|
عبقرية طه حسين (8) أول من منحته الجامعة درجة الدكتوراة
عمر أبو رصاع
الحوار المتمدن-العدد: 1508 - 2006 / 4 / 2 - 09:26
المحور:
الادب والفن
انشاء الجامعة المصرية، حدث استثنائي في غاية الأهمية لم يحظى بالاهتمام الكافي الذي يليق به ، وكم عجبت فيما تتبعت من شأن الدراما المصرية أن تهمل مثل هذه القصة الغزيرة الدلالة ، فالجامعة إنما انشأت بجهود تطوعية هب لها أفراد وتبرعوا وانفقوا ما أمكنهم وعملوا جهدهم الموصول الجهيد حتى تنفذ واقعا ماثلا ، وكم يعز علينا اليوم وفيما تفصلنا عقود أو قل زهاء قرن من الزمن عن ذلك الحدث لا نرى بيننا من الأعلام من يقوم في طلب مثل هذه الانجازات العظام التي فيها رفعة الأمم ، أين تلك المبادرات التي نهض لها و بها أفراد وجماعات في أطر من العمل التطوعي الخالص؟ أين منا سعد زغلول وقاسم أمين ومشروع الجامعة أين منا طلعت حرب ومبادراته المنقطعة النظير؟
إننا حتى لم نعد نجرؤ على أحلام النهضة نفسها ، أيجرؤ أحد اليوم أن يؤرخ بالفن لثورة تبني فيقول : أدورة أرض بغير فضاء أمعجزة ما لها أنبياء ..... وصاح صوت أبي......أنا الشعب تحدي التأميم و بناء السد العالي ، التصنيع الثقيل الذي بيعت مصانعه بملاليم دون أن يعلم الشعب الذي دفع الثمن من لحمه و دمه كيف وأين ومتى أهدرت ثروته؟
هل عدمنا مثل هؤلاء البشر أم أعدمناهم؟
لا والله بل إن ما نحن عليه من أمر يعدم هؤلاء ويزدريهم ويحول بينهم وبين أن يقوموا لأمر أمتهم، أتغيب عن الذهن مثلا قصة العلامة الدكتور أحمد زويل ومشروع الجامعة التكنولوجية؟ فهل العلة بانعدام الرجال أم العلة في إعدامهم؟!
لولا الجامعة وقتها لكتب لعبقرية طه حسين أن تئدها مشيخة الأزهر إلى الأبد ، ولما نعمنا بما أثاره وما صنعه ، ولا داعب عقولنا ما كتبه وأبدعه ، فماذا وجد طه حسين في الجامعة ؟
يصف طه حياته الجامعية الأولى بأنها عيد متصل رائع الامتاع ، تخيل وإن كنت طالبا بالذات عزيزي القارئ أن تحس بأن حياتك الجامعية عيدا متصلا رائع الامتاع ، تخيل أن تنشئ نثرا وشعرا تستعطف فيه معلمك أن يزيدك بعد انتهاء المنهاج المقرر درسا أو درسين امتاعا لعقلك ونفسك.
صعب أن يتخيل طلبتنا اليوم ذلك ، ليس بالضرورة لأنهم يقلون عن طه حسين قدرة على الأقل من حيث المعدن العقلي لكن وذلك بيت القصيد لأنهم لم دخلوا الجامعة ولم تدخلهم الجامعة ، وقد عنيت مدة بسؤال ماذا تدرس ولماذا تدرس؟ اتذكر يوما كنت فيه اختلف إلى أحد مقاهي الجيزة فيما بين الهرم وفيصل من شوارع فرعية هي إلى العشوائية أقرب فإذا بمجموعة ظريفة من الطلبة الجامعيين يصنعون في المقهى جوا من الفكاهة يلذه المرؤ ويألفه ، عجبت من أمرهم وهم يأتلفون إلى المقهى في هذا الوقت الباكر وعلى الأغلب هو وقت درس ومحاضرات لكني عدا ابتسامتي ما كنت ابادرهم ، حتى حمل أحدهم إلي طاولة الزهر وسألني : تلعب؟ قلت : ألعب. ووضعت جانبا كتابي الذي كنت أطالع ، وبدأت معه اللعب والحديث ، ولم يحتج الفتى لكبير جهد من مخزون براعته فغلبني مرارا وتكرارا لا في الطاولة فحسب وإنما في الشطرنج أيضا ، كيف لا وهو "الحريف" وأنا الغشيم قليل المران بهذه الألعاب ، وسرعان ما اختلف بقية الفتية إلى مجلسي وصار لي معهم ساعة نقضيها من كل صباح ، فعرفت فيهم طالب الحقوق وطالب التاريخ وطالب الاقتصاد ، وسألتهم كيف هم من طلبة الجامعة وينجحون برتابة مع أنهم لا يختلفون إلى الدروس ، فضحكوا ورد أنجبهم علي : بص حضرتك في حاجة عندنا اسمها الملخصات والملاحق و كمان حبة دروس على حبة مجموعات وتنجح!
