|
بيت الكلاب
حسام الدين مصطفى جودة
الحوار المتمدن-العدد: 5910 - 2018 / 6 / 21 - 02:10
المحور:
الادب والفن
(1) البداية كانت هناك. ضاحية شعبية على أطراف المدينة، تبدو للمار بسيارته على الطريق الفاصل بينها وبين الضاحية الراقية المقابلة، وكأنها وجدت في المكان الخطأ. أو ربما تكون الضاحية الراقية هي التي تواجدت في المكان الخطأ، لا أحد يستطيع الجزم. فالأوضاع التي انقلبت رأساً على عقب في الأعوام الثمانين الماضية، تجعلك تتسائل. هل كان عبد المنعم باشا، كبير إقطاعيي المنطقة، يتصور أن الجزء الشمالي البائر من أرضه، التي حولها إلى مشتل للورد، يمكن أن يصبح أكثر حظاً، من جزءها الجنوبي الأكثر خصوبة، ببئره القديمة و قربه الكبير من ترعة الري. لم يكن ذلك الإقطاعي الكهل يتصل بالأحداث السياسية رغم متابعته المكثفة لها. ولم تكن مفاجأة له عندما علم أن محمد ابن خولي عزبة الورد الذي نجح في دخول الكلية الحربية، انضم لمن عرفوا فيما بعد بالضباط الأحرار، الذين أزاحوا الملك عن الحكم. وصل محمد إلى عزبة الباشا، تلتمع على كتفه نجوم الميري، وسط رتل من العربات العسكرية، وأنذر الباشا بإخلاء العزبة التي تم تأميمها. حاول حامد بك إبن الباشا المقاومة، ولكن نظرة من الكهل أخرسته. ثم طلب من الضابط ورجاله النزول في ضيافته حتى الصباح، ريثما تستعد الأسرة للرحيل. رفض الضابط الشاب عرض الباشا، وأنذرهم أن القصر والأرض وباقي أطيان العزبة، هي أملاك أميرية (حكومية) بداية من الآن، وأنه وفرقته العسكرية سيبيتون في أملاك الحكومة، وأن على الباشا وأسرته تقديم الخدمة لهم، أمراً لا فضلاً. كان حامد بك يدرك أن لدى أبيه الباشا مايخفيه. ولهذا ابتلع غضبه الذي تعالى، مع التعالي المقصود الذي عامله به الضابط محمد، منادياً إياه باسمه مجرداً دون ألقاب. وعلى طرف فراش الباشا جلس حامد يستمع إلى خطة أبيه، الذي استطاع بدهاء كبير بيع العزبة كاملة، بكل ما عليها من أبنية وزراعات، إلى منافسه اللدود في تجارة القطن وجيه باشا. وحصل ثمنها على ألف سبيكة ذهبية من الحجم الصغير، على أن يكون التسليم في نهاية الموسم قبل جني الورد. وهو ما اعتبره وجيه باشا، الذي كان يحلم بغزو أسواق الورد والعطور في فرنسا، صفقة رابحة. وفي جنح الظلام، حمل اثنان من الخدم زكيبة هائلة الوزن، ليضعاها على ظهر حصان قوي. وركب حامد بك حصاناً آخر، وانطلق معه أحد خادميه باتجاه البئر القديمة. ولم يفهم الخادم صديق، وربما لم يحاول فهم سر إصرار البك إبن الباشا على إلقاء الزكيبة الثقيلة في البئر القديمة. كل ما استطاع استيعابه هو وعد البك بتمليكه تلك الأفدنة الخمس المحيطة بالبئر بشرط واحد. أن يلتقيا بعد ثلاثة أعوام هنا في هذه النقطة، يساعده الخادم في استخراج الزكيبة، ويمنحه البك صك الملكية. كان الباشا وأسرته، كغالبية أعيان ذلك الزمن، يتصورون أن حركة الضباط هذه لن تدوم طويلاً. وأن