أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رشيد الطاهري - وجبة سريعة














المزيد.....

وجبة سريعة


رشيد الطاهري

الحوار المتمدن-العدد: 5956 - 2018 / 8 / 7 - 14:35
المحور: الادب والفن
    


ليل الفيلاج يختلف كثيرا عن نهاره، يختفي المارة رويدا رويدا تماما كما يزحف البرد ليحتل الأزقة العارية.
ألوذ بجوعي إلى مقهى عتيق، يديره رجل يتقن الصمت كإتقانه للطبخ تماما، ولجت إلى المكان وشيء من الحنين يشدني إليه، إني لأستشعر بداخله دفئا وسلاما ينعدم في غيره من الأماكن الرخامية مهما علا شأنها، هنا ينبعث عبق يتعالى على الوصف، هنا ملجأ من لا ملجأ له، يجتمع فيه البؤساء من كل الأصناف يجرون جلابيبهم الرثة حاملين معهم ملامحهم التي تكالب عليها التوتر ونوائب الدهر.
في ركن قصي جهة اليمين تقبع حصيرة حصباء بالية تغطي أرضية إسمنتية باردة، فوقها جثة خلدت للنوم، التفت في غطاء مزركش عتيق و انكمشت على نفسها متخذة وضعية الجنين، فكرت : قد يكون عابر سبيل، أو شخصا آخر، من يدري ما قصته؟!
في الركن المقابل طاولات وكراسي مبعثرة، تطفلت على أحسنهن حالا وألقيت عليها وعلى كرسي بلاستيكي ثقل جسدي الواهن، باغتتني طفلة لولا القرطين المذهبين في أذنيها لحسبتها طفلا لقصة شعرها وخشونة ملامحها، ترتدي قميصا خفيفا وسروالا لا يكاد يستر عورتها، تبدو في صحة جيدة رغم ما تقاسيه من ويلات التشرد، مدت يدها تتوسل عطفي " عطيني درهم"، تعلمت فن الإستجداء جيدا، فغدت تتقن حركة مد اليد وكسر العين والكتف ككل المتسولين، تأملتها جيدا في صمت، أعادت نفس الكلام لمرات مع زيادة شيء من السرعة والإلحاح، انتبه إلينا صاحب المقهى، سخر من الموقف قائلا " شداتك الديوانة"، نظرت إليه صامتا...
حدق فينا لحظة، هم بقول شيء ما، أحجم عن ذلك ثم انغمس في إعداد ما جئت لأجله، عادت صديقتي تساومني، قلت لها لا أملك درهما،مازحتها قليلا ، آستأنست بلطفي فصارت أكثر حافزية وإلحاحا، في البداية كانت محترسة وحذرة، يبدو أنها قد ألفت النهر والطرد، جل البؤساء والبدو يحترفون الفضاضة، قلوبهم قاسية و يعتبرون اللطف جبنا وضعفا، هكذا أظن، لازمتني لمدة حتى صار صرفها دون نهر عسيرا، بحثث في جيوبي عن بعض الفكة، لم أجد شيئا، وعدتها بدرهم إن هي انصرفت عني، لا أدري ماالذي جعلها تصدق وعدي، تحركت بعيدا عني، أخذت هاتفي بين يداي، إنغمست في الكون الإفتراضي، الفيسبوك عالم آخر، لا حديث فيه إلا عن المقاطعة، والمقاطعة أنواع...
دخلت أم الصبية فجأة، تحمل في يدها قفة بلاستيكية فارغة، تساوم صاحب المحل على مكان لقضاء الليلة في مقهاه، أسلوبها فض ونبرة صوتها شبيهة بنبرة الرجال، لا أنوثة فيها، ملابسها رثة وبالية تجر صندالا بلاستيكيا رديئا، تبدو في الثلاثينات من عمرها، تنعم بصحة جيدة، ربما كانت هذه الصبية المجهولة الأب ضريبة عليها، سمعتها تشكي بخل رجال الفيلاج لصاحب المقهى، تجاذبا معا أطراف الحديث لفترة، لم أفهم كثيرا مما قالوا، كان الكلام مشفرا ومحيلا على أشياء أجهلها...
حانت اللحظة التي انتظرتها، صار الأكل جاهزا، انغمست فيه وانشغلت به عمن سواه، عادت الصغيرة إلي، تود أن أقاسمها طعامي، نهرها صاحب المحل، ربما خيل إليه أنها تزعجني، تجاهلته و منحتها قسما من طعامي، فرحت به وابتعدت، صادفت قطا، متسولا كان هو الآخر، توقفت عن المضغ أرقب لقاء المتسولين، ما أغرب هذه الحياة!!!
انحنت له وأخذت تطعمه القليل من اللحم الذي قدمت لها، أثر ذلك في نفسي، إنها نبيلة النفس معطاءة رغم ظروفها القاسية، كل هذه الويلات وكل هذا الحظ السيء!!!! لكن مع ذلك لازالت طيبة الروح ترحم وتحن، ما أعقد الظاهرة الإنسانية وما أعسرها على الفهم، دخلت في مسلسل تأملات وغرقت في أفكاري....
أنهيت طعامي ودفعت ما كان على ذمتي، وفيت بوعدي للصغيرة ودعتها وكلي أسف على حالها، تمنيت لها حظا موفقا في مواجهة مصيرها المحتوم في بيئة ومجتمع بدائي متخلف يأكل فيه القوي الضعيف، انصرفت في حال سبيلي ومشهد إطعامها للقط لا يراوح بالي...
إنه القليل مما يستره ليل الفيلاج من مواجع...



#رشيد_الطاهري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المدرس المغربي: مثقف حقيقي أم بائع معرفة مبتورة.


المزيد.....




- توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف ...
- كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟ ...
- شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي ...
- رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس ...
- أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما ...
- فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن ...
- بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل ...
- “حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال ...
- جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
- التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!


المزيد.....

- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رشيد الطاهري - وجبة سريعة