أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمر المحمود - عبوس















المزيد.....

عبوس


سمر المحمود

الحوار المتمدن-العدد: 5959 - 2018 / 8 / 10 - 17:12
المحور: الادب والفن
    





هل يعقل أن يكون عبوسي سببا لإدخالي مشفى المجانين؟ يحدث أبو عرب نفسه بقلق ملقيا بثقل رأسه على يده المطوية ليبدو كتمثال شمعي متجمد بكتلة جسمية متضائلة، بينما يجول ببصره في أنحاء الكامب متبينا حركة المقيمين معه، الذين يتحاشون الاحتكاك به لتكدره الدائم الذي قد يلوح كشتيمة حين يجيب على السلام الملقى عليه، وجل ما يستغربوه مقدرة عضلات وجهه في الحفاظ على وضعية التجهم طُوال الوقت
- لم نشاهد أسنانه منذ عرفناه .. هكذا أجاب أحد المقيمين الموظف الاجتماعي بعدما لفتت نظره سوداوية وعصبية أبو عرب، الذي أعلن باكفهرار واضح رفضه الإجابة عن التدخل في خصوصيات نفسيته قائلا بجفاء وبنبرة حادة: هكذا خلقني لله، نفسيتي ليست من شأنك
ليفاجأ بعد يومين بإحالته للطبيب النفسي مع تهديد في أسفل الدعوة بالحجر في حال تخلفه، فينكمش على كرسيه مصدوما والأفكار تتصارع في رأسه مع إحساس بإهانة جارحة لم يشعر بها رغم كل الذل الذي تعرض له منذ ستة أشهر حين شرع يشق طريق اللجوء عبر البحر حتى وصوله إلى هذا البلد الذي ظنه سيحقق له حياة آمنة يمارس فيها عبوسه بكل حرية
بشعور هائل من الحزن، فراغ كئيب في روحه، تصفر فيه ذكريات بيضاء بياض الياسمينة التي كانت تقطن في داره قبل أن تغتالها قذيفة حرب مهشمة عطرها مع والدته العجوز المسكينة التي كانت ترتشف القهوة بجوار نافورة الماء التي تناثرت والمنزل أشلاء، شِلو تراب، شِلو حجر، شلو لحم مشوي، شِلو لحم مخَّضبٍ بالدم
ورأس تلك العجوز بعينيها المحملقة في هجرتها للبعيد، كأنما تحثه على الفرار
وها قد رحلت ..يصرخ بلا صوت وقد دفن رأسه بين أصابعه شادا شعره : أنظري يا أماه سيلبسونني الثوب الأبيض ليضعوني في مشفى المجانين ثم يتمتم بكلام غير مفهوم مطرقا النظر بوجوم في كرسيه
ليتجرأ أحد المقيمين الذي لاحظ الغبن والهم البادي عليه، بالدنو منه،
يربت على كتفه بروية وتعاطف، ثم يهمس في أذنه: لا داعي للخوف يا صديقي إنه روتين عادي كما أنه ليس بطبيب مجانين .. ويحمم قليلا ليبدو أنه يجهد بإيجاد كلمات مواسية بينما أبو عرب يتطلع إليه باندهاش حيث يردف ببشاشة من التقط الفكرة: أنه طبيب للنفسيات المتعبة وكل الناس هنا تذهب إليه .. أين المشكلة؟
- و من قال أن نفسيتي متعبة ؟! .. موليا وجهه شطر الحائط بارتياب ملطخ السمعة المهان، قاذفا الشتائم .. ليردف بصوت مكتوم .. لدي عقل يوزع على نصف هذا البلد اللعين
حسنا رغم يقينه أنه سيمتثل مرغما للدعوة آخذا التهديد على محمل الجد، لكن لا أحد سيستطيع إقناعه. كل ما في الأمر أن شكل وجهه عبوس ومكشر .. هو الخمسيني العازب الذي كان يعيش مع والدته العجوز في حي شعبي فقير يقضي كل يومه كعامل بناء، لم يتعاط إلا مع الحجر فهل يحتاج الحجر للكثير من الابتسام؟ أجل يا بني الابتسامة مفتاح الحياة هكذا كانت تردد العجوز على مسمعه حين تغمره بدعائها كل صباح قبل اتجاهه للعمل بوجهه الأسمر المتصلب وعينيه الشاحبتين يعتليهما حاجبان عنيدان متحابان على جبينه الذي حفرت فيه التجاعيد سيولا ناعمة يرتاح فيها عرق النهار.
مع الترجمان المحلف، بجسده المتكور ورأسه المفلطح ذو الملامح البشوشة، يدخل أبو عرب عيادة الطبيب النفسي، التي تعطي انطباعا مريحا للنفس بديكورها البسيط، إضاءتها الخفيفة وأثاثها المرتب بسيط، وبصوته الذي بدى آتيا من أسطوانة مغلقة يقدمه للطبيب الذي بادره بابتسامة هادئة متزنة برضى مثير للتساؤل؟ لم يراه يوما إلا في التلفاز على وجوه أولئك الذين كانوا يلقون خطبة ما أو يقصون شريط تدشين وكذلك مالك العمارات الذي كان يعمل في ورشة لديه وعلى الوجه الطيب لوالدته العجوز
- أهلا وسهلا مستر حامد
- لم ينادني أحد حامد منذ كنت صغيرا
- ماذا تحب أن أناديك؟
- أبو عرب الزفت (هكذا ترجمها المحلف حرفيا)
- حسنا الزفت أبو عرب كما تريد .. يقول الطبيب بسذاجة غير عارف بوقعها كشتيمة في لغتهم العربية
- أنت الزفت وعائلتك الزفت .. وأنت ملوحا بغضب وطيش إلى المترجم الخبيث الذي كأنما تقصد إحراجه بترجمته الحرفية متواطئا مع حالته للإيقاع به وتأكيد مرض المجنون الذي يودي به للمشفى
وينهض مشيحا بظهره للخارج مع صفقة قوية للباب وسط اندهاش الطبيب الذي لم يفهم غضبه وتصرفه على هذا النحو، وشرع يكيل السباب والشتائم على الدرج وطُوال الطريق وفي الكامب الذي عاد إليه حاسما أمره بأنه سيعود لبلده ليحدث نفسه بصوت مسموع ربما ليسترعي انتباه أحد ما
- لم أعد أطيق البقاء هنا .. سآخذ جواز سفري وأعود إلى بلدي المنكوب وبيتي المهدم
ينقضي وقت ليس بالقصير، قبل أن يسترد رباطة جأشاه والجميع من حوله يتابع عمله دونما اكتراث ( فهو لا يحب أن يتدخل أحد في خصوصياته )
ليقول بصوت أقوى مغتاظا أن أحدا لم يلتفت إليه: سأعود غدا أريد جواز سفري بلهجة بالغة الاستياء أثارت شفقة أحد الشبان الذي أقترب منه محدثا إياه وقد لاح له بهيئة مثقف بنظارته السميكة ورؤيته يطالع الكتب باستمرار:
- ممنوع يا أخي مدينتك مصنفة من أخطر المدن في العالم وقد اعتبروا أنفسهم منذ لجوئك إليهم مسؤولين عن سلامتك لذلك لن تستطيع العودة
يتطلع إليه أبو عرب محملقا في دهشة، رادفا مع محاولة تبديد خوفه: نعم نعم لذلك يجب أن تعاود الذهاب للطبيب وعن طيب خاطر حتى لا تسيء إلى نفسك، قد يضعوك في مشفى المجانين شهورا وربما سنوات
- يا إلهي ما هذه الورطة بينما يضرب كفا بكف، وقد اشتد جزعه حتى بدى أنه أعلن استسلامه
ليالي مؤرقة تمر وأبو عرب ينتظر حتى ينام الجميع ليخرج المرآة المزركشة التي احتفظ بها من ذكرى والدته يضعها أمام وجهه ويقوم ببعض حركات التكشير، يمط شفتيه محاولا الابتسام لثوانٍ تشعره بالملل ليفكر بصعوبة الأمر فينتابه إحساس باليأس لا يثنيه عن تكرار المحاولة مرات عديدة كتمرين شاق ، حتى يهاجمه النعاس، ويكاد يستسلم للنوم وإذا بالمجانين بثيابهم البيضاء ، بعيونهم الحولاء وشعرهم المشعث ، يلاحقونه كأشباح فينتفض مذعورا لحظات، بعدها يغرق في النوم وقد انبلج الفجر