الأعيان الآخرين لن يسكتوا على نزع أملاكهم بهذه الطريقة. وهرب كل منهم آملاً أن يجرؤ الآخرون على ماجَبُنَ هو عن فعله. وكانت هذه هي خطة الباشا. وقف ينتظر ولده العائد من عند البئر القديمة، بعد جمع كل الذهب والنقد الموجود في السراي. وخرج ليقابله عند تقاطع الترعة، مع بحر "مويس"، الذي يعتقد القرويون ببركته، لأنه، وحسب قولهم، من حمى النبي موسى من الغرق، بعد أن وضعته فيه أمه خوفاً من بطش جند فرعون. وتحرك الركب الصغير على ستة أفراس وخمسة حمير، آملين الوصول إلى منطقة "منية القمح" قبل طلوع النهار. وجن جنون الضابط الشاب عندما علم أنه وقع ضحية خدعة من الباشا الكهل. فجمع كل خدم السراي لاستجوابهم. لم تكن هناك حصيلة وافية من المعلومات. مع رحيل صديق بصحبة الباشا وأسرته. وعندما حاول الاتصال بالقيادة في القاهرة، اكتشف أن سلك الهاتف تمت إزالته بفعل فاعل. لم يكن هذا ليوقف الضابط المدرب. فجمع بمساعدة والده كل فلاحي العزبة، ووقف فيهم خطيباً. كانوا يعرفونه في غالبيتهم، وبعضهم يروي مواقف حدثت له وهو بعد طفل صغير. وقف فيهم وشد عزيمتهم، وبشرهم بفرج قد حل، وقيد قد زال، وخير عميم قادم. لم يدهشه ذلك الفتور الذي استقبلوا به البشارة، فهو منهم، ويعرف كيف يفكر الفلاحون. ولم يتوقف هو عند رد فعلهم. فاصطحب أبرعهم في اقتفاء الأثر، وانطلقوا جميعاً في أثر الركب الذي اختفى. لم يكن الضابط محمد، الذي سميت المنطقة فيما بعد بعزبة محمد بك الخولي على اسمه، يثق كثيراً بحسب النبي الفلاح الذي اصطحبه، وكان يدقق في كل معلومة يذكرها. ولكن حسب النبي كان أميناً في إرشاداته بالفعل. سار الركب على آثار الباشا وأسرته، حتى أدركوهم قبل أن يصلوا إلى "منية القمح". كانت مفاجأة كبيرة، بعد أن أحاطت السيارات بالجميع. ولكن المفاجأة كانت من نصيب الفرقة العسكرية، بعد أن اكتشفوا الكمين الذي خططه الباشا العجوز لهم. كان عبدالمنعم باشا قد اتفق مع أبناء عمومته على انتظاره قريباً من أطيانهم في "منية القمح"، وأخطرهم باحتمالية وجود مواجهة مسلحة. ولهذا، وقف الباشا وولده حامد ينظرون إلى الرتل العسكري بتعالٍ مقصود، مطالباً إياهم بتسليم أنفسهم وسلاحهم. لم يكن محمد الخولي من تلك الشخصيات التي يمكن أن تستسلم بسهولة، وكان يدرك أيضاً مدى التجهيز القتالي لجنوده. دارت معركة شرسة، سقط في بدايتها الدليل حسب النبي بطلقة طائشة. وأصيب الضابط في المعركة، وخسر عدداً من جنوده. بينما أبيدت عائلة الباشا وأبناء عمومته بالكامل. لم يبق منها إلا حامد بك الذي تستر داخل حظيرة كبيرة، بصحبة خادمه صديق، واستمر في تبادل النيران مع الجنود. وبعد أن لاحت بوادر الهزيمة لصديق، بادر بالجري بعيداً عن سيده حامد بك، الذي التفت إليه غاضباً، وأرداه بطلقة في ظهره. ولكنها كانت غلطة عمره الكبرى، حيث أرداه أحد الجنود بطلقة صائبة، بعد أن انكشف موقعه وهو يطارد صديق.
