|
-الصمود والهوية في لوحات فلسطينية - الجزء الثالث-
سعيد رمضان على
الحوار المتمدن-العدد: 5945 - 2018 / 7 / 26 - 09:59
المحور:
الادب والفن
2- الفنان فايز الحسنى --------------------
لمعرفة مكامن الجمال يرحل بنا الفنان الفلسطيني فايز الحسني في لوحاته، لنكتشف قوة الارض والانسان معا ، مقارنة مع ما يمكن أن يصيب الكائن البشري من عنف وحيوانية. يوظف في اعماله أسلوبا بصريا يقوم في أساسه على الاستغراق في المكان ، باعتباره فضاء يتفجر فيه الصراع الذي يضمر بأن الحياة تقوم في عمقها على الجدل الدائم ابدا بين الوجود وعدم الوجود، بين الجمال والقبح . انه صدام قائم ابدا في تاريخ الانسانية ، ويستمر في التدحرج عبر الزمان ليصل الى فلسطين ، ليجسمه فايز الحسني بريشته الجمالية . لكنه لا يجسده بعملية صدام مباشرة ، بل يقوم بتصوير واحدة من اكبر الجرائم التي عرفتها الإنسانية ، من خلال اظهار الجمال لدى الأسر الفلسطينية والتاريخ والتراث. فى لوحته القدس تتصدر فلسطين المشهد ، مانحا لها الطابع الأمومي ، مرتدية زي معبر عن التراث الفلسطيني، تحتضن جرة الماء رمز الحياة بالقرب من قلبها ، وبحركة خفيفة مائلة من رأسها تعبر عن الحنو للشعب الفلسطيني الذى يحيط بها ، في الخلفية تظهر القدس، ومن حولها المدن الفلسطينية، برموزها العربية الاكثر قدما ، كما يظهر حصان ينتفض بحركة مليئة بالحيوية . تظهر الشخوص والاشكال على نسق لونى متقارب ومتناغم مؤكدا على الوحدة العضوية، كرمز لتاريخ وتراث ومصير مشترك . لوحة تنقلنا الى حقيقة موضوعيه ، ان الماء التقى بالأرض الفلسطينية في حضن دافئ ، ليوجد حياة وارضا زراعيه، وبيتا ،ومدينة وتراث وتاريخ، ومن خلال المعطى اللوني والخطوط يظهر الكل بجمال وجلال . حقا ان المنتجات الفنية قد نقبلها او نرفضها ، لكن مع فايز الحسني نطرح السؤال : - هل عمله يشبه الحياة ؟ اللوحة دائرة حول الانسان و الأرض وخيراتها الطبيعية ، التراث والتاريخ، والقيمة المعطاءة للثورة بالحركة الحيوية للحصان ، لوحة فى مضمرها تضفى طابع صراعي ، تحولها الى مقاومة من جهة، ودفاع عن الذات من جهة أخرى بقصد حفظها من الدمار المحدق بها . حقا ان الجمال فى اللوحة، والوان الفرح التي تبعدنا عن القتامة ، تمنحنا بعض البهجة، لكنها ليست بهجة متوهمة تمنحنا هروبا من الواقع الدامي الذى نعيشه فى فلسطين ، بل تأتى تلك البهجة بشكل غريب وتتسلل الينا من خلال الصمود ، وفى الحفاظ على الهوية .. حقا انك ينبغي ان تعيش أو لا تعيش .. أو بسؤال شكسبير " تكون او لا تكون " انه سؤال القصد منه إدراك موقفك من الحياة وتأكيد دورك ، والبهجة فى اعمال فايز الحسني تمنحنا فرصة اكتشاف كياننا .. وهكذا فى الحياة .. كما الفن .. البصيرة هي أن تعرف من أنت ... ما هو تراثك وما هو تاريخك .. هكذا تستنطق اللوحة أسئلتنا الابدية ، لكنها لا تجيب ... انما تجيب انت اما بالسعي لتدمير العدم واثبات الوجود. او تمحى وجودك ذاته بالاستسلام الى ذلك العدم . ان نماذج الفنان فايز الحسني يمكنها ان تعيش لتؤكد على القيم التي يؤمن بها. فمثل هذا الاقتراب لفنان من مأساته يوحي بأنه شديد الاهتمام بتصوير دراما بشرية، حيث يمثل الكارثة مع عدم اظهارها بشكل مباشر، ويكشف مجازر العدو من خلال جماليات الحياة .. لذا فهو يصبغ لوحاته بتعبير غير قاتم .. او بتعبير اخر ثمة رعب في الوجود .. والحياة بها الكثير من الدمار ويكون للحياة معنى فقط اذا كانت تشب نحو الجمال الإنساني ، ومع كل ما نفعله من شرور يمكننا ان نفعل خيرا واحدا ، وهذا يمنعنا من الاندثار . ----------------------
