نبيل عبد الأمير الربيعي
كاتب. وباحث
(Nabeel Abd Al- Ameer Alrubaiy)
الحوار المتمدن-العدد: 5986 - 2018 / 9 / 6 - 23:25
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
التدين الشعبي وثقافة البحث عن المنقذ
نبيل عبد الأمير الربيعي
ما هي الأسباب التي تجعل من مجتمع له باعٍ طويل في التاريخ, وأسبقية قديمة في الحضارة, وتجربة أولية في الدين, أن يتحمل كل هذا القدر من المصائب السياسية والنوائب الاجتماعية, التي جلبها له وصلطتهّا عليه حكامه وجورهم, دون أن يجأر بنفاد خزينه من الصبر أو أن يصرخ بتآكل رصيده من الجلد, إذا ما تجرعه من صنوف الذّل والهوان؟!.
الشعب القطيع الذي يساق إلى المسالخ, مسالخ الذبح, ومحارق الموت, في وطنٍ مسخت هويته, وشعب أخصيت إرادته, حتى هبط إلى حضيضه الحيواني, وجمهور مدجّن داخل حضيرة لممارسة طقوس التأليه وشعائر التقديس لرموزه.
شعبٌ اصابه الشلل الإرادي والنكوص النفسي والانكفاء الإنساني, وحالات اليأس البائسة, لجماهيره المدجنة, المصابة باتساع رقعة الفقر وارتفاع الأمية, وانتشار الفوضى وانحسار المعنى, وتجذر التدين الشعبي وتوطن الثقافات الفوبكلورية.
هل ما نحن فيه سببه طبيعة سايكولوجيا الجمهور ونمط بنية الوعي الجمعي, وظاهرة التماهي بالزعيم من الذات إلى الآخر, مظاهر تأليه الزعيم الديني والسياسي؟
اجمعت البحوث والدراسات على أن للعقل الخام/ البكر, إذا ما ترك لهُ الحبل على الغارب, ألاعيبه المحيرة واكاذيبه المخجلة, فهو بالقدر ذاته, موطن للخرافة وموئل للثقافة, وهو بالدرجة عينها عرين للغرائز وأمين للوعي, وهو بالكيفية عينها السبيل إلى التبرير والطريق إلى التحضر, وهو بالقدر إياه يفضي إلى الوحشية أو يقود إلى المدينة. وتعتمد على قدرة الإنسان على ترويض الغرائز وعقلنة النوازع وانسنة التطلعات.
فحيثما يسود الفكر الاسطوري, تسيطر العبودية الاجتماعية على الطبقات العاملة الفقيرة, لتستغل وتوظف سياسياً واستثمارها ايديولوجياً من قبل القوى الإستغلالية لتحقيق مآربهم الدنيئة, كما تلعب الأساطير دوراً مزدوجاً في تفسير النظام القائم بعبارات تاريخية وتبررّه بإعطائه قاعدة تاريخية, وتصويره كنظام مبني على الحق.
فالمجتمعات البدائية كانت تجهل ممارسات التدوين التأريخي لأرشفة ملامحها والتوثيق الكتابي لحفظ سردياتها, حيث اضطرت للاعتماد كلياً على رصيد مخزونها من الثقافات الشعبية والتراثيات الفولكلورية, وهو ما تمخض عنه ابتكارها للأساطير المقدسة واجتراحها للخرافات المؤسسة والحفاظ على عناصره من النسيان بواقع عامل الزمن, بعد أن حتم عليها سباق التطور التاريخي التحول من طور الثقافات الشفاهية إلى طور الثقافات الكتابية, والأسطورة غالباً ما تدخل فيها قوى وكائنات أقوى وارفع من البشر تدخل في نطاق الدين, وتبدو عندها نظاماً شبه متماسكاً لتفسير الكون.
لا ننسى من الثقافات الشعبية البحث عن المنقذ المخلّص, والأمل في انقاذ المجتمع من بؤس احواله المأساوية, لكن بالواقع أن الفكرة قديمة قدم الإنسان ذاته, وهي بالواقع ضرورة اجتماعية خالصة قبل أن تصبح ضرورة فردية محضة, بسبب الظلم والحيف والعلاقات الاجتماعية الغير متكافئة, والشروط الإنسانية غير العادلة, حتى ادركت المجتمعات الدين والألوهية واستوعبت قيمة الرموز والمقدسات والتزمت بأداء الطقوس والشعائر.
إن عقيدة المنقذ تتلخص من عنف المجتمع والحدّ من جور علاقاته, فإزاء استبداد الحاكم وفي ظل التفكير الديني تتعلق الآمال بقيام مخلّص أو محرر يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً, حتى اصبحت عقيدة على سبيل الإيمان بها والاعتقاد فيها كمبدأ ديني ثابت وكتصور قدسي ملزم, وكداينمو يستقطب إرهاصاتها لأهمية تتناسب ودرجة هياج سيكولوجيتها الاجتماعية واستنفار تصوراتها المخيالية.
كلما اقترب الدين من مضمار السياسة وتسلل السياسة إلى محراب الدين تتعالى الدعوات لاستحضار فكرة المخلّص على خلفية الازمات والانقسامات وضجيج الصراعات, كلما تعاظمت الجموع المهمشة إلى ظهور شخصية المنقذ, سواء برداء الزعيم السياسي أو بجلباب المرشد الديني, وكلما ازداد القمع على الذات أو الجماعة ازداد تمسكها بالمنقذ.
