظم شيء في الوجود.. التكرار من غير تغيير.. الاستقرار والطمأنينة المستمرة التي تأخذ صورة العادي والمضمون.. ذلك أجده في سكان القرية التي أعيش بينهم الآن.. لكني لا أعيش مثلهم.. غريب ومنعزل ومنفصل.. في فكري أكثر مما في الواقع.. تركت البيت قبل العاشرة إلى بيت جدّي.. وتركت العائلة قبل العشرين إلى الجامعة.. على مسافة ستمائة ميل.. وليس ستة ميل في البصرة.. بعد الجامعة اختفيت في الحرب لعشرة سنوات.. بعد الحرب ضعت في المهجر ثلاثة عقود.. فجأة التقيت نفسي ثانية.. عدت إلى طفولتي الأولى.. هل هي النوستالجيا.. هل هو التغير البيولوجي والنفسي لمن يتقدم في السنّ.. مراهقة ثانية.. أم اغتراب عن الواقع والمجتمع.. وأي واقع خارج محيطك الاجتماعي.. أي مجتمع عندما يخذلك الأهل والأصدقاء.. المجتمع وحش.. إذا لم تسايره.. يدمّرك.. يدوس على وجودك وإنسانيتك.. الذين يهجرونك.. يهجرونك بلا ألم وبلا خجل وبلا تردد.. لماذا.. يقولون.. أنت تريد ذلك.. هذا قرارك.. أنت تتركنا.. أنت لا تريدنا.. أنت تكرهنا.. أنت مغرور.. تريد أن تتخلص منا.. حتى عندما تذهب إلى الموت.. يردّدون نفس الكلمات.. يبقون أبرياء وضحايا في عين أنفسهم.. ذنبك أنك لا تعايشهم .. لا تجاري واقعهم.. لا تنحني كما ينحنون.. لا تتلون كما يتلونون.. لا تكذب بعادية كما يكذبون.. ما تزال تحمل القاموس في جيبك.. تكيل لهم الاتهامات مثل شرطي أخلاق.. يا أخي دع الناس تعيش.. قال لي مدير تحرير جريدة ذات مرّة.. لماذا تريد أن تقرر للناس ما يفعلون وما لا يجب أن يفعلوه!.. (أنا.. أنا).. كان ذلك مرعبا لي حقا!.. أنا أعبّر عن رأيي فقط.. هل من حقي التعبير عن رأيي.. المشكلة ان رأيي مخالف للأغلبية.. هل أنا مسؤول عن رأيي.. هل أنا صنعت عقلي.. هل أنا صغت طبيعتي المفطور عليها.. ها أنا أعاني وأمرّ بمرحلة انقراض مثل ديناصور تجاوزه الزمن.. هل أنا ديناصور.. من كلّ الرسائل التي كتبها منذ وصولي.. عادت عليّ رسالة واحدة فقط، لتغيّر عنوان المرسل إليه.. ورسالة واحدة جوابية.. تلك كانت من أختي.. أختي الوحيدة وأول من قرأ أول قصيدة لي.. كان ذلك قبل خمسين عاما.. كلّ رسالة تأتي من البيت بعد قطيعة طويلة تحمل خبر موت.. أولها كانت موت الوالدين قبل ثلاثين عاما.. موت صديق طفولتي قبل خمسة عشر عاما.. والآن موت شقيقي وأخي.. الإبن البكر.. نعم.. مات.. لا أعرف كيف.. لم يتزوج.. لم يخلف.. لم يترك البيت.. لم يغادر البلد.. لم يصنع مشاريع.. لم يلاحق أوهام.. لم يحلم بتغيير مجتمع .. لم ولم ولم.. عاش حياة روتينية.. رتابة يومية.. بين البيت والمحلّة.. بين الوظيفة والعائلة.. لم يبلغ السنّ التي أبلغها الآن.. آه ما أجمل الوطن.. ما أدفأ العائلة.. كنت أتذكر والدي الذي عاش متنقلا بين أخواته وأقاربه.. كان والدي خارج البيت.. لكن داخل العائلة.. أخي بقي داخل البيت وداخل العائلة.. وأنا خارج الاثنين.. كتبت لأختي بلغة الحب القديم.. بلهفة الشوق القديم.. وبكل وجع الغربة كتبت.. أريد أن أعود.. أعود.. نعم.. ولكن إلى أين.. لا أدري.. ماذا بقي من العائلة القديمة.. ماذا بقي من الطمأنينة القديمة.. هل ما زالت الحيطان تحتضن حرارة.. لكني سأعود .. حرمت من الحياة العادية طويلا.. فلماذا أحرم من الموت العادي.. ليس الموت هو المقصود.. لكن انتظار الموت وأنت بين أحبابك.. أعني في نوستالجيا طفولتك.. أختي هي كلّ ما بقي من البيت القديم.. هي الآن (أمي) .. قد لا يمكن نطق هذه الكلمة بصراحة.. ولكن هذا هو الأمر الواقع.. في داخلي حاجة لشخص يكبرني سنا.. يحتضن غربتي وعقوقي.. أختي الآن ربما تغيّرت.. هي الآن أمّ وجدّة.. في سن التقاعد.. تنظر للحياة في عيون أحفادها.. الانسان شعور ووعي باطن.. ماذا تقول عني.. هل تنظر لي بوصفي شيئا من الماضي.. هل تفتقد الماضي كما أفعل.. هل تعيش نوستالجيا.. طبعا.. لا.. من يجد نفسه في أحفاده لا يعاني من اغتراب.. لكن الوحيد والمهجور يبحث عن شيء يتعلق به.. يأخذه للماضي أو يهرب به للمستقبل.. أين هو هذا الشيء.. من هو ذلك الشخص.. عودتي للنمسا كانت جزء من نوستالجيا.. لكن النمسا تغيّرت في غيابي.. أصدقائي القدامى اختفوا.. الرسالة العائدة في البريد.. تخبر عن غياب أحدهم.. والعلاقات في الغرب تفتقد الحميمية والعاطفة الشرقية.. ماذا لو كانت البلاد غير البلاد.. والناس هناك تغيروا أيضا.. صاروا غربيين أكثر من الغرب.. هذا الصراع في ذاتي ينقضّ علي ولا يترك لي مفرق طرق.. نفق مسدود.. نفق أسود وشمس سوداء.. ولكن داخل النفق ثمة بصيص.. داخل سواد الشمس نقطة مضيئة.. من أجل تلك النقطة.. أنا أمضي.. مندفعا.. مجبرا.. مضطرا.. بحكم بقائي في الجسد.. ليس إلا.. تبقى الشجرة واقفة حتى ينقطع عنها النسغ.. تموت من داخلها وتبقة صورتها من الخارج.. هل الإنسان شجرة.. هل هو شجرة طبيعية أم صناعية.. شجرة شرقية أم رأسمالية.. في رمضان المقبل سأكون هناك.. سأكون معهم.. أعود لأعيش مثلهم.. أفعل ما يفعلون.. أريد أن أشبه أحدا.. إذا كان لا أحد يشبهني.... حلمت دائما.. بالتقاء من يشبهني.. من يريدني.. من يكون تلميذا أو مريدا.. في لندره عثرت على أكثر من شخص.. أكثر من امرأة.. إلتقوني ولا أعرفهم.. طلبوني ولم أطلبهم.. لكنني لم أخذ أحدهم على محمل الجدّ.. اعتبرتهم أصدقاء.. كانوا يصغرونني في السن.. جميلين.. أنقياء.. لكننا لم نتحدث في الموضوع.. في البدء انسحب الأصدقاء.. بقيت الصديقات.. نعم.. الصديقات.. واحدة كانت تفكر في الزواج فعلا.. الزواج مباشرة ومن غير كلام ولا شيء غير الزواج أو قبله.. كنت أشعر بالاستفزاز.. استمرّت على ذلك خمس سنوات.. خمس سنوات