3- الفنان فتحي غبن ------------------
بجلال ، يرسم فتحي غين فلسطين ، في لوحات يمنحها الحوار الأكثر ثراء بعدا فلسفيا . قابضا أيضا على ريشته ، كأنه على أعتاب المقدس، اللوحات ، كما تخبرنا موضوعاتها ، ومنحنياتها ، وألوانها ، هي قصة بطولة ، وقصة الثراء الخلقي ، لناس كتب عليهم ان يكونوا ابطالا لملاحم، تنفجر فيها فلسطين صاخبة في وجه الجنس البشري : - أأنا في القلب ؟! أم في الضياع ؟ غين في الفن يقدم التاريخ الفلسطيني في أروع تجلياته. في أكثر من لوحة تكون ثورتها وشخصياتها وتاريخها وتراثها حاضراً و بقوة . نستطيع أن نقول أنه يمنح لوحاته بعدها الأخلاقي، فالثورة تعنى وجود ظلم ، والعدالة لا تتحقق بدون حرية . ان الاحتفال بالحياة الفلسطينية في لوحاته له قوة ضربة الصاعقة، وصخبها يبدو كزئير أسد وقع في الاسر . ولها الحق في أن تكون كذلك فمن عام "48" وفلسطين تحمل جميع أثقال الحياة، تاريخها وتراثها وموسيقاها و فنها وأرضها ، ينهل منها المغتصب ويتفاخر بها بنسبتها لنفسه . ينظر الكون لموتاها ولشهدائها ومهاجريها وتمزقها، لكنه لا يشاطرها ألمها لأنه لا يفهم لغتها. وفتحي غين في فنه ، يقدمها لنا ككائن أخلاقي. كدرع يتحصن به وهو يحارب ضد الاحتلال. فلسطين كائن ضد الضياع ، انها الثورة والأرض. وفلسطين الارض ، ليست مختلفة عن فلسطين الثورة والبشر. يمزج الكل في لوحاته، فيقدم لنا العظمة والجمال الذى يذرف دمعه من الاسى ، دمعة توجز التاريخ البشرى كله . في لوحة الحرية ، يستشف لنا المثال الاكثر قتامة والأكثر مأساوية، من خلال رسم الحقائق الممزقة، قبض بريشته على الظلم الكوني وراح يخلع عنه كل اقنعته ، وهو يطلق صرخة الحرية في برية الاغتصاب الموحشة . لكنه يستشف ايضا المثال الاروع وهو الثورة . حصان ينتفض وسط نباتات الصبار الكثيفة ، بمنطقه تحيط بها الجبال الوعرة، في الخلف بناء يظهر كسور معماري من الطراز القديم ، يحيط بالسور سحب ارجوانية ، سماء زرقاء مع سحب بيضاء خفيفة . الشمس تظهر كنبات عباد الشمس، تحيط برقبه الحصان اسلاك شائكة ممزقه سببت جروحا ينسال منها الدم على جسده الابيض. انتفاضة الحصان تظهر في حركة قوية جدا، فالأسلاك الممزقة متطايرة بأعلى من جسد الحصان، ويبدو العرف والذيل كأنهما طائران في الهواء، شدة انحناء الرقبة الطويلة، تظهر من خلال الثنايا الطولية التي تظهر قوة عضلات الرقبة .. و الارجل ايضا تبرز قوة الانتفاضة ، اما الراس النحيف فيرتفع عاليا بسمو ، بينما العينان متجهتان باستقامة للسماء . من أجل التفجير القوى للحظة صرخة الحرية ، يجسم لنا الفنان عدة صور، كتمثيلات للوجود القاسي ، السور والجبال والصبار، ما تشترك فيه الصور هو البيئة المعادية ، كرمز للسجن و القهر والقسوة، اما السحب الارجوانية فتبدوا كألسنة لهب منضغطة بحركة الهواء، كرمز للهيب الثورة الذى لا ينطفئ مع الزمان ، رغم الضغط الواقع عليها للاستكانة . ان اللوحة لا تجسد فقط لحظة حاضرة من الزمان ، بل لها امتداد في الماضي ، فالسور هو مدينة القدس برمزيتها المعتقلة في الأسر، والامتداد في التاريخ، والحاملة للثقافة الوطنية ومعبرة