|
رفات حلم
سامية غشير
الحوار المتمدن-العدد: 5929 - 2018 / 7 / 10 - 15:50
المحور:
الادب والفن
هي الأرض الجريحة تتلذّذ بتعذيب أبنائها و ترتوي من أنهار دمائهم، قررت فجأة أن تكمل تفاصيل نهاياتهم التراجيديّة، لتخطّ على تضاريس ترابها رسائل اللّقاء الأخير. كان المهندس " أحمد" يعيش في مدينة حلب السّورية، مع أسرته الصّغيرة و أحبته في أمن و حرّية يتنعمّ بحفيف أغاني الشّجر و المحراث و صوت القمر الذّي ينشد كلّ ليلة أناشيد الحلم الفتي. كانت قناديل السّعادة تضيء حياتهم الحسناء، و كانت شموع السّلام موقدة في محراب الحبّ الجميل الذّي زيّن حياته هو و زوجته الفاتنة " بلقيس" و ثمرة حبّهما "سيف الدين" ذهب "أحمد" كعادته إلى العمل، و كانت " بلقيس" تحضّر له مفاجأة جميلة جدّا، أشعلت عبق البهجة و نثرت عطر المحبّة في بيتهما الزّمردي الذّي كان ينتشي كلّ يوم بأغاني الزّمن الجميل " اعطيني النّاي و غنّي فالغناء سرّ الوجود" لفيروز. اقتنت بعض الشراشيف الجديدة لتزف بيتها من جديد، نظرت إلى عقارب الزّمن فرأتها تقترب في دلع جريء، انتابتها رعشة قويّة و نادت مفزعة: أحمد... أحمد...و فجأة وصل أحمد قاطعا صراخها الذّي هزّ أرجاء المكان قائلا: أنا هنا حبيبتي، أنا هنا يا منايا.... عادت السّعادة من جديد لتسكن عينيها الزرقاء التي تراءتا كبحر صاخب تراقصت أمواجه على نغمات الأصيل الشّجي. قالت له: حبيبي، كلّ عام و أنت بخير ملأ الزّهو قلب " فؤاد" النّدي و قال لها: ظننتك نسيت تاريخ ميلادي. قاطعته قائلة: مستحيل أن أنس تاريخا سكنت إليه يوما ما. تقدّم نحوها " أحمد" و هو ينثر رسائل فرحه، كلّ عام و أنت فراشة عمري، ريحانة فؤادي، حلمي الشّذي ثمّ أنشدها قصيدة معطرة بدفء التوقدّ و عبق التودّد. تسافر بنا الحياة إلى شواطئ حلم فأرتاد محطّات العبور و أقطف من شفتيك أغنيّة تحملني للأمنيات و أبحر في عنفوان عيناك الشذّي فأصير شهريار الحكايات و تمنحيني قبلة مسائية فارتحل إلى تضاريس الغوايات و بينما هما يستمتعان بتلك اللّحظات المتجليّة بنور العشق و تلك المشاعر الطّوفانيّة التي تدلت تغتسل حدائق حلمهما، فجأة تدفق من التّلفاز صوت هارب انفجر يعبر مواطن خلوتهما المنصهرة في ماء مفاتن اللّيالي، إنّها القيامة، إنّها الحرب. لقد اشتعلت الحرب الأهليّة و عمّت أرجاء المدينة التي وهبت جسدها لغوايات النيران و الدّماء. نظر الزّوج إلى زوجته و هو يهمس في أذنها: لن تكون هذه نهاية قصّة حكايتنا.............. كان صراخ " سيف الدّين" يملأ المكان، نظر إليه والده قائلا لزوجته: ما ذنب هذا الولد البريء؟ ما ذنبه أن يعيش وسط كومة من الخراب و الهلاك، يجب أن نلّم شتات أحلامنا و نركب قاربا آخرا قادرا أن يمنحنا تذكرة الوصول إلى أحلامنا المطرزّة التي نسجناها على دفاتر حياتنا. جمعت العائلة رفات ذكرياتها الجميلة و الأليمة و غادرت تلك الأرض، نظروا في حيرة و شوق إلى أرضهم ثم مدّ " أحمد" يده إلى الأرض و أخذ يتلمس ترابها لعلّهها تمنحه حنانا حريريا و تمنعه من الرّحيل، لكنّه شعر بالجفاء، نظر إليها ناثرا على مقبرتها آخر تعاويذ عشق كتبها. كنت عاشقا يهرب إليك من أزمنة الفناء يرتحل بين جغرافيتك الهيفاء كان يغتسل بقبل الوفاء و يتعطّر بأزهار الكبرياء كان يبحر في تجاويفك الضيّاء كنت أتراقص كفراشة حسناء على مقطوعات الألق و الوفاء لكن فجأة قذفتني إلى مدائن الجفاء مواسم الزّهو غادرتني و مرافئ الحلم هجرتني سأحمل شتات روحي و بوحي و حلم تدلّل على حروف السّناء كانت هذه آخر رسالة " أحمد" الأخيرة: الآن سأغادرك أيّتها