(2) سنوات كثيرة قضاها في السعودية. كان مدرساً للرياضيات، أرهقته كتيراً عقول الصبية الذين يعشقون كرة القدم، أكثر من تمارين العقل. قادماً من قريته على حدود المنصورة، مباشرة إلى مدرسة مدينة جنوبية صغيرة حديثة الإنشاء، اسمها وادي الدواسر. عشر سنوات قضاها، وهو يرسل النفقة لأبيه الذي يعشق شراء الأرض، وإلى زوجته وأبناءه الستة، وهو يتطلع إلى ملامحهم التي تتبدل في الصور عاماً بعد عام. عشرة أعوامٍ ذُوِيَ فيها جمال الزوجة، و تَفَتَّحَ فيها جمال البنات. الكبرى في الثانوية العامة، وقد بدأ خطابها يطرقون الباب. الوسطى استهلت المرحلة الثانوية بملحقين أحدهما في مادة الرياضيات. في حين تبدو علامات النبوغ على الصغرى التي كانت من العشرة الأوائل في الثاني الإعدادي. "إرجع يا شعبان كفاية كدة، الشيلة بقت تقيلة عليا. البنات أنا أقطم رقبتهم، لكن الصبيان الثلاثة عفاريت. لا أبوك ولا أخوك قادرين عليهم. هم صحيح في اعدادي التلاتة، بس المرة اللي فاتت أبوك بيضرب الواد خالد، راح ماسك إيده وقاله انت تضربني بتاع إيه هو أنا ماليش أب، ومن ساعتها أبوك راقد عيان." وكان هذا أكبر من احتمال شعبان. لامه الكثير من زملاء الغربة بسبب قرار العودة. سألوه: ماذا ستفعل عندما تنفذ "تحويشة العمر"، وطلبات الأولاد التي تتزايد مع الانخفاض المستمر لقيمة العملة. وسألهم: وماذا سأفعل إذا مات أبي ولم أره منذ خمس سنوات، أو هرب أحد أولادي ولم أستطع العثور عليه. سجالات دارت بين المعسكرين دون أن يفلح أحدهما في ضم الآخر. ومات الأب مع مطلع التسعينيات، ووقف شعبان وشقيقه لتلقي العزاء في أول طريق عزبة الخولي حيث بيت العائلة. لم يكن شقيق شعبان الأصغر من هواة الأرض. كان دوماً أبعد مايكون عن حديث الزرع والقلع، وحساب الأرض و الأفدنة. ولهذا لم يواجه شعبان معارضة من شقيقه عندما عرض عليه إدارة نصيبه في أرضهما المشتركة. ومع منتصف التسعينيات نجح بعد جهد في الحصول على فيزا إلى هولندا، وباع نصيبه لأخيه ورحل، بعد أن وعد خالد ابن أخيه، الذي فصل من المدرسة بعد أن فشل في الحصول على الثانوية العامة أكثر من مرة، أن يرسل إليه فيزا ليلحق به. وظهر ناصر العرباوي في العزبة، وتردد بين قاطنيها، حكايات حول الأعمال السفلية و السحر الأسود الذي يمارسه. وصاحب ظهوره أزمة كبرى ألمت بشعبان. في ذلك الوقت كان خالد قد التحق بمعهد أمناء الشرطة، بعد أن حول له والده مساره التعليمي، ليحصل على دبلوم فني. بينما دخل شقيقه الأوسط محمد شعبة اللغة العربية في كلية الآداب، وحصل سمير الأصغر على مكان في كلية التجارة. وانشغل كل منهم عن أبيه، الذي فوجئ ذات ليلة بالعرباوي القادم من غزة، يضع متاعه ويده على نصف مساحة الأرض التي يملكها شعبان، تحت مزاعم الميراث القديم.
