محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 5955 - 2018 / 8 / 6 - 08:48
المحور:
القضية الفلسطينية
يظهر الصراع المتواصل في فلسطين كمشهد متكرر من مشاهد الاعتداء الاستعماري النموذجي بطبيعته ,اليومي باستمراريته , و الفج في علاقته بالمعيش اليومي للفلسطينيين , غير أن الأمر لا يقف هنا , فالصراع ينفتح على آفاق عميقة الجذور و تاريخ متشابك يبدو كأنه غير قابل للفصل بين ما هو ديني و ما هو قومي و ما هو سياسي . إن انتفاخ الطبقة السياسية الحاكمة في تل أبيب بأفكار ترى في انتقاد إسرائيل انتقادا لليهود أنفسهم و معاداة للسامية, لأن إسرائيل -في نظرهم-هي "الشعب اليهودي" و سياساتها سياسات "يهودية" وكذلك منجزاتها [و بالتالي جرائمها أيضا يجب أن توصف بأنها جرائم "يهودية"] , بل أن اعتبار أن إسرائيل تمثل جميع هذه الادعاءات إسرائيل باسم جميع اليهود فهذا يعتبر أحد أكثر المزاعم المعادية للسامية على الإطلاق , ليس هذا فحسب بل أن هذه الطبقة الحاكمة تضع "مواطنيها "على فوهة المدفع بتشريعها لقانون القومية ,وهي بذلك تعلن دون مواربة عن حقيقة المشروع الصهيوني وهي حين تروج لدعاية صاخبة -غير دقيقة في معظمها – عن معاداة السامية و رفعه لمستوى مشروع قرار دولي بدعم من الغرب إما تصر فيه -ومعها الغرب- على أنه لكي يكون هناك سلام في الشرق الأوسط ، يجب أن يصبح الفلسطينيون والعرب والمسلمون ، مثل الغرب ،أي يتبنوا قانون القومية و يتحولوا إلى "معادين للسامية" من خلال تبني الرؤية الصهيونية للمنطقة و مستقبلها والاعتراف بمطالب إسرائيل "المعادية للسامية".و لا يخفى على أحد أن الفلسطينيون واجهوا أكثر من غيرهم مثل هذا التحريض المعادي للسامية ,وهم ومن معهم من الأحرار العرب و القليل من اليهود المناهضين للصهيونية يرفضون هذه الإدعاءات الإسرائيلية لقانون القومية و يرون في التواجد الاستعماري الصهيوني في فلسطين جريمة تتحمل مسؤوليتها إسرائيل كمؤسسة استعمارية و أن جرائمها ضد الفلسطينيين هي جرائمها "هي" و ليس جرائم "اليهود" , ولهذا لا يكل الفلسطيني من انتقاد إسرائيل و إدانة سلوكها ومحاكمة قادتها بسبب جرائم الحرب المستمرة , وهذا ليس موقفا تسجيليا و لا هو دعاية مجانية , ولا هو حرث بلا طائل , بل هو تتويج و تجيد لنضال عمره قرن تقريبا ومازال مستمرا حين يؤكدون أنهم في مقاومتهم لإسرائيل و تجلياتها الاستعمارية الصهيونية إنما يمثلون ورثة نضال يهود ما قبل الحرب العالمية الثانية باعتبارهم "آخر الساميين" , كما وصفهم جوزيف مسعد الباحث في جامعة كولومبيا الأمريكية و أحد أهم منتقدي الصهيونية و إسرائيل و اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة جوزيف مسعد قبل عدة سنوات و بمناسبة الذكرى الخامسة و الستين للنكبة الفلسطينية في مقال له نشر على