أمين نور
الحوار المتمدن-العدد: 5975 - 2018 / 8 / 26 - 15:21
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
توصيف
=====
قامت الثورة الشعبية السورية بتعبئة مذهلة, تُقدر على الأقل بـ75% من الشعب السوري, أي 75% من السوريين شاركوا بمظاهرة أو عمل ثوري مرة على الأقل. و لا زلت أؤمن أن الـ25% الباقية كانت لتشارك باكتمال شروط معينة لم تستطع الثورة تحقيقها مع الأسف. نسبة كبيرة مثل 75% تعني أن هناك تحالفات اجتماعية جديدة كانت قد حصلت, و أن عقداً اجتماعياً جديداً كان على وشك التأسيس. و بينما كان الثوار لا ينظرون أبعد من أنفهم, كان النظام مدركاً أن أي فرصة له بالنجاح أمام هذا العدد الهائل تحتاج إلى عمل طويل الأمد: لتكن الخطوة الأولى أن تنزل النسبة 75% إلى 74%, أو حتى أن تبقى 75% بدل أن تزيد, و ذلك مهما كلف الأمر جهداً و وقتاً. الاستراتيجية الأهم كانت بضرب التحالفات تلك و تفتيت الائتلاف الثوري و تشجيع حركات شق الصف و الفئوية و التصنيف. ليُقتل إذن دعاة التعددية و الوطنية و المجتمع المدني الموحد و التحالف الطبقي, و مقابل كل معتقل منهم لـ"يتحرر" و "يُعفى عن" عشرة إسلاميين جهّلٌ بأهمية اللحظة الجامعة التي خرجت بها الثورة. نعم, لتُشق الصفوف, كان أهم و لربما أول شق للصف على أيدي الإسلامي ذو اللحية ذاك, "ليُنزل بعلم الثورة.. و لتُرفع بدلاً عنه مئة راية و راية", تحولت عندها الثورة من أمل بالمستقبل المُشرِق إلى "سبعٍ عجاف نحاف", و تحولت رموزها المجردة إلى رموز مركبة, و أخلاقياتها إلى رذائلها. فئة هنا, فئة هناك, و غدونا ملوك الفئات, ملوك الطوائف, ملوك الأخطاء الفردية. المجرم الأكبر و الخائن الأعظم إذن هو من سولت له نفسه شق الصف الثوري, و رفع راية غير الراية الثورية بل و الارتداد عن أفكارها أيضاً... و مثله مثل النظام, قام بفسخ العقد الاجتماعي الجديد الذي كادت الثورة أن تحققه.
رويداً رويداً, و مع التفسخ و الانحسار, بات للمجتمع السوري اليوم ستة أنواع من السوريين:
الأول, هناك رعيل ثوري أول من أبناء الشارع السوري كان قد قدح ثورة سورية لا لون لها احتراماً لباقي الألوان, فأتى آخرون ليلونوها بما تشتهيه أنفسهم. و كان قد نجى من فلاتر أمنية و مجازر و مآسي على طول سبع سنين, فعلياً كان العالم كله قد حارب هذا التجمع, هو علماني (بمعنى أن لا لوناً دينياً أو طائفياً له, بل وطنياً مدنياً) و معادٍ للنظام بآن واحد, لا النظام يحبه ولا الإسلاميون يحبونه و له تاريخ في مقارعة كليهما, و كل من يتحالف مع أولئك يكرهونه و يريدون تحييده. هذا التجمع إذن كان قد افتُرس عبر الزمن في عالم متوحش, و بات اليوم نادر الوجود و على وشك الانقراض, إلا أن الباقين منه لا يزالون على علاقة وثيقة و تكاتف وجداني قويٍ فيما بينهم, و يملكون روحاً شبابيةً نمت تحت كنف الثورة و لا شيء سوى الثورة.. إنهم أبناء الثورة الفعليين و المُباشرين. بعضهم انكسر و جلس في زاوية مظلمة خائر القوى, لكن من بقي فاعلاً منهم قد شعّ طاقةً كالشمس لا تنضب, و غدى صاحب انتاجية مذهلة جعلته في مراكز أكاديمية و محلية متقدمة.
