عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5917 - 2018 / 6 / 28 - 00:32
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إن الخلاصة التي آل إليها الفكر الوجودي وإن لم يعترف بها هو عجز المنهج المادي من إستيعاب القصد الوجودي للموجود الكوني وواجده لأنه في الحقيقة بنى على أجتهاد منحرف عن ذاتية الإنسان التكوينية والتي تعد الممهد الأول والقائمة الأولى التي يرتكز عليه العقل البشري في نشاطه الفكري في عملية الأجتهاد في معرفة القصدية وبالتالي فيكون الأنحراف متوقعا وحتميا طالما أننا لم نكن محيطين بأستحكام تام وهو محال على البشر عن قصدية الوجود ومداه الوجودي في هذا الكون الشاسع اللا محدود والممتد من الجزم بكونه مولود لللاشيء وينتهي إلى أبعد من الشيئية التي يحيط بها العقل من خلال الحس والتجربة العلمية والعملية.
أما الأتجاه الثاني فهو الذي يبدو في حقيقته الظاهرة أنه مناقض للأتجاه المادي بل يزعم المؤمنون به أنه هو المستحكم بالأحاطة والقادر على تفهم القصد الحقيقي للوجود وللنظرية الوجودية بشقيها المادي والمعنوي هذا الاتجاه القائم على تحقير الحياة،وتفريغها من أي معنى وهنا يشعر الإنسان بالغربة في هذا الوجود والعبث،والغثيان،والقلق المؤدي إلى اليأس والقنوط من كون الحياة الوجودية لابد أن تكون لها وجهة وقصد تسير إليه وتمضي بموجب قوانين القصد,هذه الغربة الفكرية ترى في الحياة والوجود ليست إلا توهما غير مستند إلى أرضية واقعية فلابد من أن نجتازها بالكيف والشكل الذي يتلائم مع اللحظة الزمنية وما تتداعى له الضرورة الآنية دون أن يكون للضوابط المدعاة من الأخر المعلوم أو المجهول سلطة على الوعي الوجودي الخاص.
هنا تتجلى الأزمة في أول التصور والتكوين ونحن لازلنا في بدايات التكوين ولم نتجاوز الولادة الفكرية بعد ولم نبسط الأفكار التي قدست الذات والحرية وأهملت الحقائق الكونية الشاملة بما فيها مفهوم الخالق الرب والغيب وسطوة العقل وقدرته على التحكم والتميز لمصلحة الذات الاستثنائية السوبر كما نجدها مثلا عند نيتشه وغيره من الفلاسفة الوجوديين((لقد كتب الكثير حول: »موت الرب في فكر نيتشه « فهو يقول »إن الرب قد مات وسيظل ميتا ونحن الذين قتلناه وموت الرب بمعنى ما يحرر الإنسان لكنه بمعنى آخر,يعبر عن الجانب السوداوي في فلسفة نيتشه,و يؤدي بنا إلى عصر العدميةNihilism ومن ثم فان تأكيد الإنسان لنفسه وإثباته لذاته يقوم على خلفية هي عبارة عن عالم عبثي لا معقول absurd ليس فيه اله,والقانون الذي يحكمه هو قانون العود الأبدي.وكما هي الحال في فلسفة كيركجور , فان فلسفة نيتشه تنتهي بمفارقة Paradox وهي مفارقة نستطيع أن نخمن بأنها أدت إلى دمار الفيلسوف نفسه,لقد كتب أحد شراح نيتشه وهو م. م. بوتسمان M. M. Bozmannيقول: »إن إرادة تمجيد الإرادة, إرادة الإنجاز والانتصار, إرادة أن نقول للحياة: »نعم وآمين مقرونة بعقيدة العود الأبدي الجامدة و بألوان الفشل والعذاب الكثيرة التي عاناها, كانت تسبب لنيتشه في بعض الأحيان, فيما يبدو . آلاما ذهنية رهيبة وفي استطاعتنا أن نقول أن هذه الآلام هي بمعنى ما آلام العصر وقلقه وقد تركزت في الفيلسوف, وهو أيضا ذلك القلق الأساسي المميز للوجودية))( كتاب الوجودية ,من سلسلة عالم المعرفة .جون ماكوري العدد58 ص63,62) .