موقع "الجزيرة إنكليزي" بعنوان (The last of the Semites)-"آخر الساميين"* , في الذكرى الخامسة و الستين للنكبة الفلسطينية , ما لبث الموقع أن قام بحجب المقال , ويقال أن السبب يعود لضغوطات سياسية و إملاءات تعرضت لها المحطة من جهات صهيونية و أمريكية, لم يطل الأمر حتى عاد الموقع بإعادة المقال بعد تعرضه لانتقادات شديدة من طيف واسع من القراء و المهتمين واتهامها بالخضوع للرقابة المؤيدة لإسرائيل بطريقة ما . وقد تم التنويه لمدير الموقع عماد موسى في نافذة "مدونة المحرر" **نفى فيه أن يكون حجب المقال يعود لـ"ضغوط سياسية" من أي نوع أو حتى لـ"رقابة معينة". ولاقى إعادة نشر المقال ترحيبا من الكاتب نفسه.و ما يفيدنا موضوعنا هنا من مقال جوزيف مسعد -على أهميته ككل-هو التشديد على تأصيل الفكرة التي ترى في الصهيونية حركة "معادية للسامية" من حيث الجوهر و التدليل على ذلك عبر قيامها بتحالفات مشبوهة مع أنظمة "أوروبية تشترك معها بمعاداتها للسامية .يرى مسعد أن يهود أوروبا المعارضين للصهيونية أدركوا اشتراك هذه الأخيرة ,منذ نشأتها, في الخطوط العامة لمعاداة السامية حين تحاول تشخيص ما يعرف باسم " المسألة اليهودية" [وهو مصطلح من اختراع الأوروبيين غير اليهود على كل حال].بيد أن ما اثار غضب اليهود المناوئين للصهيونية هو المساهمة التي قدمتها هذه الحركة في "حل" المسألة اليهودية وفقا للمقاربة التي طالما دافع عنها المعادون للسامية ، أي طرد اليهود من أوروبا.
يظهر الاستعراض العميق لتاريخ الوجود اليهودي في أوروبا الدور الجوهري الذي لعبه في ظهور إسرائيل نظريا و عمليا على حد سواء ,وهذا ما يجعل من شرعية إسرائيل و الصهيونية أمر مفروغ منه وغير قابل للنقاش رغم أن وجود إسرائيل بحد ذاته يمثل من ناحية تذكيرا مستمرا للماضي الاستعماري الأوروبي , ومن ناحية أخرى مثالا سيئا على مجمل الفكر القومي الأوروبي الذي اجتاح العالم منذ نهاية القرن التاسع عشر , وكما يقول إيريك هوبسباوم "تربط إسرائيل أوروبا بماضيها و تعوقها عن تخيل مستقبلها العالمي. وواقع الحال يشير إلى أن ما حدث من مجازر في الحرب العالمية الثانية لم تقض على أغلب اليهود , فحسب ، بل في قتلت في سياق هذه العملية أيضا أغلبية اليهود المناهضين للسامية بما في ذلك الصهيونية الذين ماتوا على وجه التحديد لأنهم رفضوا الاستجابة للدعوة الصهيونية بالتخلي عن بلادهم ومنازلهم, ومن بقي من الأحياء منهم منعوا من الدخول إلى الدول الأوروبية و الولايات المتحدة , هذه الدول التي صوتت لاحقا لصالح مشروع قرار تقسيم فلسطين في العام 1947 هي ذاتها التي صوتت ضد القرار الذي قدمته الدول العربية في نفس العام يدعو فيه إلى الاهتمام بشأن اليهود الناجين من الحرب , وهذا ما يفسر توجه اليهود نحو جهة واحدة ووحيدة ...فلسطين .