تكرّر ذلك.. أحيانا كانت تبكي على التلفون.. توسّلتني بأكثر من طريقة.. جعلتني أشك في نفسي أو عقلي.. داهمتني في الصباح والمساء.. أمطرتني وأغرقتني بالورد والحبّ والدموع.. وفي داخلي صخرة عناد توازي عناد صخرتها.. لا صخرتها ذابت في صخرتي.. ولا صخرتي ذابت في صخرتها.. قوتان متوازيتان متساويتان لا تلتقيان.. عندما أبلغتني بقرارها الأخير.. اتهمتني كالعادة بالغرور واللامبالاة.. اهتزت قواعدي.. ندمت.. عصفت بي الرّيح.. تعوّدتها لخمس سنوات.. ثم اختفت.. فجأة.. عندما عاودت الكتابة إليها.. لم تردّ.. فعلا كانت أكثر عنادا مني.. أكثر قوة.. وأكثر إرادة.. وإلا.. كيف إنتظرت خمس سنوات.. تدقّ بابا موصدة.. المرأة الثانية كانت تلمح بغير وضوح.. لا تفكر بالارتباط.. لا تفكر بالحبّ.. تداعب جبيني.. تلعب بشعر رأسي القصير.. تتلمس ذراعي مثل طفلة تكتشف ساعد أبيها.. تجلس جنبي بالباص.. لكن بالعرض.. أنا أنظر للأمام.. أرقب الشارع من الزجاج.. لمساعدة السائق في حركة المرور.. وهي تراقبني مثل تمثال أبي الهول.. على شفاهها ابتسامة الاكتشاف أو الإعجاب أو أي شيء لا تقوله شفاهها.. تأخذني من يدي وتنتقل من مطعم إلى كافيه.. تختار المطاعم والأكلات ومحلات الكافيه.. وهي وحدها تتكلم.. جرّبت على مسمعي كلّ أنواع القصص والخبريات و التجارب الشخصية و.. و.. أنا بقيت أنا.. لم أستسغها أساسا.. لم يكن في قاموسي مداهنة شخص يقودني إلى غرضه.. ربما لو لم تعلن ذلك صراحة.. لاختلفت النتيجة.. كنت أسايرها شكليا.. من غير شعور متبادل ولا توارد أفكار.. في آخر لقاء في كافيه قالت: تعال اجلس جنبي.. كنت أسحب الكرسي المقابل لها بعد احضار الطلب.. أجبتها بتلقائية وفظاظة عارية: هل هناك (بوس)؟.. سكتت.. تجاهلت الأمر.. وجلست تحكي لي قصة أخرى.. وفجأة سكتت.. قال: ها.. أنا قلت ما لديّ.. قلْ لي أنت ما لديك.. ما رأيك فيما قلته.. ويا ليتني لم أقل.. فنّدت كلّ كلامها.. ورسمت لها خارطة طريق حسب طريقتي.. وخلاف كلّ ما تريده، وما تنتظره مني ومن نفسها.. قالت: دعنا نخرج.. أريد أن أتمشى.. هذا يعني أنها اغتاظت.. أو تشعر بالسأم.. تبعتها.. تدخل محلات المواد المنزلية وأدخل وراءها.. أحيانا أنتظرها أمام المحل.. وعندما تتأخر.. أضطر للبحث عنها.. تنتقي سكاكين.. تقلبها.. تقرأ ماركتها.. أقول لها: لديك مشروع جريمة.. أبحث عن سكين كبيرة وقوية.. تقول.. بعد عدّة جولات.. اشترت فعلا سكينا كبيرة وقوية من صنع صيني.. هذه هديّة مناسبة.. المهمّ لمن تقدمينها.. إنتهى ذلك اليوم.. تعرفت إلى شخص عن طريق شفره في النت.. أعجبتها مواصفاته.. تعارفا.. ذهبت تعيش معه.. بقيت واحدة.. هي أقرب وأجمل وأدفأ.. وهي الأكلة التي منعت أكلات.. جاءت قبل الجميع وبقيت بعد ذهاب الجميع .. وكانت تلك (حلمي).. ذهبت معها وذهبت معي.. كانت جزء مني وكنت جزء منها.. وكانت وكنت وكنت وكانت.. ومرّت السنون.. مرّت عشرة سنوات.. اتصلت بها.. تعالي نحتفل.. بمرور عشر سنين على تعارفنا.. يوم اللقاء أمطرت.. لقاؤنا كان في محطة.. مثل كلّ لقاءاتنا السابقة.. التقينا أول مرّة في محطة.. كنت أنظر يمينا وشمالا.. أنتظرها وأتهمها بالتأخر تارة وبالكذب تارة.. توقفت حركة السيارات وزعق أحدها بالصفير في وسط الشارع.. لم أهتم.. كانت عيوني بين الشمال واليمين.. قال لي أحد المارة: تلك المرأة تناديك!.. نظرت فإذا هي.. تقود سيارة في وسط الشارع.. وتدعوني للركوب بجانبها .. هرعت اليها وهي تقول.. استعجل.. قطعت الطريق.. نعم.. قطعت الطريق.. وبقيت مقطوع الأنفاس.. دخلت بالسيارة في زقاق جانبي.. تبحث عن بارك تترك فيه السيارة.. لم أعرف أنها بعد عشر سنوات صارت تقود سيّارة.. لم أسألها كثيرا.. جلسنا في كافيه.. ماذا تشرب.. أو: ماذا تحبّ أن تشرب.. وكان جوابي الرتيب: أي شيء!.. المرأة لا تفضل جوابا غير واضح.. لاتيه.. قامت لتجلب الطلب.. عادت لتخرج شيئا من حقيبتها.. كنت أجلس مضغوطا.. مثل طفل محشور.. أنظر للمطر عبر الزجاج.. لا أشعر بها معي.. مجرد مجاملة خارجية لا غير.. تتظاهر لتقديم نفسها بشكل آخر.. لا.. ليست تلك الحبيبة أو الباحثة عن الحبّ.. على الطاولة المجاورة رجل متقدم في السن بجانبه عصاه بتوكأ عليها.. وبيده جريدة.. وأمامه كوب قهوة.. قالت لي أنظر نحوي.. كان بيدها تلفون سمارتفون والتقطت صورا لي.. هوووه.. تغير شكلك كثيرا.. أنت السبب.. أجبتها.. لم تهتم لجوابي كالعادة.. التفت هنا.. انظر هناك.. قم واجلس من هذا الجانب.. كن طبيعيا.. ايه.. هكذا.. نادتها عاملة المقهى لاستلام الطلب.. التقطت صورا أخرى.. تلفت.. قلت.. اسالي العاملة لتلتقط لنا صورة مشتركة.. جلبت الطلب وتجاهلت طلبي.. قالت: أخبرني عن أخبارك.. كل مرّة أنا أتحدث.. هذه المرّة.. أنت تتحدث.. مشتاقة لك..! كانت تؤلمني.. كل كلمة منها تؤلمني.. تستخدم كلمات تخترقني.. تتحدث دائما عن الألم.. دائما تعيش حالة اضطهاد وملاحقة.. جميلة.. كلّها جميلة.. ملامح وجهها تعيدني إلى زمن الكلية.. حدقة عينيها تعيدني إلى أيام المراهقة.. خفة دمها تعلكني فلا أرغب في مفارقة ريقها.. وضعت أمامي سلّة من الوعود.. أكثر من مرّة وضعت تلفونها بيدي وقالت: هاك.. تكلم مع فلان أنه يسأل عنك دائما.. خابر فلان وخذ منه موعدا.. ربما أحضر معكم.. والنتيجة.. نظرت إلى الساعة.. وقالت.. عندي موعد مع الطبيب ولا أسطيع التأخر.. ثلاثة أشهر وأنا أنتظر هذا الموعد.. يجب أن أمضي.. قامت مستعجلة كالعادة.. تبعتها.. ماذا.. هل تذهبين من هنا أم.. تعال معي الآن.. ذهبت معها للسيّارة.. مكان السيارة بعيد داخل الأزقة.. كيف تعرفين كلّ هذه الأزقة.. كنا