سألت طالب التاريخ سنة ثالثة عن أول رئيس جمهورية لمصر العربية ؟ فلم يعرف! وعندما استهجنت منه ذلك ، رد : أصل حضرتك مش واخد بالك يعني اسألني مثلا في الأسرة الفرعونية السبعة ماشي إنما الحجات دي معلش مش أوي. وطبعا لماذا هذا التخصص ؟ الاجابة المجموع المسألة برمتها لم تعد تعليما أبدا ولم تعد هناك رغبة في تحصيل العلم ولا معرفة بمعنى العلم والتعليم ولا هدفه ولا غايته ، ما هي إلا أيام تقضى وعملية اجرائية دورية لا يرعاها الطالب ولا المعلم والكل يضع نصب عينيه في نهاية الأمر رغيف العيش. لا أمنع نفسي من القياس على وصف مزعج استعمله فرانسيس فوكاياما في وصف العلاقة بين الدولة والعاملين في النظم الشيوعية : "الشعب يمثل على الدولة أنه يعمل والدولة تمثل على الشعب أنها تدفع له الرواتب." هكذا يتحول تعليمنا وجهازه برمته طلبة تمثل أنها تحصل العلم ومعلمين يمثلون أنهم يعلمون. قد يبدو هذا قاسيا وربما تحس فيه شيء من المبالغة لكنه فعلا يطغى ويتكرس فيما نظام حياتنا برمته يتحول إلى مسرحية لتمضية الوقت.
عيد متصل ومتعة لا تمل تلك كانت الجامعة في نظر طه حسين وزملائه نأمل أن تتكرس العناصر الضرورية لتجعل طالبنا يستمتع بالعملية التعليمية بهذه الكيفية وعلى هذا النحو.
بين اساتذته المستشرقين والمشارقة توزع عقل طه باتزان ، فقد أتاح المشارقة منهم له أن يأتلف ائتلافا معتدلا من علم الشرق والغرب جميعا، بين المطربشين منهم وحاسروا الرؤوس وأرباب العمم ، لكن أي نوع من الأساتذة كانوا؟
ذات يوم نشرت الجريدة مسابقة شعرية جعلت لها كتاب الأمالي لأبي علي القالي جائزة وحكمت فيها الاستاذ حفني ناصف وطالبه طه حسين! وكبر الأمر في نفس طه وأثار فيه شيء من الغرور أيقرن لأستاذه ، ولكن الاستاذ بما يليق بالأساتذة من مكانة ومن عمق إدراك وثقة يحمل في الليل المساهمات التي أرسل بها المتسابقون ويذهب بها بنفسه إلى بيت طه حسين ويفاجئه قائلا: أتيت لأخلو إليك ساعة نفرغ فيها من قضية هؤلاء المستبقين.
كان جل الأساتذة المشارقة إما من انتخبته إدارة الجامعة من المشايخ لدروس تتصل بما اتصل به الأزهر قرونا وإما ذاك الصنف من الرواد الذي غرف من معين العلم الحديث في الجامعات الغربية وعاد به مشغوفا بتعليمه لأبناء مصر.