إن جوهر هذه الظاهرة يتمحور بالدرجة الأساس حول اشكاليته الشرعية السياسية وحرمان جهة ما من نصابها وحقوقها واستبعادها عن أي دور من ادوارها, كلما اشرأبت تطلعات وأماني المستضعفين لقدوم عصر الزعيم المنقذ من الظلم والقائد المنجي من المحن, حتى يصبح هذا المنقذ نداً للإلوهية في صفاتها وقدراتها, وموزاي للمقدس في عصمته, حتى تتحول الإسطورة إلى واقع.
من هذا نستنتج أن شخصية المنقذ شخصية اسطورية افتراضية اكثر منها واقعية, خلقت من خلال المخيال الجمعي للجماعات الإنسانية المسلوبة الحقوق والارادة والرأي, والاحتماء تحت ظل هذه الشخصية الوهمية, والهدف من ذلك لجبر الخواطر المكسورة, وتهدئة النفوس القلقة, وتحقيق الآمال الضائعة, لذلك اصطنعت كل طائفة منقذها لتحقيق مآربها والتقرب من حضرة الإله, والشعور بهيبة المقدس, وهكذا فقد اتجه إلى إقامة المزارات للأولياء وإشادة المعابد للقديسين لتصبح اماكن مقدسة, لتجري لدى العامة زيارات دورية لمقام المقدس والتبرك بحضرته, لا سيما إذا كانت تضم رفات تلك الشخصيات.
بعض الطقوس والممارسات لا تمت للدين بصلة, وانما تأديتها من منطلق القرار من واقع بات لا يحتمل, وإيجاد من يعطي الأمل ويمنح الرجاء والتخفيف من وطأة بؤس المعاناة, لذلك ينخرط العامة بشعائر التعبد وطقوس الاحتفاء لأضرحة الأولياء ومقامات الصالحين, لنيل امتياز البركة وتوسطهم لدى حضرة الإله, وبهذا المعنى فإن الأضرحة ككل الأماكن المقدسة ليست سوى خزانات ارضية للقداسة السماوية باعتبارها الحامل الشرعي للأسرار الإلهية.
لذا أن لجوء الإنسان نحو الدين وانتماءه صوب المقدس مسألة قديمة في تاريخه وحالة مرافقة, وعند دراسة التجذر الديني الشعبي نخرج بنتيجة أنه لا يوجد مجتمع بشري معاصر يستطيع الاستغناء عن الدين ويتخلى عن الثقافة بالمطلق, لأن الدين والثقافة من الظواهر الاجتماعية بامتياز, وانهما يختلفان من مجتمع إلى آخر وتتباين من مرحلة تاريخية لأخرى, وهو ما يفسر لنا اسباب شيوع ظواهر التدين الشعبي والثقافة الفولكلورية, حيث التمسك بالمعتقدات الأسطورية والتصورات الخرافية والتفسيرات السحرية, وما زالت ليومنا هذا في بلاد الرافدين المعتقدات الشعبية والخرافات سادت وما يزال سائداً في مجتمعنا الريفي المقفل المتخلف.
ومن خصائص التدين الشعبي والثقافة الفولكلورية انهما يروجان لدعاوى ظهور الزعيم المنقذ ويبشران بقدوم البطل المخلّص, مبعوث العناية الإلهية الذي يرفع التهديد عن الإنسان الضعيف, إنه رمز العدل والأمن الوجودي. حتى تجذر التدين الشعبي وتوطين الثقافات الفولكلورية, لا في بنى الوعي الجمعي وانظمة التمثلات الرمزية فحسب, بل وكذلك في انماط العلاقات واشكال السلوكيات.
المصيبة إن بريق أي شخصية كارزمية لا يسطع سحرها ولا يشع إلا بالاعتماد على ما يضفيه التدين الشعبي من وقار, وما تسبغه الثقافة الفولكلورية من اعتبار, فضلاً عن انها تضع المنخرطين في هذا الضرب من النشاط الطقوسي والشعائري في حالة من الإيمان الروحي والانفعال النفسي بالقدرات الخارقة والطاقات الخلاقة, التي يمكن أن تتمخض عن كرامات الأولياء ومعجزات الزعماء الدينيين وزعيم الطائفة.
من خلال التمسك بالتدين الشعبي وترك الدين الأساسي الذي بعث من قبل الرسل والأنبياء يتماهى الجمهور المدجّن الشخصية الزعامية عمداً وهي المرجع له في كل صغيرة وكبيرة على وجه الخصوص مما يفقد الفرد استقلاليته الشخصية ويغيب وعيه, ويسبغ الالوهية على الزعيم الروحي أو السياسي وهكذا فلكي يجتاز الجمهور المدجّن حاجز التماهي مع شخصية الزعيم الكارزمي, ويذهب باتجاه وضع هذا الأخر في مستوى التنزيه من العيوب البشرية والأخطاء الإنسانية, ورفعه من ثم إلى مرتبة القداسة والتسامي به إلى مصاف الإلوهية, يستغل المنطلقات الروحية التي تنبثق منها تصوراته واعتقاداته, التي تعتبر المصدر الوحيد للشعور بالأمان والإحساس بالرعاية والاحتماء بالزعيم المنقذ, والتعلق بالأبطال واللجوء إلى الأولياء, وهي من قناعات الجمهور المدجّن القائمة على اساس موروث اسطوري/ ديني لتستمر في اروقة المخيال الجمعي, الذي ما زال يشتغل بنفس الآليات القديمة التي يطغى عليها الحكم وانتظار المنقذ الذي يعيد إلى الجماعة تجانسها, ويحميها من الأخطار, وينشر العد بعد ما ملئت الأرض جورا.
#نبيل_عبد_الأمير_الربيعي (هاشتاغ)
Nabeel_Abd_Al-_Ameer_Alrubaiy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