إذا كان موت الرب وقيمه وأخلاقياته تسبب هذه الآلام وهذا الدمار فالعقل الذي ندعي حاكميه وقدرته بالفكر على صنع الوجود يرفض هذه النتيجة ويرفض انفصاله عن خالقه أي يرفض ادعاء موت الرب لان في الحقيقة وجوده مرتهنا بوجود الرب ارتباط جدليا بين العلة والنتيجة,فلا يكفي أن ندعي موت الرب ولكن ما هو البرهان الوجودي على ذلك فان كان ما قيل عن الآلام والدمار فهو ليس ببرهان وجودي بل هو في حقيقته أزمة إثبات وجودية متصلة بالمدعي ولم تنال من الدعوى شئ.
إذن ما يوصلنا إلى فهم الحقيقة الفكرية وجوهرية القصد هو التعامل مع الفكر على أنه كائن واحد له جزئيات صورية تتكامل من خلال النظر إليها جمعيا نظر تفسيري لكل مكون جزئي وربط الأجزاء بالبناء الهيكلي الكلي وأستخراج روحية البناء الفكري وفق نفس الأسس التي بنيت عليها ركائزها بالتجرد من تسقيط الفهم المسبق لما هو تحت الفحص والبحث وأعتبار أن كلية الفكر ستؤدي حتما إلى بيان ذاتي عن القصد,فالمقدمات تنبئ عن النتائج منطقياً ولكن المشكلة التي ستواجهنا هنا ما هي المقدمات المستعملة للوصول ألى القطع بالمصدرية.
تنوعت المقدمات وحسب الرؤية المفترضة أن تؤدي بنا للكشف عن القصد حسب الأتجاهات الفكرية السائدة في الساحة والتي لديها نظريات تزعم كل واحدة منها ملائمتها للغرض وصلاحيتها للمهمة وحسب براهينها وتجربتها الميدانية المؤمنة بنتائجها السابقة,فقد عد البعض الرجوع إلى البناء المادي الخارجي للفكر أي تحري البناء اللغوي العام والنظام الذي بنيت على أساسه وأستخراج النتائج أما من خلال التفكيك وإعادة البناء ليعيش الباحث والمتلقي نفس الأجواء الفكرية التي صيغت بها النظرية الفكرية وبالتالي يكون قد أقترب أصلا من كيفية تكوين الهيكل اللغوي الخارجي للفكر وخاصة إذا كان الباحث متمكنا من اللغة الأصلية وأدواتها التي كتبت وصيغت فيها النظرية وهذا هو المنهج اللغوي في التفسير والتأويل حسب مقتضيات البلاغة والبناء الناظم للغة.
فالمنهج اللغوي قد أثبت قدرته على فهم النصوص اللغوية المعبرة عن روح الفكرة من خلال أستعمال الوسائل اللغوية المعتادة والأساليب المألوفة في عملية الفهم والأدراك,ولكنها من المؤكد لا يمكنها الأحاطة بالمعاني من خلال فهم امعاني فحسب فالتفسير اللغوي يتعامل مع جمادات مادية بنائية ولم يقترب من الروح الفكري وإن حاول أن يستشف من خلال البناء روحية النص وقد ينجح بحدود ما وقد يفشل وذلك أستنادا إلى قربه الفكري من النظرية ومنطلقاتها وبعدها عنه كما قد ينجح أو يفشل بالقدر الذي يتجرد فيه من أسقاط المسبقات الفكرية المتجذره في ضميره الفكري ومحاولة لي عنق النصوص لتتلائم مع مقدماته الفكرية وأسقاطاته العقدية,كما حدث في الكثير من المناسبات وخاصة في محاولة فهم النصوص الرسالية والدينية .