نسكن هنا.. قالت.. صعدنا للسيّارة.. كانت مرتبكة.. عند الشارع الرئيسي تساءلت هل تمضي يمينا أم شمالا.. سارت يمينا.. قالت أن طريقها نحو الشمال.. بعد قليل دارت بالسيّارة.. وقفت ونظرت نحوي مرتبكة كالعادة.. لا أستطيع أن أوصلك الآن.. أعذرني.. تأخرت على الطبيب.. أراك قريبا.. إنزل بسرعة.. لأني وقوفي مخالفة!.. ومن غير وداع ولا كلام افترقنا.. لا طعم للقهوة ولا احتفال بالمناسبة.. نفس حالة الارتباك والمطاردة التي تعيشها منذ أول لقاء.. تقول أشياء كثيرة وتعمل ضدّها.. تطلب أشياء وترفضها في وقت آخر.. هل تمثل.. هل تستلذ بإحراج الآخرين.. هل هي ساديّة.. مازوخية.. تعاني من حالة نفسية وتبحث عن شخص تسقط عليه حالتها.. هي التي قالت لي مرّة بلغة لا تخلو من شماتة.. أنا الذي أخرجتك من عزلتك.. هل تستطيع العودة لعزلتك مجددا.. بقي ذلك السؤال عشرة سنوات.. لا أستطيع استعادة عزلتي السعيدة.. ولا أجد من يشاركني فيها.. قبل المغادرة بعشرة أيام.. رنّ الهاتف.. كانت هي.. بعد قطيعة أخرى ترنّ.. هل التي اختارت القطيعة.. كنت في أصعب الظروف.. وهي الآن ترنّ.. بقي الهاتف يرنّ..
(80) صحوت من النوم.. اليوم الثاني من الإسبوع.. خطر لي تبديل ستارة الحجرة.. كلّ ستائر هذه الجهة من نسق واحد إلا هذه.. تفحصت إمكانية عمل ذلك بغير مشقة.. وجدتها مناسبة.. صعدت على القنفة(*) وبدأت في نزع الستارة القديمة.. تم ذلك بسرعة.. بقي تركيب الجديدة.. وجود القنفة في هذه الجهة يسهل الأمر كثيرا.. أفضل من الجهة الثانية التي تقتضي وضع كرسي يفصل مسافة عن الحائط.. القسم الأول جرى بسهولة نسبية.. القسم الثاني واجه بعض الصعوبة واستغرق وقتا.. لكنه أنجز أخيرا.. قبل صرف نظري عن الموضوع، اهتممت بتوظيف الستارة الشفافة أيضا.. لحظت أن قاعدة النافذة تحتاج تنظيف .. أزحت الستائر.. وبالمرّة.. وجدتني أنظف زجاج النافذة والقاعدة.. تذكرت وجود منظفات خاصة للزجاج والنوافذ .. أحضرتها من الحمام.. لأول مرّة أنظف النوافذ بالكامل.. من الداخل والخارج.. نافذة غرفة الجلوس التي أستخدمها للطعام، كبيرة.. تكفي لإدخال سرير لشخصين عبرها.. هذا خطر في فكري.. أفضل من الباب الضيّق.. فتحت جارتي باب السيارة الخلفي وأنزلت شتلات زهور جديدة.. عادت وأخرجت كيس تربة زراعية.. تبادنا التحية .. تبادنا كلاما عابرا.. أنا لا أهتم بالزهور والشتلات الطرية التي تباع في المحلات تحت يافطة.. حوّل بيتك إلى حديقة.. اجعل بيتك ربيعا دائما.. تحدّثت عن زوجها المريض دائما.. الخميس الماضي كانوا في المستشفى.. هناك فقرات صناعية مزروعة في ظهره تعاني من ارتخاء.. سوف يعاد فحصه مجددا بجهاز اللازر (MRI) للتأكد من التشخيص.. ماذا كان الناس والأطباء يفعلون قبل تزايد أجهزة الفحص والتشخيص والعلاج.. البيرقراطية أمر جيد.. استخدام التكنولوجيا الحديثة يمنح الناس كبرياء التفوق والتطور.. الدولة أيضا تتباهى بالخدمات المتطورة.. والأحزاب تسجلها في دعايتها الانتخابية.. رجل في السبعين.. قضى حياته في معمل طابوق.. وهو مريض بالسكر أيضا.. مفاصل وفقرات.. سيعيش للثمانين .. ولكن معدّل العمر هنا يتجاوز التسعين.. لا بأس أن يجني حصيلة التقاعد والضمان الاجتماعي.. عمل أربعين عاما.. ويعيش بالتقاعد أكثر من ثلاثين عاما.. ليس الأمر سيئا.. الآن رفعوا عمر التقاعد للسبعين.. هو من جماعة القانون القديم.. من أواخر الذين شملهم القانون القديم.. قال لي مرّة.. بعد إسبوعين أتقاعد.. خلاص.. أنجزت المعاملة.. نعم بعد إسبوعين.. وكان قلقا.. حريصا أن لا يمرض أو يحصل أي شيء يعيقه عن إكمال ساعات عمل الإسبوعين الأخيرين.... عندما تقاعد إشترى سيارة جديدة.. ما زالت معه منذ ثلاثة عشر عاما.. يذهب مع زوجته للتبضع من السوق القريب ويعود خلال عشرة دقائق.. يوميا يتبضعون.. لملء وقت الفراغ.. هو لا يتحدث كثيرا.. زوجته تحب الكلام.. تكرّر دائما.. يوميا نفس الشيء.. دائما نفس الأشياء.. المطر والشمس هو التغير الوحيد في حياتهم.. هي تهتم بالزهور.. تمسح النوافذ أحيانا.. تقف خارجا لتجد أحدا تحادثه.. خرجت جارة ثانية لتدخن أمام الباب.. اعتذرت وراحت تتكلم معها.. انقلبت علبة تنظيف الزجاج على أرضية الحجرة.. لحقت بها على النصف.. خطر لي تنظيف نوافد أخرى بالمناسبة .. ما زال الوقت صباحا.. انتقلت لشبابيك الحمام.. التواليت.. أترك النوافذ مفتوحة بعد تنظيفها لتبديل الهواء بالمرة.. الوقت يجري ببطء.. هذا اليوم هو التاسع والعشرين من مايس.. في الشهر ثلاثة تسعات.. ولادتي تصادف الوسطى.. قبل مدّة تبين لي أنني ولدت لأول مرة في أول تسعة.. وولدت للمرة الثانية بعدما تناهيت للموت في التسعة الثانية.. فهل يصادف موتي التسعة الثالثة.. تذكرت أن مبريخا لا تحبّ التنظيف.. لا تحبّ التغيير.. وكنا نتجادل ونختلف.. كلما فعلت شيئا تنزعج وتنهاني.. إعتقدت أنها لا تحبّ التنظيف.. كيف لا تحبّ التنظيف.. طيلة السنين كان عقلي لا يتعدّى ذلك.. أستعجل الحكم عليها دون بحث عن السبب.. مؤخرا تذكرت أن أمي أيضا كانت كذلك.. تنظف البيت مرة واحدة في نهاية الإسبوع.. ولا تسمح لغيرها بعمل ذلك.. أمي أيضا لم أفهمها.. ولأنني لا أغادر البيت.. أنشغل بتغيير مواضع الأثاث وتبديل الغرف من وقت لآخر.. مبريخو تنهاني دائما.. وعندما تعجز تتركني.. فأنا أيضا شخص عنيد.. جدّي أيضا كان يحبّ التنظيف.. إذا لمح شيئا على الأرض يرفع صوته مناديا أحدهم.. يوبخ لوجود شيء على الأرض.. ماذا تفعلون في البيت.. النظافة والنظام وقلة الكلام.. هي ثالوث جدّي الدائم.. وهذه الثلاثة هي شعار سكان القرية التي أوجد فيها.. حياة رتيبة لا