عن ذاكرة المكان . ويتفق رمز الجبال مع ذات المنظور، فالجبل الذى يرمز للعلو، يظهر هنا كحائط من صخر الجرانيت، يمتد في الارتفاع وفى الزمان، ويمتزج الصبار مع الجبال والسور، وبكثافته يحمل كل معانى الوجود القاسي . اما الحصان المحاصر من كل الجهات حتى من الارض، فقد مزق قيوده، لكن انتفاضته تكون لأعلى، انها الحركة الوحيدة المناسبة له في حصار الأمكنة، لقد بدا لي – من زاويتي – كشخصية بطل يتمتع بالسمو والنبل ، فالمتدني اخلاقيا لا يقوم بأي فعل عظيم ، كفعل الثورة من اجل الحرية، لذا فرمزية الارتفاع عن الارض تقترن بالسمو، انه يشبه "بيجاسوس" الحصان المجنح في الاساطير اليونانية ، وهو يرتفع عن الارض ويطير بحرية في احضان السماء ، لكنه باللوحة يتجسد بتفاصيل حصان عربي أصيل، وهو في التاريخ العربي ملاصق لكل فارس، بل هو قرين الفروسية والشجاعة . لذا فحركته تتصف بالسمو والجلال والشجاعة النابعة من طبيعته ونسبه الأصيل. الجريمة المحددة التي عوقب عليها الحصان ، هو رفضه التخلي عن اصالته وعن تاريخه وعن حريته فحكموا عليه ببؤس الحياة. انها رمزية حركية معنوية موصولة بكرامة الوطن الفلسطيني وكبريائه، وتسرد مقاومة شعب في رفضه بقوة للاغتصاب والقهر ، والانتفاضة ضد السيطرة على حياته. لون الحصان الابيض، يظهر كراية صامتة للسلام والنقاء والصفاء، مختزلا جريمة الآخر فى خط الدم الذى ينسال على البياض، والأسلاك الشائكة التي تحيط بالرقبة . تبقى نقطة موصولة بحياة الفنان نفسه ، وهى الشمس في خلفية اللوحة ، والتي تشبه زهرة عباد الشمس ، وتذكرنا بالفنان الهولندي فان جوخ ، فزهور عباد الشمس الصفراء المقترنة بزرقة السماء كانت رمزا لإبداعه المتأخر، وتتويجا لجهده الطويل ، وقد وصل ثمن لوحاته للملايين ، بينما عانى في حياته من صعوبة العيش. وخلال عقود من الزمان ، يبارز فتحي غين الاندثار ليحافظ على الجمال من خلال الوجع . عقود من الحرمان والأخطار، يشن الحرب بريشته،. في الوقت الذي يمتطى إبداعه كقارب يبحر فيه لمطاردة الموت، كان فنانون اخرون بعواصم الدنيا يستمتعون بالحياة، وبرغدة العيش، بينما هو لا يقدر إلا على القليل، حتى القليل هذا أحيانا ينفذ منه. فهل الفنان فتحي غين يقدم لنا بشكل رمزي صعوبة حياته ، وسط الضيق والحصار، ومعاناته من الاهمال، عندما يذكرنا بالفنان فان جوخ ؟ أم هو يقدم التحية لفنان عظيم اخر عانى مثله من الضيق والاهمال ؟؟
#سعيد_رمضان_على (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-الصمود والهوية في لوحات فلسطينية - الجزء االرابع-
-
-الصمود والهوية في لوحات فلسطينية - الجزء الثاني-
-
-الصمود والهوية في لوحات فلسطينية -الجزء الأول
-
تخريفات مفلس للخروج من الخرابة
-
تأملات بشرى في الاحوال البشرية !!
-
سيناء وضحايا الأكاذيب الكبرى
-
مقدمة لديوان (على ذاك الكثيب)
-
قراءة في مجموعة - لم يكن حلما -
-
اسكت، حتى ياتى يوم ذبحك
-
غزة ، مشاهد من الحياة
-
في الانتصار المدوي للمقاومة
-
غزة ، والحكايات
-
إسرائيل, السحره والنساء
-
مهرجان الوحشية
-
الأحلام والانكسارات في - نوافذ الشر -
-
قراءة في قصة - ارتديتك غيابيا -
-
قراءة في قصة هناء حمش
-
اليرموك، بؤرة كاشفة للوطن
-
ربط البحرين، والنووى، والقوة !!
-
برافر... والهدف..!!
المزيد.....
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|