الثاني, هناك السوري المعارض, القاطن على الأغلب في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام, لكنه في نفس الوقت سوريٌ سئم تكاليف الحياة, و دخول الغرباء, و الفلتان الأمني, و مراهقات الفصائل, و فراغ الجيب, و خِرَقَ المخيمات. هو ليس مؤيدٌ ولا محايد, لكنه ربما في مرحلة تحضيرية لهما. أواصر مجتمعه الذي تغلب عليه طابع القرية قوية لكنها استُنزفت يوماً بعد يوم حد الإرهاق. فإن دخل النظام, لا هو رش الأرز و لا هو حرق نفسه قهراً.
الثالث, هناك السوري الذي تعاطف مع الثورة يوماً من الأيام, و اليوم مغلوباً على أمره انزاح رويداً رويداً تحت قصف البروباغاندا الحكومية—و انحطاط الحالة الثورية—إما ليكون مع النظام, أو لحالة حيادية تميل نحو النظام. يعيش لربما في وهم تكاتف اجتماعي مع من هم حوله و شبهه, لكنه لا يدرك هشاشة مجتمعه الحالي الجديد. يرى نفسه الوريث و المحافظ الشرعي عما تبقى من أطلال المدن السورية, لكن دون أي فعالية في ذلك.
الرابع, هناك السوري في المهجر, أهم مشكلة قد يعانيها هؤلاء هي مع الانتماء لسوريا أساساً, و مع نمو أول جيل خارج سوريا, سرعان ما يتلونون بألوان بلدهم المضيف مطلقاً (أو لا يندمجون أبداً) و بالكاد يدركون ما هي الحالة الوطنية في بلدهم الأم سوريا. و كعادة أي مجتمع مهاجر, فهؤلاء يعانون من مشاكل في التكاتف و الصلة الاجتماعية.
الخامس, هناك السوري المؤيد منذ البداية. و على انحطاطه الأخلاقي, إلا أن مجتمعه متماسك نسبياً.
السادس, و هناك الضفدع, الخائن الخسيس الحقير السافل المستسلم المنهزم الساقط, الذي رفع علم الثورة يوماً ثم سلّم للنظام لاحقاً و عمل لديه. إنه مبدّل الصفوف و المنقلب من الثورة نحو النظام. هذا الكائن التحت إنساني, يستحق العقوبات الأكثر شناعة و بدائية على الإطلاق. و الضفادع يتضمانون مع بعضهم, و لا يوجد لهم من صديق سوى بعضهم البعض.
أمام هذا الواقع الاجتماعي و السياسي علينا مخاطبة كل نوع على حدى, و معرفة أن لكل نوعٍ دوره الوظيفي في المرحلة المقبلة: مرحلة النشاط السري. إن فشل ثورة مثل ثورتنا عادة ما يؤدي إلى تراجع الأطر الثورية نحو النشاط السري, النشاط الذي يجب أن يكون الأداة المُجَهِزَة لثورة مقبلة, على أمل أن يكون هذا النشاط بقيادة الرعيل الثوري الأول القديم و قادراً على التغلغل في المجتمع السوري سواءاً أشعر بذلك السوريون أم لم يشعروا. و من الحكمة تحديد المدى الزمني الذي نحتاجه لتحقيق أهدافنا الثورية, وهذا يتحدد تبعاً لعدة عوامل, أهمها تجدد الجيل عدداً, و تجدد النفوس و السايكولوجيات. هذه الحسبة, و التي لا مكان هنا للخوض بتفاصيلها (لكن باستطاعتك مراجعة المرجع Korotayev et al., 2011) تنتهي بحاجتنا لوضع هدفنا الاسترتيجي بعد 15-20 سنة للقيام بالثورة المقبلة. و يجب أن يبدأ التحضير لهذا الهدف بدءاً من اليوم.
التحضير
=====
هناك تحالفان إثنان مهمان جداً يجب أن يحصلا:
الأول, تحالف بين معارضي الخارج و مجتمع الداخل, و الحرص على عدم وقوع قطيعة شبيهة بالقطيعة بين فلسطينيي الداخل و الخارج, بل جعل الأول استمرارية للثاني. أي التوفيق بين الأنواع الأربعة الأولى من السوريين المذكورة آنفاً, أو على الأقل بين الثالث و الثاني و الرابع. و الحرص على ألا يستميل النظام الشرائح المجتمعية لصالحه. هؤلاء السوريون يحتاجون بعضهم البعض في كلشيء, و لا يمكن ضمان نجاح أي نشاط في سوريا دون تحقيق هذا الأمر.