يتحرك فيها غير رقاص الساعة.. مغيب الشمس وشروق الشمس.. الفطور والغداء والعشاء والنوم.. التلفاز رتيب.. الأشياء في السوق هي نفسها.. الوجوه نفسها.. الأسعار هي نفسها.. ترتفع ولكن لا تنخفض .. كلّ شيء في ارتفاع.. ارتفاع يزيد الرتابة واللامعنى.. الغريب أن الرشاقة هي سمة عامة هنا.. الرشاقة نتيجة الملل والسأم.. فلا شيء جديد في حياتهم.. الطعام هو نفسه بلا تغيير.. نفس الفطور.. نفس الغداء.. نفس العشاء.. مثل أنظمة السجون.. طعام المستشفى أفضل قليلا.. لأنه يتغير إسبوعيا.. هنا لا يوجد طبخ.. الغداء شطائر لحم وجبنة/(سندويتش)/(jause).. حصة كل شخص ثابتة.. لا تزيد.. يشترون كلّ شيء بالعدد.. لكل شخص قطعة خبز.. لكلّ شخص قطعة موز.. قطعة تفاح.. اللحم يتمّ شراؤه مقطعا.. لكلّ شخص كذا قطعة مصحوبة بشطائر الجبنة.. عمل المطبخ هو التسخين وإعداد الشاي أو القهوة.. القرية تعيش وفق نظام ثابت.. النظام يعني تثبيت الإنفاق.. النظام الغذائي مهم أيضا لتفادي المرض واستعمال العلاجات.. فالعلاج والدواء بثمن.. بعد إعداد الفطائر لزوجها تخرج الجارة من البيت.. في البدء تنظر أحدا في الخارج، هنا أو هناك.. إذ لا تجد أحدا تتسلى بالتنظيف.. ترى غبرة على الأرض.. تجلب المكنسة والمكرفة وتنفق وقتا لرفع آخر ذرة من الأرض.. تنظف الشباك.. تحمل قطعة القماش بيدها وتذهب من نافذة لأخرى.. مرة رفعت كلسونا بين ذراعيها، ووضعته أمام عيوني: أنظر قالت.. لم أقل شيئا.. ابتسمت.. قالت وهي تبتسم: لقد أصبح صغيرا.. أستعمله للمسح.. لا بأس قلت.. أفضل الاحتفاظ بها ولا أرميها .. مفيدة للمسح.. لم أستطع أن أطلب منها شيئا للمسح.. النفايات هنا لها سعر وصرفيات.. لذلك يعيد الناس تدوير النفايات داخل العائلة للاقتصاد.. ثيابهم محدودة بقطعتين للتبديل في الحياة اليومية.. ثياب الخروج والزيارات شيء آخر.. ثياب العمل شيء آخر.. النساء العاملات مريضات بالثياب والتبديل.. لابدّ من قطعة جديدة كلّ يوم.. حتى لو كانت قطعة شال أو منديل أو بودرة تتحدث عنها مع زميلات العمل.. الأناقة في العمل مرض نسائي.. جارتي لا تعرف النحس.. المهمّ هنا لا يوجد نحس.. ربما كان يوجد.. لكنهم ألغوا الدّين من حياتهم.. وحوّلوه إلى مناسبة اجتماعية.. مناسبة تراثية تقليدية.. يرتدون فيها ثيابا تقليدية.. يتناولون أطعمة تقليدية تراثية.. الكنيسة في القرية مركز اجتماعي تعقد فيها اجتماعات عائلية ومؤتمرات وإلقاء المحاضرات أو تقديم موسيقى.. لم يخطر لي أبدا فكرة النحس.. تشاؤم البعض من التغيير.. عدم تحريك الأشياء من مواضعها.. التنظيف أيضا نوع من التغيير.. رفع الغبار وتعديل الأشياء ينطوي على تغيير.. أيام زمان كنت أكرّر عبارة (الحركة بركة).. الحركة تقود للتطور.. اليوم صار التطور يقود للضياع والدّمار.. أمي ومبريخا أكثر فهما مني.. في الأشهر الأخيرة لوجودي في لندره.. حدثت تحسينات كثيرة في شقتي.. اللاند لورد أصلح الحمام وأضاف جهاز تدفئة.. صديقي جلب طقم طعام وجلوس وفرش وأشياء تؤثث نصف بيت.. عندما كنت أرى ذلك يتسلل فرح في داخلي.. أن وضعي يتطور للاستقرار.. أنّ الايام المقبلة تشهد تحسنا.. عندما أنظر للشقة أشعر بما يشبه سعادة.. لكني لم أدرك أن بداية التغييرات.. تنتهي بانقلاع أشخاص.. عندما تصلني رسائل الحكومة يضطرب كلّ شيء.. حتى اللحظة الأخيرة كنت أصارع الأمل.. رسالة واحدة أنهت كلّ شيء.. هذه هي حياة الانسان.. تتقرر بكلمة.. برسالة.. بقرار.. مثل حشرة.. إنتهى. هكذا غاردت الشقة كأني ذاهب لزيارة.. غاردتها كما هي.. بكلّ التحسينات والتطويرات والأثاث الذي تبرّع به صديقي.. اللاند لورد قال يومها.. وهو يتحدث عن فتح ثقب جديد في الحائط لتمرير أنابيب السخان.. لن تكون نهاية العالم.. الانجليز يستخدمون عبارة نهاية العالم من باب التهوين.. نوت ذا وورلد اند.. في لندره توجد منطقة اسمها (وورلد اند).. وأنا كنت أسكن في (ويست اند).. بالنسبة لهم وورلد اند هي استراليا أو نيوزيلانده.. عندما تبدو الأشياء كأنها تتقترب من الاكتمال والبلوغ.. يكون الوداع والفراق والفقدان.. هكذا إذن.. عندما بقي لأخي شهران على تمام الخدمة في الجيش لكي يتسرح.. كنا فرحين.. مطمئنين للمستقبل.. بعد إسبوع أعيد في تابوت.. قبل شهرين من التسريح والانصراف لاكمال دراساته العليا.. أحيانا خطوة للأمام أو اقتراب من الهدف.. تعني نهاية كلّ شيء.. خسارة كلّ شيء.. مبريخو لم تفصح عن ذلك.. لم تقل.. لأن مجرد النطق بذلك يجعله حقيقة.. الحديث عن النحس يجلب النحس.. التفكير بالنحس يجلب النحس.. الخوف من النحس يجلب النحس.. ما هو النحس.. من هو النحس.. من أين يأتي.. من يصنعه.. كيف دخل هنا.. كيف نتخلص منه.. مبريخو معها حق.. كلّهم معهم حق.. وأنا أيضا أحتاج أين يكون لي حق.. هل أنا تاجر خسار.. لابد أن أجد طريقا بين المجرّات وحركات النجوم.. أمس رأيت البدر كاملا.. بدر منتصف الشهر العربي.. نحن الآن في شهر رمضان .. واليوم هو الرابع عشر من رمضان.. ليس التاسع والعشرين من مايس الفرنجي.. الشهور الفرنجية صنعها غريغوريوس في القرون الوسطي، وجرى تعديلها غير مرّة.. وما زالت فيها فرق ثلاثة عشر يوم وثلاثة عشر ساعة وثلاثة عشر دقيقة.. كلّ ثلاثة عشر عام ينبغي تعديل الكالندر الفرنجي.. نحن نتبع الكالندر القمري.. اليوم هي ليلة القدر إذن.. منذ يومين يفارقني النوم وأغفو متأخرا.. هل ساعتي البيولوجية مربوطة على توقيت فضائي.. ـــــــــــــــــــ * (قنفه)- كلّها بالفتح-، لغة عراقية: بالمصرية تدعى (كنبه) – كلّها بالفتح-: وهي لفظة أجنبية معرّبة، وهي مكان جلوس لأكثر من شخص: كرسي عريض.