ظهرت منذ منتصف القرن التاسع عشر و بإلهام من حركة الإصلاح البروتستانتي التي عملت على إحياء الكتاب المقدس العبري أصوات تدعو إلى الربط "القومي" ليهود أوروبا المعاصرين بفلسطين فتمت صياغة القالب القومي لكتابة التاريخ اليهودي على يد المؤرخ اليهودي هاينريش غريتز الذي كان كتابه "تاريخ اليهود من أقدم العصور حتى الوقت الحاضر" أول محاولة لإنتاج مروية تاريخية كبيرة عن "الشعب اليهودي" ليس بوصفهم جماعة دينية فحسب ، بل بوصفهم ,ولو جزئيا على الأقل, أمة حديثة . و تم تأويل الكتاب المقدس باعتباره مصدر تاريخي موثوق و العودة إلى جهود علماء اللغة في القرن الثامن عشر و حديثهم عن عائلة اللغات "السامية " و التي تتضمن العبرية و العربية ساهم هذا الربط و تلك الجهود في اعتبار اليهود المعاصرين أحفادا للعبرانيين القدماء و وفقا للتصورات الألفية البروتستانتية على هؤلاء اليهود الذهاب إلى فلسطين للتعجيل بمجيء المسيح و قيام مملكة الرب ,ومنذ ذلك الحين تم اعتبار اليهود المعاصرين "ساميين" وسوف نلاحظ ظهور العديد من "الاكتشافات" البيولوجية و "القفزات" المتنوعة في العلوم البيولوجية و نظريات العرق و الوراثة التي ستجعل من اليهود الأوروبيين جماعة تنحدر مباشرة من العبرانيين القدماء على حد قول جوزيف مسعد. و برغم جهود العديد من الباحثين مثل يوليوس فلهاوزن في تقويض مثل هذه الافكار التي تصف اليهود كأمة ذات ماض بطولي , إلا أن الموقف العام في أوروبا كان يتهيأ لقبول فكرة "عودة" اليهود إلى فلسطين , لاسيما بين الاوساط السياسية العلمانية كما يسميهم مسعد من نابليون بونابرت إلى وزير الخارجية البريطاني اللورد بالمرستون (1785-1865) إلى أرنست لاهاراني ، السكرتير الخاص لنابليون الثالث في ستينيات القرن التاسع عشر سعوا جميعهم للتخلص من يهود أوروبا و جمعهم في فلسطين كعملاء للإمبريالية الأوروبية في آسيا, و ستلقى هذه الفكرة صدى لها عند العديد ممن يعتبرون "معادين للسامية" وهي الصفة أو الدلالة الجديدة التي اختارها العنصريون الأوروبيون المعادون لليهود بعد اختراعها في العام 1879 على يد صحفي مغمور من فيينا يدعى فليهلم مار ، الذي أصدر كتيبا سياسيا بعنوان "انتصار اليهودية على الجرمانية" حرص فيه على فصل معاداة السامية عن كراهية المسيحيين الدينية- التاريخية لليهود وهو يرى -بحسب جوزيف مسعد-أن التمييز بين اليهود و الآريين كان عنصريا بامتياز وفقا للفلسفة السامية والنظريات العرقية في القرن التاسع عشر.
تينى العديد من الرواد الصهاينة مثل موسى هس و سيمون دوبناو و غيرهم هذه الأفكار من خلال مقاربة صهيونية خاصة تميل للعلمانية و ترفض الإيمان الأرثوذكسي اليهودي من جهة , ومن جهة أخرى تستخدم الدين باعتباره "ثقافة قومية" توحد يهود العالم , ويرى شلومو ساند في كتابه "اختراع الشعب اليهودي " أن العديد منهم قاموا بتأويل القصص الكتابية على أنها توصيف لأحداث و عمليات تاريخية على الرغم من أن العديد منهم فعلوا ذلك مجازا وبشكل رمزي.
يتابع جوزيف مسعد القول بأن بعض الأفكار التي حملتها معاداة السامية كانت في جوهرها من طبيعة عنصرية و منحازة لجهة الاستغلال السياسي للتاريخ و تصر على اختلاف اليهود عن الأوربيين المسيحيين , فواقع الحال يشير إلى أن اليهود لم يكونوا أوروبيين على الإطلاق وأن وجودهم في أوروبا هو ما يسبب معاداة السامية ,و أن مظلوميتهم التاريخية في افتقارهم لبلد ينتمون له و يتأسس عليه ولائهم كان السبب في العديد من المشاكل التي خلقوها للمسيحيين , ومع الانتشار القوي للأفكار القومية في فرنسا و ألمانيا على وجه الخصوص تم النظر إلى اليهود على أنهم تشكيل كاذب ضمن الجسم الاوروبي لا يتناسب مع التكوينات القومية