|
أرباض ..مقداد مسعود والتحليق خارج التجنيس الأدبي / بقلم الكاتب والباحث علاء لازم العيسى
مقداد مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 5943 - 2018 / 7 / 24 - 09:42
المحور:
الادب والفن
a أرباض مقداد مسعود عـلاء لازم العيـسى والتحليق خارج التجنيس الأدبي البصرة
( 1 ) يقول الشاعر الفرنسي ( مالارميه ) ما ملخّصه : أنّ الكاتب على علاقة متميّزة بالغياب ، وحين تتزاحم الموجودات فلا شيء ولا أحد ، وإنّنا بالكتابة نُبدع الفراغ المحيط بنا فنضع مسافة بين أنفسنا والأشياء . ويقول الروائي امبرتو إيكو ما نصّه : (( فمن أجل سرد شيء ما يجب في البداية القيام بدور مبدع يقوم بابتكار عالم ، ويجب أن يكون هذا العالم من الدقة بحيث نتحرّك داخله بكلّ ثقة )) ( اعترافات روائي شاب ص28 ) . ويصرّح الأستاذ مقداد مسعود : (( شخصيًّا كقارئ أنا مدين للمفكر الكبير سلامة موسى بالكثير .. وحده مَن فتح شهيتي على تنويعات القراءة ، وعدم التخصّص بنوع واحد من المعرفة الإنسانيّة )) ( زيادة معنى العالم ص84 ) . ( 2 ) منذ العنوان الرئيس (( أرباض )) والعنوان الفرعي (( وحدات شعرية )) ، حاول الشاعر والناقد الأستاذ مقداد مسعود ، أن يستقطب اهتمام القارئ ، ويدفعه لتوظيف ذخيرته الثقافية ، التي تمكنه من تجنيس العنوان وفهم دلالته اللغوية المباشرة ، ومع أنّ العناوين عتبات ( خارج ـــ نصيّة ) لا تمثّل جزءًا من المتن ، إلّا أنّها تعدّ مفاتيح تفتح أبوابه . فـ (( أرباض )) بوصفه عنوانًا للكتاب ، عبّر عن رفضه للمستهلك في العناوين وعن توافقه مع لعبة الكلمة : كلمة في علاقتها بالمكان ( المدينة ) لا هي غائبة ولا هي حاضرة ، لكنها متفاعلة معها ، فالأرباضُ : نواحي المدينة ، وما يُبنى حول سورها من الخارج ، أي ما حول المدينة من العمارة والضواحي ، ففي ( العين ) للفراهيدي : (( والربَضُ : ما حول مدينةٍ أو قصرٍ من مساكنِ جُندٍ أو غيرهم ، ومسكنُ كلّ قومٍ على حِيالهم : ربَضٌ ، ويُجمعُ على أرباض )) . و (( وحدات شعريّة )) عبّرت عن التفرّد والتجريب في البحث عن جنس أدبيّ جديد ، ومحاولة التملّص من الحدود التقليدية للأجناس الأدبيّة ، التي يعدّ أرسطو هو الواضع الأوّل للأسس التي تقوم عليها ، والتي نظر إليها وكأنها كائنات عضوية تنمو وتتطور حتى تبلغ كمالها وتستقر ، وتتوقف عن النمو . والحقيقة أنّ إبداع التداخل في الأجناس الأدبيّة ، وفي غير الأدبيّة كالتأريخ والفلسفة والسيرة الذاتيّة والتجارب التي عاشها كاتب أرباض ، ينبع من موهبة كبيرة تأبى الانحصار ضمن نطاق محدّد شكلًا ومضمونًا . ( 3 ) وتأسيسًا على ما سبق استعان الكاتب عند كتابة وحداته الشعرية بـ ( ذاكرة بعيدة المدى ) اندمجت فيها أربع ذواكر : ذاكرته ككاتب ، وذاكرة المكان ، وذاكرة التاريخ ، وذاكرة المتلقّي ، وهذا الاندماج والتداخل بين هذه الذواكر الأربع ، أنتجَ نصًّا منتجًا للدلالات والرموز . فلا غرابة أن يتحوّل اسم ( المقبرة ) في أرباض إلى ( مزرعة ) ، لأنها تضمّ بين أطباقها عقولًا منتجة تركوا آثارًا في الإرث المعرفي لمدينتهم ، وهذا ما نقرأه في قول الكاتب : (( طيرٌ من أجله قصدتُ مزرعة الحسن البصري ، ويممتُ شطر ابن سيرين فانتشلته من حيرته بين المحاميد الثلاثة : البروف الاقتصادي محمود الحبيب ومحمود البريكان ومحمود عبدالوهاب )) ( ص15 ) . ( 4 ) ولكي يسحر القارئ ، ويأسر لُبّه ، فلا يستطيع الفكاك من لغة تجربته الفنيّة ، لم يكتف الكاتب بالتناول السطحي للأشياء والحيوانات والجمادات والأنواء ، وإحصاء أشكالها وألوانها فقط ، بل نفذ إلى جوهرها ، وأنسنها ، فأخرجها من إطار ماديتها ، لتصبح جزءًا من النسيج الإنساني ، وخلع عليها رموزًا وأحاسيسًا ، ومنحها قلبًا وذاكرة (( فالأشياء لا وجود لها ولا قيمة بدون المعنى الذي يخلعه الإنسان عليها ، وبدون المشاعر التي يلونها بها وبدون الأحاسيس التي ينفخ بها في روحها )) كما يرى أحد النقّاد . فالمطر عند مقداد مسعود (( يتباهى بعريه ويصفع الماء المؤطّر ، في تدفّقه أو تموّجه ، يهزأ بالماء الغضوب )) ( ص18 ) ، والبقاء للريح (( فتيةٌ دومًا ، وراقصة للأبد ، ولا تستحي لا تستحي ، تتسلّى بمصائرنا بسفائننا ، يستفزّها كبرياء الشجر )) ( ص17 ) ، و(( الفل يستحي مثل الفيل ومثل الفيل والفل يستحي الحصان ... وحده الماعز لا حياء له ومنه انبجست عنكبوت التقانة )) ( ص12 ) ، و(( الساقية الآن تعاني احتباسًا وسرطنة وكوابيس تسردها منهولات لا تتوقف عن تثقيب رئة الساقية وقلبها وذاكرتها )) ( ص72 ) . ( 5 ) وبما أنّ الجسم والعقل والنفس ، كلّها تعمل مع بعضها البعض في أثناء التفاعل الاجتماعي ، فلا يعمل أحدها بمعزل عن الآخر ، عُدّت هذه الأجزاء أجزاءً أساسيةً من البناء التركيبي للمعنى . ومن يتتبع روحية وحدات أرباض يجد أن نفس الكاتب أبعد ما تكون عن الفرح والسرور ، فمن خلال تنافذه النفسي والمادي مع الواقع القاتم ، والمستقبل الأقتم ، طالما شعر بالغربة والحزن والخوف ، وهو حزنٌ دائم الحضور ، ناجم من الصدمات العنيفة التي عانى منها ، ولا زال ، ممّا جعله يسعى إلى بناء عالم خاص به ليأمن من سطوة البحر وصخبه وغدره : (( وأنا في كلّ هذا وذاك ، وخوفًا من البحر العميق ، صنعتُ لي صحرائي فيه ، ونأيتُ عن عمقه وصخبه وغدره )) ( ص48 ) . وتصل رسالة حزن من نوع آخر ترثي الوطن الذي بيع في ملاهٍ ومقاهٍ ، وفنادق الدرجة الأولى والأخيرة (( ليتم المضاربة بها وتستبدل هيمنة بهيمنة أشدّ من الحنظل ، طغمة مالية ريعية طائفية مصابة بلوثة لاهوت الربض ، لا يتوقفون عن تصقيل مرايا أسيادهم )) ( ص43 ) . ويرثيه مرة أخرى لتقدمه إلى الخلف (( كروش الدولة تطوّق كروش السوق ، هنا يكون الإله المعبود ، هو : الريع .. إذن الديانة الاقتصاديّة السائدة هي وحدانية الريع ، لا لتنمية الوطن إنتاجيًا ، نعم لتهريب الأموال )) ( ص66 ) . وربّما داخله الحزن بسبب الديدان المجهرية التي (( تفتكُ مسرّاتنا فنتوقف عن الحلم بقرار من الغير البغيض )) ولكن رغم هذا الحزن والقلق والخوف يبقى الأمل بالانبعاث ، وباستمرار المسيرة ، ولذلك (( لا بدّ من حراسة أحلامنا بسراج الفطنة حراستها من الرابضين والمتربضين بنواظير بنادق القنص )) ( ص74 ) ، وإن كانت تلك الأحلام بعيدة المنال (( في أحلامها معانٍ مؤجلة ، في أحلامي أشجار نفضيّة ، لأحلامنا : ظلّ عشب يتدفق ، ، نتحاور ، نتكاتب ، هي تكتبني نهرًا ، أنا أكتبها وردة تغتسل بي كلّ فجر )) ( ص88 ) .
( 6 ) أخيرًا ، فإنّ القارئ الدارس لكتاب ( أرباض ) للأستاذ الأديب مقداد مسعود ، تحت إجناسية ( وحدات شعرية ) ، الصادر عن دار ضفاف للنشر / بغداد ـــ الشارقة ، ينتابه شعور بأنه محلّق بين تركيبة ذات المؤلف بذواكرها المتعددة والمختلفة ، وعلائق محيطه القاتم ، ويشعر بأن الكاتب الكريم قد ضمّن وحدات كتابه رسالة ما ، فما هي الرسالة التي أراد الكاتب إيصالها لقرّائه . *المقالة منشورة في صحيفة الزمان / 18 تموز 2018 ومنشورة في صحيفة طريق الشعب 21تموز 2018
#مقداد_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حافة كوب أزرق / الأشياء بمرتبة الكائن / بقلم الناقد جبار الن
...
-
التشكيل والإشكال.. في مفهوم الأدب النسوي
-
أرض القهرمان : كاظم الأحمدي في شمعته العاشرة
-
شجيرة مهيار
-
مبعوث البصرة : عبد الوهاب باشا آل قرطاس : بشهادة الأديبة مي
...
-
عتبات نصية شائكة
-
مقدمات : تضطهد القارىء
-
السرد والسرد المتخيل والإستباقي ... والعين كشخصية محورية في
...
-
السرد المنشطر..... ميسلون هادي..في (جانو أنت حياتي)
-
تأزيم المعنى / قراءة جانبية ..(الموجز في الإهانة) برنار نويل
-
شجرة المانيوليا مريم مشتاوي ... في رواياتها الثلاث
-
شهادة قارىء
-
تنامي المؤثرات الحسية والنفسية في (الأرق استراحة النوم) للشا
...
-
توقيع الزبرجد..في (دكة مكة) للروائي زيد عمران
-
فلاح رحيم / فوزي كريم
-
الشاعر مجيد الموسوي يوقد شمعة الأربعين.. في اتحاد أدباء البص
...
-
صلاح شلوان : نسيان الخيط
-
تكليم النص...(وحدي أثرثر في المتاهة) للشاعر عدنان محسن
-
جورج يرق : يحرس الموتى ويطرّز أنسجة السرد
-
الزرقاء العاقر
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|