أول ما لمح أبو عرب المترجم في العيادة كبح غيظه الشديد، وجلس على الكرسي يرقب انتهاء الطبيب الوسيم من تفحص بعض الأوراق على مكتبه، ينعم النظر في المكتبة الأنيقة، صور تجثم بإطاراتها يمر عليها سريعا، شمعدان، محبرة، أقلام، لتستوقفه تماثيل حجرية مصطفة حسب حجمها، ولكنها باسمة؟ حدث نفسه متعجبا
قبل أن يبادره الطبيب قاطعا شروده
- أهلا أبو عرب .. هذا إجراء روتيني لا داعي للاضطراب كل الناس القادمة من مناطق الحرب تأتي إلى هنا .. بابتسامة مطمئنة محاولا تخفيف توتره الذي تجلى في ارتباكه بحركة يديه وعينيه
- أعتذر عما حدث المرة الماضية تمتم بصوت خفيض كمهزوم بينما أطرق رأسه الأرض
- حسنا خذ هذه الحبة من الدواء
- ما هذه الحبة ؟؟ بصوت متهدج خائف متفحصا بجزع الكتلة البيضاء الصغيرة
- أنها حبة مهدئ لا تقلق فأنا أضطر لتناولها في بعض الأحيان .. الحياة جميلة بينما نهض ليطبطب على كتف أبي عرب الذي تبدد خوفه رويدا وشرع بتناول الحبة مع رشفة ماء بصوت مزعج جعل الطبيب يرقب حركة حلقه بينما السائل ينساب فيه، ثم يصدر فحيحا ويمسح شفته المبللة بكم قميصه قائلا بجفاء: لم أجد فيها شيئا جميلا
- حسنا الآن أريدك أن تسترخي على الأريكة
- شكرا دكتور لا أشعر بالنعاس
- لا لا أطلب منك النوم إنها فقط لترتاح أعصابك وتسترخي لنتحدث بأريحية
ينصاع أبو عرب بحنق بينما يرقب الطبيب يشغل جهازا ما يبدو كمسجل صوت قائلا: أنت سليم ومعافى هذا شيء جميل وإيجابي أليس كذلك؟
- نعم نعم الحمد الله كان جارنا معاقا ووو .. وكان على استعداد ليسترسل في الحديث طويلا
- ممتاز .. لكن لم نظرتك سلبية للحياة؟
- حياتي شقية يا دكتور فوالدي بغل عمل، زجني فيه منذ طفولتي (ترجمها المحلف حرفيا)
هنا يندهش الطبيب متسائلا: والدك بغل؟ ماذا يعني بغل؟
ينتفض أبو عرب شاتما المترجم محاولا استدراك الموقف محدثا الطبيب بلهفة وبلغة مختلطة: ذ مترجم إذا سو دونكي .. ثم يزفر بحسرة وغيظ: أريد مترجما من منطقتي حتى يفهم أمثالنا المحلية دون لبس
ليتدخل الأخير وقد بسط شفتيه في ابتسامة دون أن يكشف عن أسنانه قائلا: يا أخي لم نفهم أنا والطبيب ما مقصدك من كلمة بغل
- يعني قاسي، قاسي يرددها أبو عرب محملقا في وجهه بغضب ثم مفسرا أنه لا يقصد البغل بمعنى الحيوان
يستطرد الطبيب قائلا: حسنا، حسنا يا أبا عرب بماذا يوحي لك الورد؟
- المربى
فيضحك الجميع وبارتفاع صخبهم، تتدخل الممرضة مستفسرة فيتم صرفها مطمئنة أن كل شيء يجري على ما يرام
يطبطب الطبيب بأساريره المبتهجة على كتف أبي عرب قائلا: أنت إنسان رائع لأول مرة أسمع هذه النكتة
لكنَّ أبا عرب الذي دب الحماس في رأسه وقد أخد مفعول الحبة يسري في جسده، وربما هي المرة الأولى التي يتبسم فيها يقول موضحا للطبيب:
- ليست نكتة يا دكتور .. في بلادنا نصنع المربى من الورد، الورد الذي تراه في الشارع والحدائق وحديقة بيتنا الذي كانت تهتم فيه والدتي بزراعة الجوري وووو
لكن الطبيب المشغول يضطر لمقاطعة استرساله قائلا:
- حسنا لقد اكتفينا اليوم سوف اعطيك حبة تتناولها كل يوم وسنحدد موعدا الأسبوع القادم