الآخذة في التشكل , وأن وجودهم سيمزق لاشك "النقاء" القومي و العرقي اللازم لنهضة القوميات الأوروبية الحديثة , وبناء على ذلك سيسبب بقاء اليهود في أوروبا المزيد من العداء و التصدع للمجتمعات "المسيحية" الأوروبية القومية الوليدة. وبهذا الحل الوحيد هو التخلص منهم بإخراجهم من القارة و إنشاء وطنهم الخاص بهم , وغني عن القول إن اليهود المتدينين والعلمانيين عارضوا هذا التفكير الفظيع المعادي للسامية. اليهود المتدينون والإصلاحيون واليهود الاشتراكيون والشيوعيون واليهود الثقافيون الكوزموبوليتانيين و اليهود الذين ينتمون لثقافة الييديش اتفقوا جميعًا على أن هذا الحل يعبر عن إيديولوجية عدائية خطيرة تسعى إلى طرد اليهود من أوطانهم الأوروبية كما يقول جوزيف مسعدو وعن كان من الصعب عمليا تحديد تاريخ دقيق لمثل هذا التحول لدى القوميين الأوروبيين في نظرتهم لحل المسألة اليهودية و الدعوة لعودتهم لـ"وطنهم القديم" , وتبني بعض القراءات الحرفية للكتاب المقدس التي ظهرت في أعقاب حركة الإصلاح البروتستانتي و ما تلاها من أفكار لاهوتية حول خلاص العالم و النظريات الألفية و الاعتقاد أن ليهود لابد أن يعتنقوا المسيحية في نهاية المطاف و يعودا لوطنهم , لأرض الهيكل الثاني و بدأت افكار من قبيل العثور على قبائل بني إسرائيل في الظهور الذي رأى فيه المسيحيون كإشارات تدعو لإعادة بناء هيكل سليمان ,و بدأ ظهور تيار متشدد في بريطانيا و هولندة يدعو لعودة "الشعب" اليهودي إلى الأرض المقدسة[ كان اللورد شافتسبيري من بين أولئك الذين دعوا إلى عودة اليهود لفلسطين , مثل هذه الدعوة سوف يتبناها لاحقا اللورد بالمرستون و لكن لدواع استعمارية و ليس لدواعي دينية], و أن هذه العودة ليست حلا للمسألة اليهودية في أوروبا فحسب , بل هي التي ستؤدي بظهور المسيح , لقد افتت رجال الدين المسيحين , بسبب مطالعاتهم المستمرة لقصص الكتاب المقدس بحقيقة أن اليهود كجماعة استطعت أن تنجو عبر التاريخ الطويل في الشتات من الذوبان ,فقد كتب تشارلز جيرام طالب اللاهوت في كامبريدج في العام 1795 مقالا يزعم فيه أن اليهود يتمتعون بحق مطلق غير قابل للتصرف بحيازتهم الابدية لأرض كنعان وهو يرى أن بعد هذه الحيازة سوف يعتنق اليهود المسيحية [الأمر الذي سيعد جوهريا فيما بعد بالنسبة للصهيونية المسيحية].
يؤرخ القرن التاسع عشر ايضا لظهور حركة التنوير اليهودي "هاسكالا" التي دعت -من أجل التخلص من هيمنة الحاخامات اليهود على يهود شرق أوروبا-إلى اندماج اليهود [وليس طردهم]في فضاء ثقافي علماني أوروبي و التخلي عن المكون الثقافي اليهودي الذي ينتمي إلى ثقافة قروسطية , وفي خضم هذا الاضطراب الفكري بزغت القومية "اليهودية" في شكل الصهيونية أو في شكلها الصهيونية كمظهر مباشر من مظاهر القومية الأوروبية استطاع القادة الصهاينة استغلال هذا المد القومي الأوروبي بانتهازية واضحة لصاح أجندتهم السياسية و تبنيهم للأفكار الأوروبية المعادية ، بما فيها معاداة السامية دون أن يتخلوا عن فكرة أن اليهود هم "ساميون" و أنهم أحفاد العبرانيين القدماء و فترة الهيكل الثاني , ودعم تيار ما سيعرف لاحقا بالصهيونية الدينية [ من أبرز دعاتها الحاخام أبراهام كوك] العودة إلى فلسطين من خلال الجهد البشري ورأى هؤلاء أن مثل هذه العودة تمثل الخلاص النهائي كمشروع مشترك بين الرب و الإنسان. وهكذا ، سيصبح تيار الصهيونية الدينية طريقا وسطا بين الصهيونية السياسية و معاداة الصهيونية , كما سيكون وسيلة لبعض اليهود المتدينين لدعم وتعزيز الصهيونية العلمانية وتبريرا لهم للانتقال إلى فلسطين ، سواء بدافع من الاضطهاد ومعاداة السامية أو من خلال الرغبة في العيش في "أرض الميعاد" و "أرض الأجداد" .
