|
المعجزة والتاريخ
الشيخ إياد الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 5961 - 2018 / 8 / 12 - 21:38
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في هذا البحث سنسلط الضوء على العلاقة الممكنة والمفترضة بين [ المعجزة والتاريخ ] ، أعني : بين اللامعقول وبين التاريخ [ واللامعقول في المنطق هو الذي لا يمكننا تصوره وإدراكه ] ، إذن فنحن هنا سنعمل وفق نهجنا العلمي و في كيفية جعل اللامعقول مقبولاً ومنطقياً ومتماشياً مع حركة ونظام الطبيعة ، ونقول : هل يحق للتاريخ أن يسجل لنا ما يعتبره حدثاً غير طبيعيا ؟ ، أعني هل اللامعقول ( المعجزة ) هي قضية تاريخية ؟ ، وهل يقبل التاريخ الإعتراف بها ضمن قضاياه ومسائله ؟ . [ ولكن بعض من المتكلمين يرون : - بإن المعجزة في حقيقتها هي - وسيلة إيضاح على نحو ما - وهي كذلك إنما تستهدف شيئاً ما تريد إيصاله أو الوصول إليه ] ، ولو تتبعنا هذا الرأي بدقة لرأيناه قائماً بالفعل على معنى ( نوع الفاعل ونوع التجربة ومحلها ، ولازم ذلك حاجة وضرورة ووجود المقتضي وعدم المانع ) . ولكن ماهي المعجزة ؟ وقبل بيان ماهيتها ، هناك تعريف لغوي بسيط لها ، وهو : [ إنها من فعل عجز بمعنى - تعب ولم يقدر - ، والهاء فيها للمبالغة وجمعها معجزات ، وأسم الفاعل إعجاز الذي هو مصدر للفعل أعجز ، قال الراغب : أعجزت فلان أي جعلته عاجزاً ] . ولم يرد في الكتاب المجيد لفظ المعجزة على هذا النحو ، ولكن ورد الدليل عليها بصيغة - آية أو آيات - ، وبدليل الموافقة نفهم إنها في اللامباشر وردت على نحو قوله تعالى : [ فأتوا بسورة من مثله وأدعوا شهداءكم .. ] – البقرة 23 - ، وهي هنا دعوة لمن حاجج في الله أو في كتابه من غير هدي ، قال فليأتي بمثل هذا الكتاب أو ليأتي بسورة من مثله ، والمضمر في النص هو تحدي المنكر والتدليل على عدم قدرته وإستطاعته [ مع العلم منه تعالى بذلك ، ولكن الكلام موجه فيه على أصل التجربة ومحلها ] ، هذا التحدي القرآني أعطى للأصولي الفرصة و الدافع ليستل من هذا المعنى تعريفاً لمثل هذه الحالة ، فقال : [ إن جعل شيء ما على نحو غير مألوف و في الواقع الموضوعي هو إعجاز بعينه ] ، و كل شيء يكون كذلك فهو معجز وإن لم يتسمى بذلك ، وعندهم [ لا مشاحة في الإصطلاح أو التسمية مادام يؤدي الغرض أو يشير إليه ] ، وأما مفهوم – جعل شيء ما غير مألوفاً - فهو بلغة الأصولي يعني : الحصول على شيء ما في الطبيعة على نحو غير مألوف !! ، وقد خالف في ذلك نفر من أهل الكلام فقالوا : [ محال عقلي أن نجعل من اللامعقول ممكناً وموافقاً لقانون الطبيعة ] ، وتكفل في الرد على ذلك أهل المنطق فقالوا : ليس محالاً عقلياً لأن عبارة - جعل شيء ما خارجاً عن العادة المألوفة - ، هي عبارة فضفاضة صحيح تبدو لأول وهلة ، ولكن عموم اللفظ ودلالة المعنى يسريان على كل موجودات الطبيعة ، إن توفرت الأسباب والعلل التي تجعل منها ممكناً ولا ضير في ذلك في مقامي الثبوت والإثبات . وبالعودة للتعريف الأصولي للمعجزة ، فإننا نرى فيه شيئاً ناقصاً وليس تاماً ، بدليل [ إن الأصولي جعل من المعجزة حركة غير مألوفة ] ، وعبارة - غير مألوفة - هي ما تثير الإفهام ، ولكنها تكون ممكنة إذا قلنا بنسبية معنى - غير مألوف - ، فيكون حصولها في محل ما ولسبب ما ، أي أن حصولها في الواقع يكون بنفس الشروط الموضوعية للقانون الطبيعي ، ولذلك