تدرج طه حسين سريعا في علومه موفور الحظ قرير العين ، كما لمع كاتبا وذاع صيته وتيسر له من أمره ما أحب أن ينهل من العلم كيف يريد ، لكن نما إلى علمه أمر البعثات التي ترسلها الجامعة إلى أوربا وأغراه ذلك وفتنه فقد لمس من الأساتذة القادمين من فرنسا غزارة علم وجدة وموفور معرفة في ألوان من الفكر لم يألفها ولم يسمع بها المصريون من ذي قبل ، لكن كانت تقف بينه وبين ذلك غيرما عثرة ، فهو كفيف وهو غير حاصل بحكم ذلك وبحكم أزهريته على الثانوية وهو ضعيف المعرفة باللغة الفرنسية ، فكان مصير طلبه الانضمام إلى بعثة الجامعة الرفض ، خاصة أنه سيتكلف أكثر من غيره لحاجته لدليل يهتدي به في طريقه ويعينه على أمره.
فأعاد طلبه متنازلا عن النفقة الاضافية كونه سيقتطع ما يحتاجه الدليل من مخصصاته هو لكن عبثا ، واحتج المجلس الجامعي بأنه لا يجيد الفرنسية ، فعاد بعد عام أنفقه مشددا على نفسه في اللغة الفرنسية ورفع كتابا جديدا يطلب فيه إيفاده لدراسة الفلسفة أو التاريخ ويذكر بأنه سيتقدم في عامه هذا لنيل درجة الدكتوراة من الجامعة من قسم الآداب ، فوافق المجلس شريطة أن يظفر طه حسين بالدكتوراة أولا.
جاء يوم النقاش لرسالته التي أعدها في تاريخ أبي العلاء المعري وكان فيه خوف شديد أن يكون هذا يوم كيوم امتحان العالمية في الأزهر ، لكن طه كان جاهزا مستعدا وإلى جانب رسالته في تاريخ أبي العلاء كان عليه أن يناقش في علمين يختارهما وكانا الجغرافيا عند العرب والروح الدينية عند الخوارج ، من الطريف أن التمرد والآفة تلزمه ويلزمها نفسه فأبو العلاء المعري رجل كفيف وأديب والخوارج أشد الفرق تعلقا بالثورة وأكثرها نزوعا لها .
استمر النقاش زهاء الساعتين ، ثم تقرر منح طه حسين درجة جيد جدا في الرسالة والامتياز في الجغرافيا عند العرب و الامتياز في الروح الدينية للخوارج .
ليكون طه حسين أول طالب في هذه الجامعة ينال درجة الدكتوراة !
نعم طه حسين الفتى الكفيف القادم من صعيد مصر يشق الصفوف بل ويتقدمها جميعا ويقبل التحدي الكبير ويثور على الأزهر ويهجره ويمخر عباب تجربة جديدة في الجامعة ويتقدم كل أقرانه ليصبح أول طالب تمنحه الجامعة درجة الدكتورة.
كان ذاك فوزا كبيرا مستحقا عن جد واجتهاد وكم كانت فرحة الدكتور طه حسين كبيرة ليس فقط لأنه نال الدرجة ولا لكونه أول من نالها من الجامعة فقط ، بل وذلك هو الأهم أنها إيذانا بتنفيذ الجامعة لوعد قطعته وهو إرساله لأوربا في بعثتها إن حصل على الدرجة. – يتبع -
#عمر_أبو_رصاع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عبقرية طه حسين (7) كيف أصابت الثورة طه حسين
-
عبقرية طه حسين (6) سقوطه في العالمية وانحيازه للجامعة
-
عبقرية طه حسين (5) ثورة طه حسين على الأزهر
-
عبقرية طه حسين (4) طه حسين طالب الأزهر
-
عبقرية طه حسين (3) وحيدا مهملا بلا أنيس أو خليل
-
عبقرية طه حسين (2) الألفية وما أدراك ما الألفية
-
عبقرية طه حسين (1) لماذا يهاجمون طه حسين؟
-
مبدعٌ متبعٌ معاً
-
فلسطين إلى أين؟
-
مصر والنهضة
-
حمدي قنديل ضيفا
-
يسقط فقه الذكرية
-
بين العلمانية والمكفرة
-
عمان يا حبيبتي
-
كم اندلس ضائع نحتاج؟
-
هل نتجه نحو دولة ديموقراطية لكنها شمولية قمعية ؟
-
إغتيال الحريري والإنسحاب السوري
-
حتى يرجع اللحن عراقيا
-
مزابل التاريخ تنتظركم
-
هذا ماقاله لي سعد زغلول
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|