كان يفضل هرتزل لو يتبنى اليهود جميعهم اللغة الألمانية ، في حين رغب يهود شرق اوروبا الصهاينة اللغة العبرية . و في فترة ما بعد هرتزل تبنى الصهاينة , بل حتى أكدوا على أن اليهود لا ينتمون عرقيا للأوروبيين الآريين . أما بالنسبة إلى اليديشية[ لغة معظم الجاليات اليهودية في أوروبا]، فقد اتفق جميع الصهاينة على ضرورة التخلي عنها , وبهذا لم تعد اليهودية سببا لوجود اليهود بل -كما يرى و يرغب الصهاينة -أصبحت اليهودية نتاجا للوعي القومي اليهودي ,وهذا في الحقيقة ليس سوى استبدال وهم بوهم , استبدال وهم العلاقة مع الرب بوهم علاقة الفرد مع الجماعة . و استمرار للمرادفات المتنوعة للقومية الأوروبية [وصولا في مراحل لاحقة للتفسير الصهيوني لآراء لينين حول الإمبريالية و التصنيع الذي يولد القومية]. لم يؤيد يهود أوروبا في معظمهم هذه الأفكار , بل واصلوا مقاومتها من خلال فهمهم لها كأفكار و مبادئ معادية للسامية و استمرارا لسعي دعاة التنوير لدمجهم في الوسط الأوروبي منقطعين عن ثقافتهم , لم تقم الهاسكالا بالحديث عن "خروج" حديث من أوروبا نحو فلسطين , وهذا هو الفرق بينها و بين الصهيونية ,وسوف يصبح حزب البوند , وهو اتحاد العمال اليهود العام في ليتوانيا وبولندا وروسيا الذي تأسس في أواخر العام 1897 ، بعد أسابيع قليلة من انعقاد أول مؤتمر صهيوني في بازل ، ألد أعداء الصهيونية و سوف ينضم إلى الائتلاف اليهودي المناهض للصهيونية المكون من الحاخامات الأرثوذكس والحاخامات الإصلاحيين الذين كانوا قد جمعوا جهودهم قبل بضعة أشهر لمنع هرتزل من عقد المؤتمر الصهيوني الأول في ميونيخ ،مما أجبره على نقله إلى بازل. و يستعرض جوزيف مسعد ما طرحه ثيودور هرتزل في كتيبه التأسيسي "دولة اليهود" حول مستقبل اليهود الأوروبيين ,أن اليهود ، وليس أعداءهم المسيحيين ، هم الذين "يسبّبون" معاداة السامية ، وأنه "في حالة عدم وجودها ، سيحمل اليهود [معاداة السامية] في سياق هجراتهم". "، في الواقع أن" اليهود التعساء يحملون الآن بذور معاداة السامية إلى إنجلترا ؛ لقد أدخلوها بالفعل إلى أمريكا "؛ أن اليهود "أمة" عليهم أن يغادروا أوروبا لاستعادة "دولتهم" في فلسطين أو الأرجنتين ؛ و" إن حكومات جميع البلدان التي تعاني من معاداة السامية ستهتم اهتماما شديدا بمساعدتنا في الحصول على السيادة التي نريدها". و أردف "ليس فقط اليهود الفقراء" سوف يساهمون في صندوق هجرة اليهود الأوروبيين "، بل المسيحيون أيضا الذين يريدون التخلص منهم". و يقر هرتزل في مذكراته [ دون أن يرف له جفن]:" سيصبح المعادون للسامية أكثر أصدقائنا الذين يمكن الاعتماد عليهم ، وأن الدول المعادية للسامية سيصبحون حلفاءنا.", ليس هذا فحسب , بل سوف يلتقي مع عتاة المعادين للسامية , مثل وزير الداخلية الروسي فويتشسلاف قسطنطينوفيتش فون بليف وزير الداخلية في العام 1903 [ الذي أشرف على المذابح المعادية لليهود في روسيا] فضلا عن اللورد بلفور المعادي للسامية ، الذي كان رئيسا للحكومة البريطانية في العام 1905 و الذي أشرف شخصيا على القانون الخاص بالتعامل مع الأجانب الذي وضعته الحكومة ، والذي منع يهود أوروبا الشرقية الفارين من المذبحة الروسية من دخول بريطانيا مبررا ذلك بقوله أنه يقوم بإنقاذ البلاد من "شرور صرفة " سوف تسببها "الهجرة التي كانت في معظمها من اليهود " ، ويرى البعض في سياقات أخرى أن أحد دوافع اللورد بلفور لوعده المشهور في العام 1917 لإنشاء "وطن قومي" لـ "الشعب اليهودي" في فلسطين ، يتمثل في منع اليهود من تقديم الدعم للثورة البلشفية في روسيا ووقف تدفق المزيد من المهاجرين اليهود غير المرغوب فيهم إلى بريطانيا.