الثاني, تحالف بين السنّة المعارضين مع أقلية طائفية غير مسلمة, يفضّل تأمين تحالف على الأقل مع السريان المسيحيين (لا مكان في هذا المقال لتفسير سبب اختيار السريان المسيحيين). الطائفة الدرزية أيضاً واحدة من أهم الحلفاء المحتملين. بناء تحالفات استراتيجية مع باقي الطوائف (اجتماعية أساساً و سياسية لاحقاً) يضمن مكاسب ثورية كبيرة, أهمها موازنة المكونات الاجتماعية بشكل وطني في أي ثورة أو حراك تغييري مستقبلي, و التخلص من ورقة الأقليات التي يلعب عليها النظام.
بالعمل على هذه التحالفات, يمكن للمجتمع السوري استعادة عافية ما, و بناء ثقة و تعاضد يحتاجه لأي خطوة تنفيذية يريد القيام بها.
من أجل تحقيق الثقة, تنمو الحاجة لبناء نظام مكافأة و عقاب. المكافأة تأتي لتشجيع سلوك حسن, و العقوبة تأتي لتثبيط سلوك سيء. و مجتمع ضعيف كالسوري اليوم لا يملك الكثير من الأدوات للتطبيق المكافأة و العقاب, لكن تبقى هناك الأدوات الأكثر بدائية على الإطلاق. الدعم و التقارب و الإدماج كمكافأة, و النبذ و التحقير و التهميش و التشهير و ضرب السمعة و المقاطعة كعقاب. بالفعل, إن أشد ما يحتاجه السوريون اليوم هو شعورهم بالثقة بين بعضهم, و هذه لا يمكن تحقيقها إلا إن قصد المجتمع إقصاء المُخبِر و الضفدع و المتسامح مع النظام, و تَقَاربَ مع المتماثل و الثوري و المعارض. إن التعصب للمُثل الثورية و معاقبة مخالفيها ليس عيباً, حتى إن بدى ذلك التعصب مطلقياً. تلك المثل و المبادئ يجب أن تتخفى لغوياً و شفهياً و سلوكياً و تربوياً دون ذكر كلمة "ثورة" بها, فهذا ما سيبقيها حيّة حقاً, أن تنتقل معنىً لا لفظاً.
و من المهم بهذا الصدد الأخذ بعين الاعتبار أن بعد نهاية العمل القتالي و انتهاء الثورة الحالية فعلياً على الأرض, سيحصل أمران:
الأول, سينكفئ المجتمع على نفسه و ينكص لتجمعات قبل وطنية أكثر من ذي قبل, طائفية محلية في التجمعات الحضرية, و قبَلية في التجمعات العشائرية.
الثاني, سيقوم النظام بكل ما يستطيعه لكي يمنع وقوع ثورة ثانية تطيح به. يشمل هذا إفساد الشعب و الجيل الجديد و تغييبه و تخديره و ربما رشوته. و منع نشوء طبقة اجتماعية اقتصادية مشابهة للتي ينتمي إليها الرعيل الثوري الأول. و تشجيع الناس على تصنيف أنفسهم بكلشيء إلا بانتمائهم السياسي.
كلامٌ على ما يملك من سلبيات كثيرة, و معطيات مظلمة, لكنه يملك ما يفيد أيضاً. النكوص إلى حالة مُحافظة و تَوَحُدِية يشمل أيضاً تآصراً قوياً بين الناكصين, فالتجمعات الأهلية المحلية التي سوف تتشكل سيكون هدفها الرئيس تحقيق ثقة عالية بين أفرادها. و هنا تكمن فائدة ما قلته عن الجزاء و العقاب, إذ يمكن استغلال هذا الأمر لصالح الحراك الثوري. إن فعلياً ما نحتاجه هو إدارة هذه التجمعات كي تبقى تجمعات منزوية مضبوطة واثقة من نفسها دون أن تتصارع مع الجماعات الأهلية المجاورة. و إن تشكيل صورة ذهنية للحكومة العدوة و وجود تهديد مشترك و نظام أخلاقي تشريعي واحد (الجزاء و العقاب أعلاه) لكل هذه التجمعات سيعمل لوحده لاحقاً في الوقت المناسب على جمع تلك الجماعات في ((مجتمع)) واحد موجهٍ نحو قضية واحدة. إن الخطوة التي تدل على جاهزية هذه الجماعات للتحول إلى مجتمع وطني واحد هي أن تخطو نحو التقارب مع جماعات مغايرة طائفية (شبيهة بالتوصية المذكورة أعلاه عن التحالف مع السريان و الدروز), و ذلك إن وقع فسيكتمل في القسم الأخير من المدى الزمني المحدد.