تكون صحيحةً وهذا مذهب بعض الإلهيين . ثم إن تحقق الشيء الغير مألوف لدى الإلهيين لازمه : [ إرادة ومشيئة وإذن ] ، وشرط الإرادة والأذن شرط لازم في حدوث المعجزة في مقام الإثبات ، فيكون حدوث المعجزة واقعاً شرطه اللازم إرادة قاهرة مع حاجة إليها ، ليكون الأذن بها ممكناً على نحو الواقعية ، ذلك لأن مخالفة نظام الطبيعة وناموسها ليس بالأمر اليسير أو الممكن ، لأن المخالفة تؤدي إلى إنهياره وتفككه ، وهذا محال إلاَّ بأذن منه تعالى [ بإعتباره صاحب الأمر والتكوين ] . ولكي نوضح الفكرة نقول : [ إن إرادة الله هي صاحبة الأمر في الفعل ، وهي الفاعلة في الوجود ] ، وبذلك تكون إرادة الله منسجمة مع القانون الطبيعي ولا تناقضه ، وفرضية حدوث شيء ما خارجاً على قواعد القانون الطبيعي لا زمه أن يكون هذا الحدوث جزءا من القانون نفسه لا خروجاً عليه ، ومتلازمة ذلك [ عدم التناقض وعدم التضاد ] ، وفي هذه الحالة تحتفظ الطبيعة بنظامها من دون خلل أو تزاحم يؤدي إلى تفككها ، وفي هذا الإتجاه يجري مفهوم المحو والإثبات لغايات محددة وفي زمن ما ، قال تعالى : [ يمحو الله ما يشاء ويثبت ... ] - الرعد 39 ، ولا يعني مفهوم المحو والإثبات المعنى الدارج في الإزالة والتثبيت ، بل يعني [ إحلال فعل ما لأمر ما متعلق بغاية ما لا تناقض فيها ولا تضاد مع الواقع الموضوعي ] ، وكما المعجزة حدوث غير مألوف في أو ضمن قانون الطبيعة ، كذلك يكون المحو والإثبات حدوث غير مألوف في أو ضمن قانون الطبيعة ، فحدوث أمر ما من أجل غاية ما لا بد أن تكون أعلى و أهم ، قال تعالى : [ وما نرسل بالآيات إلاَّ تخويفا ] - الإسراء 59 - ، في حال نظرنا للآيات بمعنى المعجزات التي يكون حصولها في بعض الأحيان للتخويف والتصديق ، ولنقل : - إن رفع التناقض بين حدوث أمر ما في الطبيعة وبين القانون الطبيعي لا يكون إلاَّ بالقدرة والإرادة والمشيئة الإلهية - قال تعالى : [ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ] - يس 82 - ، فالأمر بالشيء لا يكون من غير قدرة على ذلك وإرادة في فعله ، وفي مسألتنا هذه تستخدم في التنفيذ والإجراء ثلاث صفات قاهرة هي : - [ القدرة والمشيئة والإرادة ] - ، وتحقق هذه الصفات على أمر ما يجعل من حدوثه ممكناً لقوله تعالى : [ إذا أردنا شيئاً .. أن نقول له : كن فيكون ] !!! ، طبعاً مع [ وجود الحاجة والضرورة و المقتضي وعدم المانع ] ، وعندها تكون القابلية على التحقق ممكنة ، وشرط [ المقتضي وعدم المانع ] شرط موضوعي لازم لتحقق الشيء ، وفي هذا تقول الفلسفة الدينية : [ ولا يتحقق الحصول على الشيء الغير مألوف إلاَّ بالحفاظ على ماهية النظام وكماله ، ونفي حالتي التناقض والتضاد فيه ] ، وفي هذا المعنى الفلسفي : تكون ( المعجزة ) عبارة عن شيء يعبر عن مشيئة الله وعقله وإرادتة . * * * ومن أجل إثبات صحة المعجزة ( الآية ) وجعلها بمستوى القضية الصادقة وإنها ليست وهماً أو خديعة كما ظن بعضهم ، نقول : إن المستند في ثبوتها وفي إثباتها هو الممكن العقلي ، إضافة إلى سلسلة نصوص من الكتاب المجيد دالة ومشيرة إليها ، وحدوث المعجزة ( الآية ) لا يتكرر في العادة إلاَّ لمرة واحدة [ يعني إنها ليست حالة مضطردة دائمة الحدوث والتكرار ] ، وهي لا تحصل إلاَّ من أجل إثبات شيء أجل وأكبر [ كما في قضية كلام عيسى النبي في المهد ، وكذا أحيائه للموتى ، وكما في