يؤكد جوزيف مسعد أن النازيين لن يكونوا استثناء في سلسلة معاداة السامية هذه ,و في الواقع ، سيعقد الصهاينة صفقة مبكرة جدا مع النازيين في العام 1933 اتفاقية ترانسفير [هعفارا] لتسهيل نقل اليهود الألمان وممتلكاتهم إلى فلسطين وهو ما سمح للحركة الصهيونية ,بعد أقل من خمس سنوات من تلك الاتفاقية من امتلاك نحو 229 الف دونم من أرض فلسطين و تهريب كميات كبيرة من الاسلحة [كشفت منها حالتان , الأولى بتاريخ 15-3-1930 و الثانية بتاريخ 16-10-1935], فضلا عن اتفاقية هعفارا اخترقت المقاطعة اليهودية الدولية لألمانيا النازية التي بدأها اليهود الأمريكيون. و في سياق هذه الاتفاقية و ما تمخض عنها وفد إلى فلسطين مبعوثين نازيين إلى فلسطين للاطلاع عن كثب على مدى نجاح الاستعمار اليهودي للبلاد. عاد أدولف ايخمان من رحلته إلى فلسطين عام 1937 وهو يحفظ العديد من القصص عن "إنجازات الكيبوتز الأشكنازي"والذي زار أحدها باعتباره ضيفا للصهاينة .وعلى الرغم من المعارضة الساحقة لمعظم اليهود الألمان ، كان الاتحاد الصهيوني لألمانيا هو الجماعة اليهودية الوحيدة التي دعمت قوانين نورمبيرغ للعام 1935 ، بتوافقهم مع الطروحات النازية بأن اليهود و الآريين ليسوا سوى أعراقا منفصلة غير ذات صلة ومن غير الممكن استيعاب أحدهما للآخر و من الضرورة بمكان إخراجهم من أوروبا , لم يكن هذا مجرد دعم تكتيكي أو محسوب على أجندة سياسية معينة بقدر ما كان يستند إلى تشابه إيديولوجي واضح و ألفة بين العقيدين الصهيونية و النازية , علما أن الحل النهائي النازي لليهود الالمان كان يرى بضرورة ترحيلهم نحو مدغشقر ,في حين أن الغالبية من اليهود استمروا في مقاومة معاداة السامية المستندة إلى الصهيونية وتحالفاتها .