(81) عندما نظرت من النافذة نحو الأفق.. في الطابق التاسع من مبنى المستشفى الإنجليزي.. وقعت عيني على منظر حميم.. كنت أفتقده من زمن.. حقول خضراء ممتدّة.. ترتفع وترتفع حنى نهاية الافق.. تذكرت مرتفعات النمسا الممتدّة على مدى البصر.. حتى لا تتصوّر مكانا للتراب العاري في تلك البلاد.. لماذا يهزني هذا المنظر.. لا أدري.. هل لأن طغيان الخضرة يذكرني بمقابر أوربا.. أم يذكرني بصحارى بلادنا التي تكتوي بقيظ صيفها الطويل.. أم تعيدني لطفولة بعيدة عندما أرفع عيني لسفوح زاكَروس المتشاهقة حتى عنان السماء.. ربما وربما لا.. لكنني في كلّ ذلك لم يخطر لي أن تلك المشاهد الحميمة.. تعني تذكرة عودة سريعة لتلك البلاد التي قدمت منها قبل أثني عشر عاما.. (go home!).. تلك الاعلانات التي كانت تروّجها باصات لندره الحمراء وهي تجوب الشوارع والأحياء البعيدة.. تذكّرت ذلك اليوم.. عندما دفعتني الحاجة للوقوف وراء باب البلكون، والنظر نحو الأفق.. ها أنا مباشرة أزاء السفوح المتصاعدة تصاعد أشواق الدّرويش إلى عتبات التجلّي.. مدد.. مدد.... وعادت بي الذاكرة للمستشفى.. وكلّ الأشياء الأخيرة التي حصلت معي للمرة الاولى.. وكأنني كنت أنتظرها، منذ سنوات طويلة.. تذكرة انتقال للمستقبل والاستقرار.. فإذا بها صفارة النهاية.. صفارة الرّحيل.. من موانئ بلا وداع.. نهاية عمر لم يكن غير مضيعة على قارعة الغربة .. أو الخيبة.. أو الندم.. وهذا طبعا ليس منّي.. أنها العبارة التي وجدتها على قصاصة ورق صغيرة مطوية بعناية .. ناولني إياها والدي في أيام الدراسة المتوسطة.. أول وآخر ورقة يناولني إياها والدي.. ليس فيها غير تلك العبارة.. شارة طريق.. نظرت إليه باستغراب.. وهو يراقب ردّ فعلي.. ما هذه.. ابتسم وهو يقول.. عنوان موضوع إنشاء.. اكتب أحسن ما عندك.. إنشاء ماذا يا أبي.. أنه يخص مصير إنسان.. فريدة.. الموظفة معي في قسم الحسابات لديها امتحان بكالوريا هذا العام.. وتريد منك درجة كاملة في الإنشاء.. ترفع معدّلها النهائي.. أحاول.. في اليوم الثاني.. ناولته الموضوع.. وضع الورقة مطوية في جيبه.. وهو يقول.. سآخذك معي لتتعرف عليها.. أنها فتاة مهذبة جدّا.. فعلا ذهبت معه بعد مدّة.. كانت فتاة جالسة على طاولة في حجرة الحسابات.. وبصوت مسموع قال والدي.. هذا هو فريد.. رفعت فريدة عينيها نحوي بابتسامة.. قامت ووضعت يدا خجولة في يدي.. وبصوت خفيض شكرتني على الموضوع.. امتدحته.. زميلاتها في المدرسة امتدحنه أيضا.. ناولني والدي سجلا عريضا فتحه أمامي ودعا لي بكوب شاي.. جلست على جانب من طاولته.. وبدأت أفعل مثلهم.. مراجعة الحسابات الشهرية لرواتب الموظفين والحسابات الختامية.. في الأسبوع الأول من كلّ شهر.. يأخذني والدي معه للدائرة للمساعدة في مراجعة الحسابات.. كان والدي مدير حسابات الدائرة.. عندما أستذكر تلك الايام.. والسنوات التي مرّت من بعدها.. أحاول تحديد بداية (المضيعة) في حياتي.. هل كانت في سنّ المتوسطة.. الاعدادية.. الابتدائية.. الجامعية.. الجندية.. الحربية.. أم بدء من تلك الطفولة المنحوسة والجسد الأزرق.. أنا أعمى فمن يبصرني.. من يعطيني يديه ويقودني عبر ظلمة الطريق.. قارعة الطريق.. قارعة طريق.. يتقاطع فيه الشرق مع الغرب.. والشمال مع الجنوب.. الاشتراكية مع الرأسمالية، والإسلام مع المسيحية.. واللغات.. ماذا أفعل بثلاث لغات لا تساوي نصف رغيف لإنسان جائع لا يبيع نفسه.. هل كان والدي يعرف معنى تلك الورقة.. يعرف بالتأكيد أن (فريدة) هو اسم على إسمي القديم الذي أسمتني به أمي.. وأصرّ على هو تغييره.. أحسست بذلك من عينيه وهو يقول.. سآخذك لترى فريدة.. كأنه يقول نصفك المفقود.. العائم.. ولماذا يمتدحها أمامي.. كأنها بنته.. أعني كأنه يمتدحني أنا.. لا أعرف ما حلّ بفريدة بعد ذلك.. عرفت أنها نجحت وبتفوق.. وانتقلت إلى بغداد للدراسة في الجامعة.. لم تسأل عني.. لم أردها.. لماذا لم تطلب زميلاتها منها التوسط لكتابة موضوعات إنشاء لهنّ.. هكذا.. مجرد مضيعة.. في العام التالي انتقل والدي إلى العاصمة.. حصل على وظيفة أعلى.. لم أعد أرافقه للعمل.. ولا يطلب مساعدتي في المكتب.. عمر المرء مهما كان طويلا أو سعيدا، فهو يأخذ صورة يوم.. يبدأ من عتمة الفجر.. يتجه لذروة الظهيرة.. عند البعض تكون الظهيرة المجد والذروة العليا.. عند غيره تكون شقاء وذروة دنيا.. ثم تتجه للمغيب.. قد يأتي المساء سريعا وسهلا.. وقد يستغرق أطول.. حياة الانسان لا تقاس بالساعات والأميال.. ولكن بالمشاعر والعواطف.. قد يشعر الفقير نفسه سعيدا.. وقد يحسّ الغني والعظيم بالتعاسة والجفاف العاطفي.. ولكن لا أحد.. لا أحد يجد جوابا لأسئلة زرادشت.. الاسئلة التي قرضت سبعة أعوام من حياته بلا طائل.. في أي يوم نحن اليوم.. وما هو التاريخ.. ما هي الأيام التي شابهت هذا اليوم عبر الزمان.. وما طبيعة السّعداء والأشقياء فيه.. كم كان عددهم.. وكم أضيف لذلك العدد مع انتهاء هذا اليوم.. يوم السعد الخميس.. ترى.. هل كان سعيدا فعلا.. عيش في ظل من تحبه.. عيش!.. هنيئا لك.. هنيئا....