كما أن هناك المنهج فلسفي الذي يتناول الفكر وفهمه بما فيه القصدية ونحن إذ نرده هنا ليس على سبيل الحصر وإنما على سبيل المثال في سرد مناهج المعرفة وغاياتها للكشف عن الوعي بالفكر,وهذا المنهج هو المنهج الشكي القائم بعدم التسليم بالحقائق الفكرية إلا من خلال تفكيكها وإعادة صياغة الفهم والقطع مستندة إلى حقيقة أن كل الوجود الفكري قد يكون وهما أو خيالا غير قابل للتصديق ما لم يمتحن بقواعد تؤكد مصداقيته وقدرته على الأثبات ,ومن خلال هذه العملية التشككية يستطيع المتلقي والباحث الآستدلال على القصد والغائية بدلالة التجربة ومؤدياتها ونتائجها ,فمثلا من يركب قطار متجة إلى جهة ما وهو لا يعرف حقيقة غاية الوجه عليه أن يشك أصلا في الظواهر التي تنبئ بسير القطار ما لم تمتحن بتجربة الركوب والكشف عن القصد والهدف من خلال الممارسة العملية فهو لا يقتنع بتحديد عام مثل تحديد وجهة الشمال والجنوب مثلا مالم يتأكد بوسائله العملية وبمقدماته الثابتة المبنية على اليقين أن أتجاه القطار في الوجه المعينة((الشك هو خطوة التأمل الفلسفي الأولى والأساسية عند ديكارت،وهو السبيل الأمثل للوصول إلى اليقين،إذ يقول:"الشك خطوة ضرورية لا بد من اتخاذها فخبرتي بالخطأ وتعرضي له منذ عهد بعيد واحتمال تجدده بفعل تلك الأحكام التي خضعت لها ولم أتبين صحتها،سواء كانت أحكاماً فرضها الغير،من معلمين،أو مرشدين،أو من وكّل إليهم أمري،أم أحكاماً فرضها عليّ الحس أو الخيال-وتعرضها للخطأ معروف- إن كل هذا يدعوني إلى الشك))( ديكارت، د.نجيب بلدي، (ص88).نقلاً عن مقدمة مبادئ الفلسفة ص424.).
من خلال هذه النصوص يمكن القول إن الشك عند ديكارت يختلف عن الشك الذي كان سائداً قبل عصره، فالشك عند ديكارت هو شك مؤقت يقوم على عدم التسليم بالبناء الخارجي الهيكلي اللغوي لان فيه أحتمالية تعرضه لما هو غير حقيقي في الصياغة أو في الدلالة وكلاهما يولد عنده سببا كافيا لعدم القبول بما نقل إليه،فهو يدعو إلى التفكيك والمقايسة بما أستقر في يقينه هو لا ما في يقين اللغة ومن ثم يتم أعادة النظر في النتائج ومقارنتها بالمسلم الأولي,فلديه مُسَلَمَين الأول مُسَلَم اللغة وحصيلتها وهذا مشكوك فيه والمسلم الثاني هو المقارن وفق حقائق ديكارت ذاته ويقينه وهو المعتمد عليه ومن ثم المقارنة والتطبيق للكشف عن القصدية ومداها,فيكون الشك عند ديكارت شك متعلق بالحولية وليس بذات الفكر ،في حين أن الشك عند من سبقه هو الشك المطلق كما هو عند"مونتني" وفلاسفة إيطاليا في القرن السادس عشر نتيجة إعادة إحياء تراث اليونان وتغيير خريطة العالم.
فالشك في المرحلة السابقة على فكر ديكارت جمّد العلم، وأضعف من شأنه، في حين أن منهج الشك الديكارتي ردّ إلى العقل احترامه،إذ أن الشك الديكارتي شك إرادي يصطنعه،وهو مؤقت،لأنه يظل مستمراً حتى يتيقن الإنسان من أن أفكاره قد بلغت حداً فائقاً في الدقة واليقين،وأنه لا يلابسها أدنى شك.