قضية نار إبراهيم التي صارت بردا وسلاماً وغيرها ... ] ، فإحياء الموتى موضوعياً لم يكن بفعل عيسى نفسه بل حدث ذلك بأذن الله ، وعيسى صاحب التجربة أو محب التجربة إنما فعله هو مجرد - وسيلة إيضاح - لقدرة الله أو وسيلة تدليل على قدرة الله ، لكن فعل الإحياء في الظاهر كان بواسطة عيسى أو على يد عيسى النبي ، كان ذلك بعد الأذن .. * * * وللتنويه : [ نقول يمكن تقسيم فعل النبوة إلى قسمين أو إلى مرحلتين : الأولى : هي المرحلة التجريبية ، والتي تحصل المعرفة عليها من خلال التجربة ، وهذا ما قام به معظم الأنبياء من أجل إثبات نبوته للكافة ، أي إن فعل بعض الأنبياء كان يحتاج إلى وسيلة توضيح ومشاهدة عيانية من أجل التسليم والتصديق ولذلك كانت التجربة ، ( والمرحلة التجريبية عاشها العقل النبوي ، لما كان في حالة التطور وعدم الإكتمال ، أعني إن عقل الإنسان بما فيهم الأنبياء كان في حالة تطور نحو الكمال ، وهذه المرحلة أمتدت من عهد نوح حتى النبي محمد ) . الثانية : وهي المرحلة التجريدية ، والتي تحصل بفعل التفكير المجرد القائم على الحدس العقلي والعلمي ، وهذه المرحلة مع نبوة محمد التي أعتمدت في الأصل على الفكر وإعمال العقل والعلم ، وهي موضوعياً أبتدأت مع نهاية المرحلة الأولى ، أعني مع تطور العقل الإنساني وبلوغه الكمال في التطور ، لذلك كان محمداً خاتماً للأنبياء ] . فكانت نبوة الأنبياء السابقين تعتمد على التجربة ، كما حدث مع نوح وعيسى وإبراهيم وموسى وغيرهم ، دلت على ذلك مقالة الحوارين لعيسى : [ هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة .. ] - المائدة 112 - ، هذه الحالة التجريبية لم تحصل مع محمد النبي ، بل كانت آيات القرآن هي ذلك الشيء الذي دُعي الناس جميعاً لتدبرها وفهمها فهماً عقلياً علمياً مجرداً . * * * ونعود لنستوضح العبارة الكلامية القائلة : إن عقله عين إرادته ، ولكن كيف يكون ذلك ؟ ، أي كيف يكون عقله في إثبات أمر ما هو عين إرادته في تحقيق ذلك الأمر ؟ ، قالت المعتزلة في هذا الشأن : لا خصومة عنده بين العقل والإرادة ، وكذا قالت الإمامية : محال أن نتصور أن يكون عقله مخالفاً لإرادته ، يأتي ذلك من كون إرادته تسير وفقاً لكمال طبيعة خلقه . وفي بحثنا عن المعجزة نقول : - الصحيح ما قالت به الفلسفة و بإن الحقيقة والوجود لا يكونان إلاّ بأمر منه - ، يعني إن العقل يُسلم في هذه المسألة في مقامي الثبوت والإثبات ، والذي يترتب على ذلك كون القوانين الطبيعية لا تصدر إلاَّ عن طبيعتة وكماله ، ولهذا فما يحدث من شيء إلاّ وفقاً لذات الطبيعة لا على خلافها ، والحدوث على الخلاف كما هو معلوم ممتنع ضرورة . والتعريف القائل : بإن المعجزة هي عبارة عن حدوث غير مألوف ولكنه واقع بفعل الإرادة والمشيئة إذ بهما توجد وبدونهما تنعدم ، قول صحيح بحدود كون ــ الوجود و العدم ــ منه تعالى فيكون الأمر بالشيء متعلق بعقله وتدبيره وطبيعته ، وهذا هو معنى القول التالي : ليس في الوجود شئ إلاّ وله سبب وعلة معينة ، والعلة والسبب قد يكونان على نحو المباشرية من الله سبحانه وتعالى ، او يكونان على نحو اللامباشرية منه ـ أي من خلال الأثر الطبيعي ـ . وحينما يقول الله تعالى : [ إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ، فأنفخ فيه فيكون طيراً ( بإذن الله ) ، وأبرىُ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى ( بإذن الله ) ، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ] آل عمران 49. أولاً : أستخدم النص لفظ - أخلق - ولم يستخدم لفظ - أجعل - ، ومعناه الإنشاء من العدم [ ليس التحول الدينامكي الداخلي الذي جرى للإنسان حينما تحول من بشريته ] ، ولذلك قرن النص مع فعل - أخلق - مادة الخلق ، التي هي الطين والتي هي المادة الحيوية المستخدمة في خلق كل كائن حي ، طبعاً مع التنويه إلى إن النص لم يقل طيراً بل قال - كهيئة الطير - ، أي إني أخلق شيئاً شبيهاً بالطير أو له هيئة الطير في القدرة على الطيران . وثانياً : إن هذا الفعل أعني - أخلق - لم يكن بفعل عيسى المباشر إنما كان بإذن من الله [ فعيسى في هذه الحالة مُجري التجربة أو مُجري الوسيلة التي توضح للناس كيفية الخلق ] . وثالثاً : إن في هذا القول جدل معرفي واضح بين القوم الذين ينكرون نبوة عيسى وبين الدليل الذي يثبت هذه النبوة ، وإثبات نبوة عيسى جرى تقريرها في عالم الإمكان ، وعالم الإمكان : هو عالم محكوم بقوانين المادة في الزمان والمكان . ورابعاً : إن الجدل جرى تقريره حول مادة ـ أخلق ــ وفعلها ، والتي هي من أفعال الله حصراً ، ولم يستثنى من هذه القاعدة فعل عيسى بدلالة قوله ( بإذن الله ) ، فيكون فعل عيسى هذا مجرد إعتبار ومجاز ليس إلاّ ، هو من جهة ــ الخلق ــ ومتعلقاته وشؤونه أمر ملازم لأصل الخلق الأول ، ولكنه إن حدث من إنسان فإنه يُنسب إليه تجوزاً وإعتباراً . لذلك جاء التأكيد من جهة كون الفعل منه على نحو الحقيقة ومن عيسى على نحو المجاز ، ودليل ذلك التأكيد القائل ـ بإذن الله ــ أي أن شرط تحقق فعل ــ الخلق ـ صدور الأمر الإلهي وتحقيق الإرادة الألهية وبدونهما يمتنع حدوث الخلق قطعاً ، ولكن نسبة الفعل إلى عيسى من جهة الواقع الموضوعي نسبة حقيقية ، إذ الفعل صدر منه على نحو المباشرية ، وصدور الفعل وتعامله معه على وجه الحقيقة جعل المتيقن للناس حدوث الأمر منه ، ولكن عيسى نسب هذا الفعل منه إلى ــ الله وإذنه ــ ، ولولا تلك النسبة لأصبح القول مجرداً إدعاء كاذب وعار عن الصحة ، فالصحة في الفعل إنطباقه على مصاديقه الممكنة ــ بإذن الله ــ . أقول : فعل ــ أخلق ــ مع خطاب الجمع - لكم - ، وهناك فعل ــ أصنع ــ الذي يساوق فعل اخلق ، ولكن فعل أصنع يهتم بالجودة والإتقان ، والمادة في الفعلين واحدة وهي اللازمة لخلق كل كائن حي ، فالصنع متعلق بالهيئة والخلق متعلق بالإيجاد من العدم ، ثم يأتي بعد ذلك فعل ــ فأنفخ فيه ــ ، وهو فعل تجريدي يحتاج لفهمه تدبر وإمعان نظر علمي وعقلي ، قال تعالى : [ ثم سوآه ونفخ فيه من روحه ] - السجدة 9 - . وقال تعالى : [ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ] - الحجر 29 . وقال تعالى : [ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا ] - الأنبياء 91 . وقال تعالى : [ ومريم أبنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا ] - التحريم 12 . والنفخ عندي بمعنى الإذن بالعمل و الحركة ، أي أن النفخ من مستلزمات كون المادة محل التجربة تستطيع الحركة والفعل ، والنفخ من لوازم الإرادة . وفي ذيل النص نلتقي بقوله : [ ... وأُنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ] - آل عمران 49 - ، هذا المقطع من النص ليس له علاقة بموضوعة - المعجزة - التي هي محل البحث ، ففي ذيل النص