(3)
بين المحاكم والصراع والمشاجرات التي وصلت لاستخدام الأسلحة البيضاء، وبين مجالس الصلح العرفية، مرت السنوات الخمس التالية على العزبة التي ازدحمت بالسكان. كان ناصر شعلان الشهير بـ "العرباوي" يحوز بوضع اليد مايزيد عن نصف مساحة أرض البئر القديمة، التي دفنت مع المصرف المجاور خلال الإصلاحات التي قامت بها وزارة الري مع بدايات الانفتاح الاقتصادي، من أجل تحويل المنطقة إلى منطقة استثمارات، تدر دخلاً على المحافظة. أما الجزء الباقي من الأرض فقد بنى شعبان عليها بيتاً من خمسة طوابق. شغل هو أحدها، ومنح كل ابن له شقة على مساحة البيت، وقسم الطابقين الأخيرين إلى أربعة شقق، تم استئجارها فيما بعد. وفي واحدة من جلسات الصلح تلك، طرح العرباوي فكرة لحل النزاع. اقترح أن يتزوج أحد أبناء شعبان إحدى بناته الأربع، ليختلط الزيت والدقيق و ينتجا صلحاً ينهي النزاع. وكانت مساجلة حامية بين الأب وأبناءه الثلاثة. خالد الذي تسلم تكليفه بعد التخرج من معهد أمناء الشرطة، في معهد تدريب كلاب الأمن والحراسة التابع لوزارة الداخلية، رفض الاقتران بابنة العرباوي رغم جمالها. بينما قبل محمد الذي عمل مصححاً لغوياً بإحدى الصحف القومية بالزواج منها، بعد أن رفض شقيقه الأصغر سمير. وبالفعل تم الزواج بسرعة كبيرة، وتكفل العرباوي بتأثيث شقة الزوجية لابنته بالكامل، أملاً منه في أن يحسم النسب، مافشلت فيه الأوراق الرسمية. ولكن العزبة ظلت ولسنوات طويلة، تتحدث عن النحس الذي أصاب بيت شعبان بعد هذه الزيجة. كانت بوادر الحمل قد بدأت في الظهور على فتحية ابنة ناصر العرباوي، عندما نزلت ذات نهار إلى بيت أم خالد حماتها، لمساعدتها في شؤونها كالمعتاد، خلال فترات غياب زوجها في القاهرة. الشتاء الذي استخدم أقوى أسلحته، دفع الجميع لإغلاق الأبواب والنوافذ، والانكماش أسفل الأغطية والملابس الثقيلة. كانت الكهرباء مقطوعة في هذا الوقت من النهار، الأمر الذي دفعها للطرق بيدها على الباب. لم يكن هناك من يجيب، مع خلو البيت من الرجال، خالد وزوجها يبيتان في عملهما، وسمير تشاجر مع والده الليلة الماضية، وذهب ليبيت في بيت شقيقته. ولكن رائحة غاز البوتاجاز التي تسربت إلى أنفها أصابتها بالرعب، وجعلتها تطرق الباب بكل قوتها وتنادي على أم خالد.