إن المنهج الشكي وإن أعطى للعقل مساحة واسعة وحرية تناسب مع ضرورة التيقن إلا أنه أغفل حقيقة قصر العقل الأحاطة والأستحكام بالما حولية هذا من جهة وتجاهل الأختلافات التي يؤدي إليها التسليم بكون العقل البشري يسير وفق نمطية محددة واحدة عند كل البشر وهذا ما يخالف النسبية في التعاطي مع الأشياء بناءً على مفهوم الثابت والمتغير الكوني والفكري والمعرفي وبذلك خالفنا قاعدة بديهية من القواعد العقلية,بذلك يكون قد حكمنا على العقل بالتناقض بين مسلماته الأولية بعضها مع البعض الأخر بالرغم من تسليمنا جميعا بوحدتها وهذا وحده كاف لرفض مبدأ الشك الديكارتي في الكشف عن المصدرية وخاصة مع كون العامل الزمن والمكاني المحدد لتكرار التجارب والأمتحانات لبيان اليقين الفكري عن المقاصد والمنطلقات نفسها.
كما لا تسلم الفلسفة والعلم المجرد المادي ولا التأملات التي تنطلق من فضاءات الأستجابة للحاجات والمتطلبات البشرية بقواعدها هي في الكشف عن حقيقة مصدرية الأفكار والنظريات الفكرية,لم تسلم النظريات التفسيرية المبنية على فهم النظام اللغوي أو التفكيك البنائي للمفردات ولا حتى المنهجية القائمة على التوسل بقواعد منهجية تتمثل بأستحضار قواعد متفق عليها من خلال التراكم المعرفي والمروث الذي ثبت صلاحه في مراحل سابقة ونجح في الكشف عن غايات الفكر ومقاصده الكلية, فاعتماد المنهج الاستقرائي والإحتمال والقياس في إكتشاف المعارف الفكرية،كما هو المنهج المعتمد لديهم في الأبحاث التجريبية والماديةوبذا اعتمدوا منهجاً علمياً واحداً في حقول المعرفة الإلهية والإنسانية والمادية معاً. ويشكِّل هذا المنهج عنصراً هامّاً من عناصر بناء العقل المسلم،وتحقيق علميته مع ملاحظة أن التطور والتحديث والتجديد قد يفرض شروطا مغايرة تماما للمنهج وأستحقاقاته لاسيما إذا كانت أساسيات الأستقراء والقياس والأحتمال غير منضبطة باليقين ولذلك فأن التعامل معها يؤدي إلى مخارج مختلفة متشعبة كعلة المناهج التي سبقته.
فلازال الأشكال موجودا مع جميع المناهج الكشفية سواء أكانت علمية أو وجودية أو تأملية أو بنائية وبالرغم من كل الأنجازات الفكرية والمعرفية لازال الأنسان يدور حول ذات المركزية التي أنطلق منها أول مرة ولم يتبلور له وعي يقيني تام وهو يحاول الكشف عن نشاط فكري إنساني محدود,فكيف به وهو ينتقل للدائرة الأوسع وهو الفكر الرسالي الألهي وما يتصف به من شمولية تامة وأحاطة مستحكمة فلا بد أن تكون الشقة أوسع بينه وبين الفهم الضروري على أقل تقدير للمقصد الفكري لهذا الفكر الثر الكامل المتكامل مع حقائق وخصائص يتمتع بها دون غيره من الأفكار الإنسانية والنظريات الفكرية الوضعية.
تبقى مسألة الكشف عن الهدفية من الفكر وبيان قصديته في أطارها الحقيقي مصدر أشكال معرفي وفكري مقترن بالعجز عن بلوغه وخاصة فيما يتعلق منه بالفكر الديني والإيماني طالما نبتعد بأدواتنا عن نفس المحددات والتي نشأت به وله ولنفس الضروريات,هذا الابتعاد هو لب المشكل وجوهر الازمة,به ومنه يمك أن نصل للمطلوب وبخلافه أو التجاوز عليها نبتعد ونتغرب عن فهم الفكر الرسالي الإيماني.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