يظهر إن الكلام عن ( العلم بالغيب ) - والعلم بالغيب ليس هو علم الغيب - ، فعلم الغيب بحسب كل النصوص هو ما أختص به الله وحده ، ولكن العلم بالغيب هو العلم الذي يحصل للنبي بواسطة الوحي ، دل على ذلك قوله تعالى : [ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلاَّ من أرتضى من رسول ] - الجن 26 و 27 - ، وجملة - من أرتضى من رسول - جملة عامة مطلقة و - رسول - فيها مُنكراً دالاً على ذلك أعني شمولها للنبي الرسول وللملاك الرسول ، وفعل – أُنبئكم - فيه إخبار صادق ليس فيه إحتمال الكذب هكذا تقول اللغة العربية في تعريفها ، وكما قلنا إن علم الغيب مما أختص به الله ومن مصاديقه حسب الوصف التالي : [ إن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم مافي الأرحام ، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدري نفس بأي أرض تموت .. ] - لقمان 34 - . . *** وفي الكتاب المجيد يأتي قوله تعالى بلسان إبراهيم : [ ربي أرني كيف تحيي الموتى ؟ ، قال : أولم تؤمن ، قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي ، ( قال : فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ، ثم أجعل على كل جبل منهن جزءاً ، ثم أدعهن يأتينك سعياً .. ] - آل عمران 260 - ، يدخل هذا النص فيما نحن بصدده ، فجدل الإحياء بعد الموت عمل غير مألوف ، والسؤال من إبراهيم يحتمل كونه يريد الجواب لنفسه وربما كان يريده لغيره ، وهو يعيش حالة المحاججة والرفض لفكرة الله وقدرته ، وقيل : إنه من باب إياك أعني وأسمعي يا جاره ، فالسؤال - بأرني - جوابه مضاف بعنوان - ليطمئن - ، والإطمئنان سواء أكان فعلاً أم مصدراً يرتبط - بماهية الشيء - والوصف في الفعل تبيان لما يكون عليه الفعل دون مخالفة للطبيعة ونظامها ، وحسب رأي عامة المفسرين : إن إبراهيم النبي صحيح إنه كان في مقام المستفهم ، ولكنه كان في الوقت نفسه في مقام المجيب لما كان يحيط به من واقع رافض ، والإستفهام عن الإحياء بعد الإماتة ، مرتبط جدلاً بعامل القدرة على الفعل ، في حال المقتضي وعدم المانع من جهة الطبيعة ، ومطلق الفعل إن نظرنا إليه فهو لا يتعدى الأمر النسبي المظنون والذي يجري في صيغة فعل - ليطمئن - ، ولا نظن إنه لم يكن كذلك ولكن ربط الفعل بنفسه ليعطي للسؤال قيمة توافقية يُرضي بها جميع الأطراف ، وهذه عادة شائعة بين أهل اليقين . ثم كانت التجربة على نحو : [ فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ..] ، - وصُر يصر صراً - بمعنى شد يشد شداً ، وهو هنا مصدر صررته من باب قتلته إذا شدّدته ، ( وصرهن إليك ) أي اضممهن إليك ، لماذا ؟ ، لتتعرف على أشكالهن وهيئاتهن ، ولكن لماذا ؟ كيلا لا يلتبس عليك منهن أحد بعد الإحياء ، ثم قال : [ ثم أجعل على كل جبل منهن جزءاً .. ] ، ويواصل النص فعله التجريبي فيقول : - جزَّئهن أجزاء - أي قطعهن قطعاً ، وقرُئ في قراءة - بضم الصَّاد وكسرها وتخفيف الراء - ، يقال : صارَه يَصُورُه ويَصيره ، أماله ، وصار الشئ : قَّطعه ، وقوله : - إليك - متعلق بصرهن على الأول ، ويأخذ على الثاني بإعتبار تضمينه معنى الصمّ .. وكل هذا يجري في مجال التجربة والإستدلال خاصةً مع وجود السؤال ( أرني) ، وجوابه الذي جاء على نحو: ( أدعهن يأتينك سعياً ) ، فالمقطع أجزاء المتباعد في المكان عودته إلى هيئته الأولى ضرب من المستحيل ، مما يوحي