إن الفرصة الأساسية للمجتمع السوري اليوم لحماية نفسه من الإفساد و التغييب هو استغلال انتكاصه و انكفائه في بناء جدار أخلاقي منيع: أي مياعةٍ شبابية أم حبة مخدرة أم مضيعة وقت و إهدار طاقة يجب أن تمر من جدار من الفلاتر الأخلاقية تحت طائلة العقوبة. و أي نجاح أو إنجاز أو إنتاج ينسبُه الفرد لجماعته يجب أن يكافأ عليها بمكافأة متناسبة أيضاً. و يجب العمل على إبقاء معيار التصنيف بين الناس هو انتماؤهم السياسي.
و عن الجدار الأخلاقي ذاك, و مُثُله و قوانينه و ماهيته, فله حديث طويل, و لربما يكون لنا به مقال آخر. لكن للآن, لنتفق على ما هو (ليس) عليه. إنه ليس الدين قطعاً, إن العقيدة الدينية لا تكفي للابقاء على معنويات قوية و صمود في المعركة, فالكثير من أصحاب الذقون و الرايات الجهادية الرنانة تحولوا لضفادع حقراء. و أغلب الناس لم تصبر على دولة إسلامية منشودة, بل اختاروا إما الهرب من سوريا أو البقاء تحت سطوة النظام. السوريون بحاجة لمشروع سوري, وطني, ليس إسلامي, ليس عروبي, ليس أجنبي.
هناك حاجة لعقيدة ثورية علمانية تجعل من الثورة عند المحارب و المدني الصابر استثماراً دنيوياً رابحاً على المدى الطويل. و لا شيء يمكن له دعم المجتمع السوري في المرحلة المقبلة إلا أن يتقبل قيمهُ الأخلاقية الأهلية العلمانية و اقتناعه أن مربحه يكمن في ثورة وطنية عارمة.
هل هذا يعني نفي الدين مطلقاً؟ لا, تمثيل الإسلاميين و الشيوخ ضروري و مهم, لكن وجب إقصائهم من الإدارة و التوجيه, فخبرة علماء الدنيا بالدنيا أفضل بكثير من خبرة علماء الآخرة بالدنيا. و ذَنْبُ فشل ثورتنا الحالية يقع بمعظمه على عاتق هؤلاء, فلتكن تجربتنا معهم درساً لنا.
و لنتفق على هدف ثوري معرّف و واضح: هناك مجتمع و هناك سياسة, و الثورة السورية أتت لتغيير السياسة و المحافظة على المجتمع. كان التصور الأول للثورة السورية هو تطوير المجتمع لا تغييره (أي البناء على الرأسمال الاجتماعي و القيم الأهلية الموجودة أصلاً), و تغيير النظام السياسي لا تطويره, فهو ممتنع عن التطور و يجب استئصاله من جذوره. ما انتهت إليه ثورة الـ2011 هو العكس مع الأسف و ضاعت بوصلتها. ليبقَ هذا الهدف دائماً نصب أعين الثورة القادمة. و لتكن تلك الثورة طغياناً على الطغاة, كل الطغاة.
مراجع:
Korotayev, A., Zinkina, J., Kobzeva, S., Bozhevolnov, J., Khaltourina, D., Malkov, A., & Malkov, S. (2011). A trap at the escape from the trap? Demographic-structural factors of political instability in modern Africa and West Asia. Cliodynamics, 2(2).
موقع مدونتي:
https://aminnoorblog.wordpress.com
#أمين_نور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