(82) هل أنا طفل نحس.. في أوربا يقال: طفل حبّ.. لكني لم أكن طفل حبّ.. في ذلك البيت لا وجود لحبّ.. الحبّ عيب.. حرام.. زَعْرَنهْ*.. أي شيء.. ولكن: (لاحبّ)!.. خمس سنوات بعد الزواج لم تحمل أمي.. اضطربت الأمور .. تم تجربة كل الطرق والأساليب وأنواع الشفاعات والكرامات.. الشخص الذي رأيته في الحجرة الكبيرة وهو يشعل النار ويوقد البخور ويطالب أمي بقميص وشعر ودجاجة.. قال لها: يكون عندك خمسة.. أمامك خمسة نذور.. أو تقومين أنت بحقّ كلّ واحد منهم.. أخذ القميص والدجاج ومبلغا من المال يطالب كلّ مرة بزيادته وذهب.. أنجبت أمي بنتين.. البنت الأولى عاشت.. البنت الثانية بلغت السابعة وماتت.. ثم أنجبت ولدين.. الأول عاش.. الثاني مات بعد إسبوع.. يومها لم تفهم أمي الدرس.. لأن بنتها الثانية ما زالت لم تبلغ السابعة.. فرفضت تسليم ولدها الثاني للدفن.. رغم أنه لا يرضع ولا يتنفس.. بخبرة الداية صار الطفل يتنفس ويرضع.. وهذا الطفل هو أنا.. الطفل الثالث كان صبيا أيضا.. لكنه مات فورا.. ولم تنفع معه أية طرق.. الطفل الرابع كان صبيا.. عاش.. بلغ الثانية والعشرين ومات.. أما الطفل الثاني الذي هو أنا فقد نشأت خارج العائلة.. وعندما بلغت الحادية والثلاثين قالت لي أمي بنفسها: (أنت ميت!).. عندي أبناء ماتوا وأنت واحد منهم!.. بعد واحد وثلاثين عاما أدركت أن ما فعلته كان ضدّ القدر.. في الحادية الثلاثين هجرت البلد.. وبعد عام ماتت هي.. قبل ثلاثين عاما من اليوم ماتت.. وأنا لست حيا ولا ميتا.. الرسالة القديمة التي وصلتني من أخي يومها.. تقول أن إسمي كان على شفاهها وهي تلفظ آخر أنفاسها.. ولكن بأي معنى.. فأنا الآن عاجز عن الحياة.. وعاجز عن الموت .. الناس يهربون مني.. أخوتي.. مبريخا نفسها وجدت راحة في التخلص مني.. أقصد التخلص من النحس.. رغم أن قلبها معي.. ولكنها أيضا تقول مثل قيافا: أن دمار شخص أفضل من دمار عائلة!.. لكنني أنا لست نحسا.. النحس هو ما يحيط بي أو يلاحقني.. لقد كنت روحا خيرة للجميع.. وكلّ من عرفني تبارك بي.. وما يزال يتبارك.. لكن الذي يتبارك بي لا يباركني.. أن أحتاج البركة أيضا.. من يعطي يأخذ.. لكنّ الذين أخذوا لم يعودوا.. مثل البرصان التسعة.. ــــــــــــــــــــــــ * زَعْرَنَهْ: صيغة مصدر من لفظة [زعْر/ أزعَرْ]: دالة نقص الفهم أو عدمه، وتطلق على الأطفال: (زُعْران).
(83) عندما أخرج للشارع.. لا يكون معي غير قلبي.. يقودني في سحابة الزمن ومفترقات الوجوه.. قلبي هو الوحيد الذي أئتمنه على نفسي وفي أحضانه أختبئ.. فمنذ غاب الأخوة صار هو كلّ شيء لدي.. منذ عميت (الديار تلفتّ القلب)*.. قلبي لا يتكلم ولا يتحرك.. لكنه يعرف كيف يقودني.. مثل أب حنون يمسك بيدي ويسير معي.. لكن قلبي الذي عرفته مذ فتحت عيني.. تنقصه البصيرة.. نصف أعمى.. يرى الأشياء بعين واحدة.. وبعين واحدة يقودني.. دائما نسير على جانب الطريق.. جانب واحد من الطريق.. ولا نعرف ما يجري في الجانب الآخر.. قلبي لا يهمه معرفة ما في الجانب الآخر.. أنه معني بجانب واحد يريده هو.. هكذا اتبعت قلبي ستين عاما.. بعين واحدة.. بنصف عين.. وفي جانب واحد من الطريق.. دائما بمحاذاة الجانب.. لا نشارك في كرنفال.. ولا نعرف معنى الرقص والضحك والركض مع الناس.. دائما لوحدنا.. ومثل غريبين أعميين.. لا أعرف من منا يمسك بيد الثاني ومن الذي يقود.. لكن المؤكد ليس أنا.. أنا الذي لم أكن.. وكان هو قبلي.. يبقى القلب قلبي.. هو ذاتي وطريقي وأغلى شيء في كياني.. قلبي دليلي.. وماذا أفعل أنا في عالم فوضى تختلط فيه الألوان.. أتبع دليلي وهو يجد لي الطريق.. لا يتكلم القلب لغات.. لكنه يفهم العالم.. هكذا أفترض أنا طبعا.. حتى الآن وقعنا في كوارث كثيرة.. وارتكبنا خسائر فظيعة.. لكنه لا مفرّ.. بعينه الواحدة ينظر للنساء والمدن واللغات والمنافع.. بحركة اصبعه الصغير يجرّ خطا.. يلغي فيه الشيء في لحظة.. في أول لحظة.. لا أكاد أعرف أحدا أو شيئا.. يغيره أو حتى يشطبه.. وما لم يشطب لم أكسب منه غير الندم.. الندم يجعلني اثق فيه أكثر من نفسي.. فالحياد أفضل من الألم.. معاناة الوحدة والوحشة والغربةّ.. أفضل من أصدقاء السوء ونساء الشرّ.. حياد في عالم يتنفس الشرّ.. ويمتص الدماء.. شيء لغز.. قلبي وأنا والعالم ثلاثة.. من المخطئ فينا وأين يقع الصواب.. أنا أتبع قلبي ولا أتبع العالم.. يبقى اثنان.. أنا والعالم.. أنا لا أتبع العالم والعالم لا يتبعني.. لا أنسجم معه ولا ينسجم معي.. لا يشبهني ولا أشبهه.. لا أعرف كيف عشت في عالم.. لا يربطني به شيء.. لا أعرف إذا كان العالم كما هو.. أو تغير مؤخرا.. هل كان وجود بعض الناس حوالي.. يشغلني عن رؤية حقيقة الصورة.. وإذ اختفى أولئك صرت وجها لوجه مع البشاعة.. لكن العالم كبير.. أقوى مني.. هو كل شيء.. حتى الهواء بيده.. أين أذهب منه ولا مفرّ.. كيف أخرج من العالم.. هنا سكت قلبي ولم يعد يتجاوب معي.. كيف أسأل قلبا أعمى عن مفتاح.. كيف أسلم وجودي لشيء.. لا يزيد حجمه عن راحة كفي.. هذا السؤال أيضا يشغلني.. إذا لم أستعن بقلبي فكيف أتنفس.. وأنا أتنفس رغما عني.. سلمت لقلبي عندما خذلني عقلي.. وعقلي مغرور وأعمى.. عشت معه نصف عمري.. نصف عمري عشت في غوايته.. تلك هي أجمل أيام عمري.. ذلك هو عمري