للقارئ أن ذلك خرق للقانون الطبيعي ، ولكن الجواب كان في إمكانية ذلك في مقامي الثبوت والإثبات ، وأسم الله المضاف في ذيل النص ، يرتبط هنا بشيئين هما [ الحاجة والضرورة والمقتضي وعدم المانع ، القدرة والإرادة والمشيئة والأذن ] ، وشرط ذلك كله السير وفق القانون الطبيعي وعدم مخالفته ، ومنه يتبين أن معنى قوله : ــ أرني ــ هو من أجل حصول حالة الإطمئنان قال : - لكي يطمئن قلبي ــ ، ونفاذ ذلك في عالم الطبيعة شرطه حصول القدرة والإرادة القاهرة مع الحاجة والمصلحة من ذلك ، لكي لا يكون العمل فردي وعبثي . *** في مفهوم - المعجزة - يجب التركيز على المعنى النسبي لها ، المحدد بالزمان والمكان المعينين ولا يتعداهما لمطلق الزمان والمكان إلاّ في الحال التجريدي العقلي المحض ، كما في الحوارية االتي جرت بين إبراهيم النبي وبين ذاك الذي حاجه في ربه ، كما في سورة البقرة قوله : [ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله المُلك ، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأُميت ، قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فإت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر ... ] - البقرة 258 - ، لنتأمل جملة - في ربه - من النص ، فإننا نرى مفهوم التحدي في القدرة ، فيقول إبراهيم : إن ربي يحيي ويمت - وهذه جملة خبرية ومعناها القدرة على الإحياء بعد الموت [ وهي تكون إنشائية بلحاظ ما يترتب على القدرة من فعل بعد الإرادة والمشيئة ] ، وفي مقابل هذا الإخبار وَرَدَ إخبار آخر من الذي ( آتاه الله الملك) ، [ مع التنبيه إن مفهوم إتيان الملك من قبل الله ، لهذا الشخص يكون لا على نحو مباشر ، بل على نحو وصفي إعتباري من حيث مفهوم مطلق الملك ، فالمالك الحقيقي هو الله ومايكون للمخلوقين فعلى نحو مجازي ، يقودنا ذلك لما تفوه به إبراهيم النبي عن حقيقة الموت والحياة ، وطبعاً جملة - أنا أحيي وأميت - منه جملة وصفية تفيد الجدل والمراء ، ذلك لأن لفظ - أنا - منه مقدر على نحو ما يملك في الظاهر ، على أساس إنه يستطيع هبة الحياة لمن يريد وينزل الموت لمن يريد وهذه مبالغة في التصور الممتنع واقعاً . بدليل إن ماهية الموت والحياة شأنية متعلقة بالله بدليل فعل - بإذن الله - كما يبدو في قوله : [ وما كان لنفس أن تموت إلاَّ بإذن الله كتاباً مؤجلاً ] - آل عمران 145 - . وكما في قوله : [ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ] – الملك 2 - ، وإستخدام فعل - خلق - في مقام الموت والحياة دليل على الأهمية التي يعجز معها الفعل الإنساني مهما بلغ درجات في العلم ، ونفس هذا الفعل في مقام نفي قدرة كل الطواغيت والظلمة الذين يستخدمون فعل الموت بداعي التخويف والإرهاب ، والقاعدة تقول : [ كل نفس ذائقة الموت ، ونبلوكم بالشر والخير فتنة ] - الأنبياء 35 - ، وهذا تعليل وشرح لما تقدم ورد لما ذهب إليه القائل - أنا أحيي وأميت - .. . *** في الجدلية التاريخية التي ذكَّر بها الكتاب المجيد ، هو ذلك التساؤل من قبل العُزير في الكيفية التي تتم بها عملية الإحياء بعد الموت ، فكان الجواب من قبل الله على نحو تجريبي مشاهد أي بصيغة - وسيلة الإيضاح - ، لنقرأ قوله تعالى : [ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، قال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ، فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، قال : أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) ، ولننظر لجملة : - أنى يحيي هذه الله بعد موتها - ، وسؤالها في معنى الإحياء بعد الموت ، فكان الجواب من جنس السؤال ، ومن أجل البيان أحتاج إلى فعل منجز - فأماته الله مائة عام ثم بعثه - ، فالموت لمدة معلومة ثم البعث من جديد ، لازمه ليكون مثبتاً المشاهدة العيانية ، ولكن كيف ؟ قال : - وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً - ، إذن فالسائل أنطلق من مقدمة تقول : بتعذر إمكانية إعادة الحياة لهذه القرية وهي كناية بمعنى ــ أهل القرية ــ سكانهاـــ والتعذر مترتب أثراً على المقدمات العقلية التي أختزلت في القول السابق ، لذلك جاء الإحياء بالطريقة التركيبية وبالكيفية التي رسمها القرآن ، أي الطريقة الأكثر انسجاماً مع واقع الحال بقرينة السؤال وطبيعة الجواب . . إذن فالعرض القرآني تصدى للإجابة عن دور القدرة الإلهية في تشكيل الحياة بعد الموت ، ولأن منطق الفهم الإنساني يقوم على الدليل التجريبي لذلك جرى تطبيقه في ميدان الظاهرة التي دار البحث فيها .. يبقى كيف علم بأنه مات مائة عام ؟ هنا لابد من التذكير بما قاله الطبرسي في المجمع قال : - علم إنه مات مائة عام بشيئين - : الأول : بإختيار من إرادة الآية ( المعجزة ) في نفسه وحماره وطعامه وشرابه وتقطع أوصاله ، ثم إتصال بعضها إلى بعض حتى رجع إلى حالته التي كان عليه في أول مرة . والثاني : إنه علم ذلك بالآثار الدالة على ذلك ، لما رجع إلى وطنه . يقول ابن عربي : - إنه علم بذلك بإخبار من السماء ، كما كان الحوار عن الموت والحياة تم من قبل السماء - ، ويبقى مفهوم الزمن وإثباته على نحو خاص ، فالدال عليه الكتاب كما مر . إذن فالمعجزة أو ( الآية ) صحيح إنها لم ترد لفظاً في الكتاب المجيد ، ولكنها جاءت دلالة فيه بتعبير آية أو آيات ، وكلها دالة على القدرة على الفعل حين يكون لذلك حاجة وضرورة بإضافة المقتضي وعدم المانع ، مع الإرادة والمشيئة فيكون الفعل القاهر المتشيء في الزمان والمكان المعين ، إلاّ في قضية التجريد فهي القضية التي تدور مع العقل والعلم وتطورهما ، والتاريخ قد سجل هذه الظواهر معتبراً حدوثها حقيقة وليس وهماً ، وهي لا تعد من أفعال السحر أو التمويه والخداع ، بل هي فعل حقيقي ثابت ، كما كان ينظر إلى ما قدمه - دارون في نظريته عن التطور - وفي لحظة على أنه معجزة في الزمان والمكان المعينين ، وكذلك كل فعل وعمل لا يكون له مثيل ويصح القول فيه إنه غير مألوف ، يجوز لنا أن نسميه ونطلق عليه بالمعجز والمعجزة ، حسب النوع والكيفية التي مر بها وحدث ... آية الله الشيخ إياد الركابي
#الشيخ_إياد_الركابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السُنة التاريخية و السُنة الطبيعية
-
هل التاريخ يُعيد نفسه ؟
-
ما الفرق بين بكة ومكة
-
قول : ( في نسبية مفهومي الجنة والنار )
-
خرافة عالم البرزخ
-
- الخلل المفاهيمي في لغة النص : - القلب ، الفؤاد ، العقل ..
...
-
في معنى قوله تعالى : [ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ولكن
...
-
إشكالية الحكم في الإسلام
-
تحرير العقل المسلم
-
الإسلام والتشيع جدل اللفظ والمعنى
-
السنٌة والشيعة ... إشكالية المفهوم والدلالة
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|