أخيرا يرى جوزيف مسعد أن الدول الأوروبية و الولايات المتحدة والدول ستواصل السياسات النازية المؤيدة للصهيونية, ففي الواقع لم يحدث انقطاع في السياسات "النازية" المؤيدة للصهيونية باستثناء المزاج العام الرافض لمبدأ الإبادة الجماعية الذي تبنته, رفض المجازر النازية من حيث المبدأ و في الوقت ذاته إبعاد اليهود خارج أوروبا, نحو "وطنهم التاريخي القديم" , ليكونوا بمثابة حصن "أبيض" في مواجهة "البربرية " الآسيوية-الشرق أوسطية-الإسلامية. إلخ .لقد مثلت الحرب التي شنها هتلر بطريقة ما انعطافه حادة نحو الداخل , أي نحو البر الاوروبي نفسه. ولم يجد الغرب أمامه سوى التصالح مع الذات من خلال إعادة تأهيل ضحايا الحرب في أوروبا و من ضمنهم اليهود باعتبارهم "بيض" ,وكان من أهم ما قامت به أمريكا في خضم حربها الباردة مع المعسكر الاشتراكي هو إعادة تأهيل اليهود الأوروبيين كجزء من بروباغاندة صاخبة , وظهرت مقارنات متوازية تم بموجبها تصنيف الشيوعية "السوفيتية “كنسق شمولي مثله مثل النازية مما يتيح اعتبار يهود الاتحاد السوفييتي ضحايا نظام استبدادي لا يختلف عن ضحايا النازية و سوف تستغل إسرائيل هذه المزاعم إلى أبعد الحدود من أجل دفع اليهود السوفييت نحو إسرائيل, ومن خلال تجليات تفوق الرجل الأبيض ظهر في الحقل الأكاديمي ما صار يعرف باسم الحضارة "اليهودية المسيحية" التي هي استمرار لما سبقها أي الحضارة "الإغريقية" و الحضارة "الرومانية" في عملية خلط غريبة عجيبة بين ما هو ثقافي و ما هو ديني و ما هو اثني و دمجهم في كل واحد هو "الرجل الابيض " , الأمر الذي كرس تصنيفا جديدا لشعوب العالم يستند على إملاءات عنصرية ضد السكان الاصليين للمستعمرات في أفريقيا و آسيا و أمريكا كما تم التأكيد على الدور الوظيفي لإسرائيل و دعمها كمشرع استيعاب اليهود في دولة استعمارية استيطانية "بيضاء" بعيدا عن أوروبا ،وهو استمرار للسياسات الاستعمارية التي كانت سائدة في فترة ما قبل الحرب وبهذا فإن ضحايا النازية من اليهود الذين قتلوا في أوروبا لا يشبهون من كان ضحية للنازية وقتل خارج القارة و أن أهوال الهولوكوست هي مرعبة فقط لكونها تسببت في مقتل اليهود الأوروبيين بوصفهم بيض و بات من الضروري مطابقة هؤلاء الضحايا مع المسيحيين البيض الأوروبيين فت إعادة تصويرهم في الأدب و المسرح و السينما "لاسيما الامريكية" كأناس مثقفون من الطبقة الوسطى موهوبون و ذوي مار رقيقة و أحاسيس مرهفة ودودين و مسالمين و لا يختلفون عن المسيحيين البيض الأوروبيين و الامريكيين الذين ينبغي , بل يجب أن يتطابقوا معهم .
تصر إسرائيل -ومعها الغرب- على أن اليهود الأوروبيين لا ينتمون إلى أوروبا بل ينتمون إلى "وطنهم القديم" أي فلسطين ,و يقابل هذا إصرار فلسطيني يرى في أن اليهود لا ينتمون إلى هذه المنطقة إنما ينتمون إلى جغرافيتهم التي أتوا منها , ولم تستطع الحركة الصهيونية أن تقنع اليهود بالمجيء لفلطين إلا بأن تتبنى سياسات معادية للسامية و الزعم أن اليهود [الأوروبيين مثلا] لا ينتمون لأوروبا وهم عرق أو سلالة أو منفصلة عن المسيحيين الأوروبيين ،في الوقت الذي يصر الفلسطينيون على أن اليهود الأوروبيين لا يمكن أن يكونوا سوى أوروبيين ولا علاقة لهم بفلسطين أو شعبها أو ثقافتها. . و يثبت المشروع الصهيوني في فلسطين فشله-رغم نجاحات هنا و هناك-في إقناع الفلسطينيين بأنهم عليم أن يكونوا معادين للسامية ويعتقدون كما فعل النازيين وإسرائيل وحلفائها الغربيين المعادين للسامية بأن اليهود هم جنس يختلف عن الأجناس الأوروبية ، وفلسطين هي بلدهم ، وأن إسرائيل تتحدث باسم جميع اليهود.
................................................
*http://www.aljazeera.com/indepth/opinion/2013/05/2013521184814703958.html
**http://www.aljazeera.com/indepth/opinion/2013/05/2013521165744741348.html
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