الحقيقي.. الذي لم يكن غير غير خدعة.. كيف خدعني عقلي.. أشبّه عقلي بشخص حكيم ذي سلطة ومال.. ولا حدود لحكمته وسلطته وماله.. طيلة وجودي مع عقلي لم أعتبر العالم شيئا.. ولا وضعت نظري على شيء.. لا مال ولا سلطة ولا امرأة.. في كل ما يشغل الناس كنت أطمئن لخزانة عقلي.. الذي يعطيني كلّ شيء في ساعة طلبي.. ويضع في متناولي أغلى ما يحلم به احد.. عقلي يعرفني ويعرف الزمن.. يعرف ما يلزمني وما لا يناسبني.. وفي الوقت المناسب يؤمن لي حاجتي.. مع عقلي كنت ممتلئا.. غنيا.. قويا.. صاحب جبروت.. هكذا أشعر.. كبرياء ذاتي تسحق العالم.. أنا والعالم.. أنا لست مع العالم.. أنا فوقه.. العالم سوف يمضي.. ولذته تنقضي.. وأنا أبقى.. تلك كانت أجمل أحلامي.. ذروة وجودي.. حتى جدّي وأهلي والآخرون.. لم يكونوا شيئا كما الآن.. عندما كان لي عقلي.. لكن عقلي لا يريد أن يكبر.. لا يتخلى عن سن الشباب.. ولا يعترف بقصص الأيام.. عندما بلغت العشرين.. صار يبتعد عني.. كلّ ما فعلته بعد العشرين نزعه مني.. صارت الخرافة تصغر.. الواقع يكبر.. كان عليّ فعل أشياء لا يقبلها عقلي.. الخروج من ذاتي.. وتلبس أدوار لا تنسجم مع ميثاق الشرف المعتمد بيننا.. لا ألومه.. لا أستيطع البقاء معه أو اللحاق به.. كنت أحتاج لقوة مضاهية للعالم.. تحررني منه لأهرب مع عقلي.. هكذا ذهبت إلى الحرب.. والحرب بلا عقل ولا منطق.. وحدي ذهبت إلى الحرب بلا عقل.. كل المحسوبين عليّ من عائلة وأهل تواروا.. بعضهم كان يزفني مثل عريس إلى الحرب.. نكاية بالعقل.. عندما انتهت الحرب كنت بلا عقل ولا أهل ولا حياة.. مجرد بوصلة عمياء في ساحة زمن بلا عقل.. عقلي لم يخدعني ولا فارقني.. أنا فارقته.. وخدعت نفسي بلعبة أخرى.. خرجت منه ودخلت في العالم.. ولكني فعلت ذلك في غيبة من عقلي ورشد من ذاتي.. لم أعرف أني أحتاج شجاعة كبيرة للبقاء مع عقلي.. وأحتاج شجاعة كبيرة للذهاب مع العالم.. كنت بلا شجاعة.. فخسرت الأثنين.. ذهبت عني نشوة الشباب ولذة المغامرة.. حياتي ضاعت بلا بطولة.. عشت كلّ سنيني تحت وصاية عقلي ولم يخطر لي أن أقترف شيئا.. حتى ولا قتل ذبابة.. أو تضييع ساعة من الزمن.. سمعت أن الياباني يغمض عينيه حين لا يكون شيء يستحق الرؤية.. فأغمضت وجودي على كثير من العالم.. عشت داخل دهليز عقلي مثل دهليز بلاتو.. وعندما خرجت منه.. كنت مثل سمكة بلا ماء.. قصتي إذن هي الشجاعة.. قصة الخوف.. الحذر أكثر من اللزوم جعلني جبانا.. أبرر الضرورة بالعجز عن المغامرة.. الخوف من المجازفة.. لم أعرف امرأة ولا حزبا ولا دخلت في تجارة أو دين.. ليس لي اليوم شيء ألتفت إليه.. ولا خيمة تظللني.. التقدم في السن.. لم يمنحني شجاعة.. بل سلبني القناعة بأي شيء.. ـــــــــــــــــــــــــ • البيت للشريف الرضي: محمد بن الحسين الموسوي [970- 1015م] وأصله: ولقد مررت على ديارهمو/ وطلولها بيد البلى نهبُ/ فوقفت حتى ضجّ من لغب/ نضوي، ولجّ بعذلي الركبُ/ وتلفتت عيني، فمذ خفيت/ عنها الطلول تلفت القلبُ!.
(84) أنظر من نافذة الطابق الأول.. لحركة السيارات في الشارع.. أحلم يقظة.. بامرأة تقود سيارة تلوح لي.. من نافذة بيت.. لا يعرف أحد ربما بوجود نفس تتحرك فيه.. تنتظر امرأة لا تأتي.. فالخرافة تصنع حلما ولا تصنع امرأة.. أمرأة ياما احتقرتها ونظرتها شزرا.. تريدها أن تأتي الآن وتتبناك طفلا.. بكلّ ما في التبني والطفولة من معنى وألم.. ولم يطل الأمر كثيرا.. ودون أن أعرف كيف وأين.. وجدتها بجانبي.. نسير كلانا في شارع طويل من شوارع الماضي الجميل.. تزيدني طولا.. وطبعا أكثر مني جمالا.. ترتدي جبة أزهرية رصاصية تغطي أصابع قدميها.. تغطي رأسها بشال جميل ملوّن.. تزن الكلمات بالذهب.. كأننا كنا كذلك منذ الأزل.. حدث ذلك صباحا.. تلك الهنيهة بين وقت الصباح وقبيل الظهيرة.. قبل أن ينتهي الشارع الواسع في شارع مستعرض واسع مثله.. سألتني عن اليمين والشمال.. على الشمال كانت المدينة.. وعلى اليمين كانت الحديقة.. هي كانت الى يميني في الشارع.. وأنا أسير إلى يسارها.. هي أطول مني.. بيننا مسافة تكفي لمرور الهواء.. كلانا ينظر للأمام.. ولكن أيدينا حرة.. قبل ذلك سألتني أيضا عن رأيي في شيء.. قلت لها أي شخص تعنين في سؤالك.. عليك تحديد هوية الشخص.. الذي تودين أن يجيبك من خلالي.. فأنا كما تعلمين لست شخصا واحدا.. لم تردّ.. جاء سؤال مفترق الطريق.. واختلفنا نسبيا.. هي مشغولة ببنتها التي وضعتها في الحضانة.. تريد أن تضبط طريق الوصول إليها.. وكم يستغرق الطريق.. الباص الذي يصل هناك.. الحضانة تقع في السوق.. ولكننا ذهبنا في اتجاه الحديقة.. هناك يمكننا التحدث بحرية أكثر.. صرت أهتم بها أكثر.. أعني أفسح لها الطريق أمامي.. أتأخر حتى تمرّ هي.. نعبر من باب لباب.. ننزل ونصعد درجات وعتبات.. أبواب زجاج وحركة ناس.. في كلّ ذلك لم أعرف أنها عمياء.. صرت أهتم بها أكثر.. أحاول تنبيهها لعدد الدرجات.. أو انخفاض واحدة منها أو ارتفاعها قبل وقت مناسب.. كانت تفعل ذلك لوحدها.. وكان معونتي تصل متأخرة دائما.. تأخر معونتي يصيبني بالألم.. عندما تتعثر أشعر بالذنب.. وصلنا الحديقة.. لكننا نسينا عندها تماما لماذا نحن هنا.. الباص والحضانة كلّ ما يشغلها.. وهي كلّ ما يشغلني.. لم أنتبه إلى وجود ساقية على يمين