كان الانشراح واضحا على أبي عرب عند عودته للكامب، حتى أن كل المقيمين معه انصعقوا برؤيته يحسر كميه عن ذراعيه ليساعد طفلة انزلقت بالوحل في الخارج، وقد طفق ضاحكا مداعبا إياها، لم يفهم أحد منهم سروره المفاجئ، أبو عرب الذي يدرك أن حياته ليست ممتعة ولن تكون لكن ارتياحه من الهواجس التي سيطرت عليه حين تم تبليغه مع تحذير الحجر كأنما اعطته فرصة أخرى للعيش بطبيعية، حتى لو بتجهم، بعبوس أي كان
لكن لن يوسم بالمجنون ولو اضطره الأمر لتناول حبتين من المهدىء في اليوم
يدس أبو عرب يده في جيبه منتزعا علبة الدواء متلفتا يمينا ويسارا كلص، وكجوهرة نادرة يحشرها خفية في درج صغير بجوار سريره، يخرج المرآة ينعم النظر في وجهه باديا عليه الاستغراب، محدثا نفسه عن السحر الذي أحدثته بروحه، يقطب محياه لكن بجدية هذه المرة ينادي على الشباب بثقة الغازي المظفر مقررا أنه سيحكي لهم نكتة جميلة



#سمر_المحمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أصغر من سؤال
- هناك دائما طفل ..هناك
- لاجئين
- مرة واحدة
- طبخة موروثة
- الريح العازبة
- رتابة مألوفة
- شرٌّ تبرَّج بمحبَّة إله
- خلفاء التاريخ
- بوصلة
- أرضنا وسماؤنا
- مُرَاهَقة
- نضج
- زيارة منتصف الليل
- صدق المنجمون ولو كذبوا
- عندما سقطت تنورة المعلمة
- شأن عادي
- نصف حلم
- جرائد الطريق
- عُطَاس


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمر المحمود - عبوس