الأرض العرجاء، سأغادر ضفافك الموجعة التي استعمرتني بحماقات الخيبات، لن أنكسر، لن ننكسر... كان " سيف الدّين" صاحب الثلاث سنوات من عمره ينظر إلى والديه في ذهول شديد و لم يفهم ما يقول والده لكن نظرات عينيه كانت تدرك أنّه في موعد مع الرّحيل الأخير. أرخى اللّيل سدوله على أرجاء أرجاء تلك المدينة، و مدّ كفه للغوايات التي كانت تنبأ برسائل النّهايات ركب أحمد و عائلته زورق الحياة الجديدة بعد أن منح للبحر معاهدة بالسّفر، ضحك البحر و ارتفعت ضحكاته تملأ المكان و فجأة تغيّرت ملامحه و أضحت شاحبة حزينة، حيث احتلته التجاعيد السّمراء فكان ذلك يوحي بهشاشات الرّحيل. تنهدّ " أحمد" بقوّة و نظر إلى السّماء و كأنّه يريد أن يغازل نجومها لآخر مرّة، كان يريد أن يسمو في الحياة إلى منعرجات الأمل و الحلم، كان يريد أن يعبر مسافات الحروف المتقدّة ليخطّ على تراتيل فؤاده قصيدة عشقه للحياة. نظرت إليه زوجته و قالت: لا تجزع يا " أحمد"، سنعود يوما إلى هذه التضاريس الحزينة التي لطالما علمتنا دروس الأمل و الوصال و العطاء، سنبني آخر جسور للحياة في أرضنا الغرّاء، لا تجزع ستتحسّن الأمور و تعود البهجة تغزو ضفاف سوريا الجريحة. نام " أحمد" و هو يحتضن زوجته " بلقيس" و ابنهما " سيف الدّين" و هو يحكي لهما آخر حكايات أحلامهم الزّهريّة، و همسات الوفاء و الشّذى و الجوى ينثرها مرّة على مرّة، و كانت الأمواج تتراقص على نايات الوصال، و قبل أن ينام تكلّم آخر جملة " لن أنساك أيّتها الشّواطئ الحسناء، فقد منحتني نفحات حلمي الجميل." تسارعت اللّحظات و تناحرت فيما بينها في صمت طائش و أعلنت السّاعة دقاتها الأخيرة، لقد وصل الزّورق إلى شواطئ سردينيا، لكن البحر قرّر أن يكمل آخر أطوار الحكاية، همس في جرأة شديدة: أحببت تلك الأرواح الجميلة، كنت أغار من شلّالات الوصال المتدفقة في كبرياء و التي كانت تنفجر على جغرافيّة تلك العيون الزمرديّة. تصاعدت الأمواج بقوّة على شواطئ ذلك البحر غاضبة جدّا معلنة حدادها بعد أن التحفت بالأسود حزنا على فراق تلك الأرواح التي التصقت أجسادها بالأرض مردّدة آخر رسائلها. يأخذني البحر الأزرق فأنام بين أمواجه و زورق الألم يعبث بنا في تيه السؤال الأخير احملينا يا أرض كالوليد في شرنقة الحياة و امنحيني ومض من حلم كان يعزف أوتار مواسم المطر فالهموم الآن انجلت و الدّموع انسكبت و القلب ما عاد يكتحل بالسّواد فرنّة الموت تفجرت على الوريد سنغادر اليوم كطائر العنقاء و سنتجدد يوما لنعيش الضياء بين مراتيجك الهيفاء.
#سامية_غشير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أخاديد الرحيل
-
أسلوب الخط الماتع وتألّق الجمال اليافع في تجربة الفنان الجزا
...
-
دلائليّة الموت ورمزيته في الخطاب الرّوائي الجزائري المعاصر
-
إعادة كتابة التّاريخ أدبيّا.... ما بين التّجريب وتشويه للحقا
...
-
حين تصير كرة القدم همًّا وطنيًّا
-
الأدب والتّسويق الإعلامي
-
تراجع القراءة في عصر التّكنولوجيا
-
التّجربة الشّعريّة أبعادها وخلفياتها الثّقافيّة
-
الارتقاء بالإنسان أوّلًا
-
مواقع التّواصل الاجتماعي... تجارة المشاعر الزّائفة
-
السّينما الهوليوديّة ورهان الخيال العلمي
-
الرّواية العربيّة وفخّ الإيديولوجيّة
-
التّنميّة بين مفهوم تنميّة الإنسان و تنميّة الاقتصاد
-
التراث التاريخي الجزائري مدينة القصبة العتيقة أنموذجا
-
فلسفة الموت في رواية -أشباح المدينة المقتولة- ل -بشير مفتي-
-
فيلم البئر... الانتصار للثّورة الجزائريّة
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|