الحديقة.. عندما اختارت الجلوس.. جلست على وتد معلق بين ضفتي الساقية.. ساقاها تتدليان للأسفل كما في ارجوحة.. عندما انتبهت لحركة الماء من تحت قدميها.. لم أعرف كيف أنبهها للحذر .. عندما عرفت ان الماء تحتها.. حاولت الوقوف.. دفعت قدميها للأسفل.. ونزلت في الماء.. بالكاد استطعت أن أصرخ.. تناولت ذراعها الشمال.. هكذا صارت تسير في الماء وأنا أنحني ممسكا بذراعها لأسحبها للخارج.. هنا ظهرت امرأة تتقدم نحونا في طريقها للسوق.. طلبت مساعدتها.. عندما تجاوزنا الموقف.. كان وقت الحضانة قد أزف.. عرفنا الباص الذي يصل الى الحضانة.. لكنه يدور خلال المدينة.. قبل أن يذهب إلى هناك.. ويستغرق ذلك مسيرة ساعة ونصف.. لا أذكر الآن رقم الباص.. ولكننا عرفنا نقطة نهاية الخط.. والباصات التي تنطلق من جديد.. في مشوارها من نهاية الخط حتى الجهة الثانية منه.. اكتشفنا أيضا.. وهذا بحذق مني.. أن مسافة نصف ساعة، يستغرقها الباص في حي سكني وسط المدينة.. إذا يمكن الالتحاق بالباص من وسط المدينة.. عندما انتهينا من كل تلك الجهود وتجميع المعلومات.. ترتبت طريقة بلوغ الحضانة واحضار الطفلة.. لم تقل أن معها سيارة صغيرة.. لكنها تعرف طريقا أفضل لبلوغ الحضانة.. ومن خلال وسط المدينة.. نسينا موضوع المقابلة.. لم نقل كلمة عن ذلك.. الوصول إلى الحضانة واحضار الطفلة كان شاغلنا الرئيس.. وكل موضوع حديثنا هذا اليوم.. كنا سعداء جدا لأننا اكتشفنا وسط المدينة (حراشوه/ جدارين).. وما علينا غير الذهاب بالسيارة الصغيرة، خلال شارع المحيط والاتجاه منه للحضانة.. صار هذا يشغلني الآن.. لكي تكون دلالتي صحيحة.. لندره مدينة كبيرة.. شوارعها كثيرة.. وخريطتها محيرة.. والحياة في مدينة كبيرة تحتاج مواهب خاصة.. لا أعتقد أنها تتوفر فيك.. هل تعرف لماذا؟.. لأنه لو كانت عندك موهبة واحدة.. لما وصلت إلى هنا.. ولا ضيّعت نفسك.. كلامي لا يعجبك.. ها.. ولكن ماذا تسمي وضعك هذا.. شحاذ.. متشرّد.. ليس لك مكان تبيت فيه.. ولا مكان تتناول فيه طعامك.. والنقود التي في جيبك.. لا تعرف متى تنفذ.. عندها لا تستطيع تعبئة الجوال الذي معك.. للاتصال بناس يؤمنون لك المبيت تحت سقف.. هل أنا الوحيد في هذه الحال.. ألوف الناس خرجوا قبلي.. وألوف يخرجون.. وكثيرون مرّوا بظروفي.. ولا بدّ من فرج!.. لا تظلمه ابروح ابوك.. تراهي ما بيهه.. يتمشى في شارع أجور رود جيئة وذهابا.. يمرّ من أمام البنك الاسلامي البريطاني.. بابه مقفولة على الدوام.. وليس فيه حتى مكان شباك.. قبل أن يصل سينما الأوديون مقابل الهايد بارك يعود ثانية.. يسير الهوينا.. عيناه مرهفتان لسماعة هاتفه الجوال في جيب قميصه الأعلى.. عيناه تجوسان في فضاء الشارع وزحمة الرصيف.. دون أن تقعا على شيء.. هواجسه وقلقه يطفران من محجري عينيه.. لماذا لندره.. لماذا لم تختر بلدا عربيا تعيش فيه.. على الأقل.. اسكت اسكت.. على الأقل.. على الأقل لو كانت رحمة.. كان بقيت بالبلد.. هناك من تجي تجي ومن تجفي تجفي.. لمن تجي.. الكل يصير وياك.. ولمن تجفي.. الكل يصير عليك.. لا ينفع بيها عرب ولا كرد.. كلها سوه.. واحنه خلاص.. الدنيا قلبت ضدنا.. وفلوسنا صارت خشب.. كل حاله ولهه حل.. عليش السمه وجهها للكاع.. ما تظل هيجي.. خللي عندك شوية ايمان.. هي ضاجت.. بس ما عافني.. وما راح يعوفني.. يمكن تطلع لي موهبة صدكَـ.. لو معجزة.. كلشي يصير لا أني أول غريب ولا آخر يتيم.. اللي ما له أب. لابد إله رب.. آمنت بالله!.. * - أيامنا مشدودة خلفنا.. نتبعها من دون أن ندري!.. - أنا لم آتِ بنفسي إلى هنا.. ولكن القدر.. - وافرض انها ما انحلت.. ما صار فرج.. - اموت هنا.. ميتة لندره أحسن من ميتة هناك.. - واذا ما متت.. - اذا ما متت هم أنتحر واخلص.. ما ورايا شي اخاف عليه.. - على الأقل ينقال.. مات ابلندره.. أكو نظافة واكو اسعاف.. - مو مثل اهنا.. تشيلهم البلدية يالبيك اب.. - والله ضحكتني.. - أضحكك بالموت.. - أيه.. - ويكتبون اسمك بالانجليزي.. وادي..!
(انتهت) يوليو 2018م
صدر له: 1- كركجور العراقي- رواية.. 2- سنكسارا- رواية.. 3- كاموك- رواية..
له: - في علم اجتماع الفرد- خمسون حديثا في اللغة واللامعقول والواقع.. - في علم اجتماع الجماعة- خمسون حديثا عن الانسان والانتماء والابداع..
#وديع_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كاموك- رواية- (71- 77)
-
كاموك- رواية- (64- 70)
-
كاموك- رواية- (57- 63)
-
كاموك- رواية- (50- 56)
-
كاموك- رواية- (43- 49)
-
كاموك- رواية- (36- 42)
-
كاموك- رواية- (29- 35)
-
كاموك- رواية- (22- 28)
-
كاموك- رواية- (15 -21)
-
كاموك- رواية- (8- 14)
-
كاموك- رواية- (1- 7)
-
في علم اجتماع الجماعة- ج2
-
في علم اجتماع الجماعة- خمسون حديثا عن الانسان والانتماء والا
...
-
انتبهْ!.. الوطنُ لا يُباعُ وَلا يُستبدَلُ.. وَلا يُطرَحُ للإ
...
-
ما بعد الحداثة/ ما بعد الانسان..
-
نحو علم اجتماع عربي..
-
محاضرات في لاهوت العولمة
-
(المسيح الثائر) في اسفار الشاعر الاشتراكي المصري أمل دنقل
-
(المسيح واللصوص) للأديب والفنان الاشتراكي نجيب سرور
-
(اعترافتان في الليل، والاقدام على الثالثة) للشاعر الاشتراكي
...
المزيد.....
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|