(4)
مرت أيام العزاء ثقيلة على الأشقاء الستة. وانقضى الشهر الأول بعده في استكمال أوراق الوفاة والميراث. لم تنقطع العزبة عن الحديث، تلوك سيرة العائلة. تمتدح العرباوي علناً لمواقفه في مساعدة زوج ابنته و أشقاءه في تحمل المصاب. و تلعنه وتلعن نسبه مع شعبان سراً، مؤكدين أن الشؤم الذي أصاب العائلة هو مصدره، وأن سحره وأعماله السفلية هي التي أطلقت الغاز على شعبان وزوجته، و أردتهما قتلى. لم تصل هذه الأقاويل، كعادة أخبار النميمة التي يلوكها الفلاحون في جلسات الشيشة الليلية، وأمام أفران الخبز، إلى أحد من الأبناء، أو حتى إلى العرباوي. لم يكن أحد ليجرؤ على فتح الحديث الذي حسمه الطب الشرعي، عندما قرر أن الوفاة حدثت بين الثانية عشرة ليلاً والرابعة صباحاً، بعد أن قامت أم خالد لتعد كوباً من الشاي على البوتاجاز، ونسيته على النار. وفار الشاى وأطفأ النار، ليطلق الغاز الذي فتك بها وبزوجها. وتباعدت المسافات بين الأشقاء، بعد أن حصلت الفتيات على نصيبهن الشرعي من الميراث، ورحلت كل منهن إلى زوجها. وبقي البيت نصيباً للذكور الثلاثة. ولم تكن هذه هي الأزمة الحقيقية التي شغلت الأشقاء. كانت الأزمة في خالد المهدد بالطرد من عمله، بسبب قضية اتهم فيها. وخالد الذي كان قد عين في مدرسة كلاب الأمن والحراسة بالقاهرة، كان واضح الاهتمام بالكلاب وأنواعها، لدرجة أنه كان يطلب من سمير مساعدته في البحث عن كل المعلومات حولها على الإنترنت. كما توسعت صداقاته مع تجار الحيوانات الأليفة. وأصبح أكثر إلماماً بطعامها، وطرق تكاثرها، و أمراضها وعلاجاتها. وكان ميلاد الكلبة زيزي حدثاً استثائياً في حياة خالد. والكلبة زيزي واحدة من جراء عشرة، تزامن ميلادهم مع وفاة شعبان وزوجته. ولكن زيزي كانت مميزة. حيث كانت مولوداً أصيلاً لكلبين من فصيلة الدوبرمان، وولد معها توأمين ذكور من نفس الأم. وفي ليلة العزاء اختفت زيزي من حظيرة الكلاب حديثة الولادة، وانقلبت إدارة المعهد الأمني للبحث عنها دون جدوى. لم يشك أحد في البداية في خالد الذي تزامنت وفاة والديه مع الحادث، ولكن التحريات الشرطية، التي أجريت داخلياً على الأفراد العاملين في المعهد، أشارت لعلاقة وثيقة بين حارس حظيرة الجراء وخالد، التي وصلت إلى تدخين سجائر الحشيش سوياً. التحقيقات التي أجريت مع الحارس وخالد لم تؤد إلى نتيجة، بعد أن رفض كلاهما الاعتراف بأية صلة لهما باختفاء الكلبة باهظة الثمن. في هذه الأثناء، طلب ناصر العرباوي، عن طريق زوج ابنته محمد شعبان، لقاء الأشقاء الثلاثة. ليخبرهم وصوت قرقرة الشيشة يصنع موسيقى تصويرية للحدث، أن صديقاً له على اتصال بالجن والعالم السفلي، أخبره أن بيتهم هذا يعوم فوق كمية كبيرة من الذهب.
(5)
في جنح الظلام، وعلى خيوط الضوء الشاحبة المنبعثة من لمبة صغيرة، هوت المعاول الثلاثة تحفر بالقرب من أساسات البيت. كان الرجال الثلاثة خالد ومحمد وسمير يشتركون في حلم الحصول على الذهب الموعود. بينما ربط العرباوي طرف جلبابه حول وسطه، يرفع معهم التراب إلى صحن البيت أسفل السلم. كان الحماس قد بدأ في الخفوت مع انتهاء الأسبوع الأول بعد الحفر. وبدأت ألسنة العزبة تلوك حكاية الجن الذي يرشد أبناء شعبان بصحبة العرباوي من أجل الحصول على الكنز. لم يكن أحد من فلاحي العزبة قد عرض عليهم المساعدة، وإن استمروا في المراقبة من بعيد، متصنعين، بخبث قروي كعادتهم، الجهل عند المناقشة المباشرة للموضوع. في اليوم التاسع للحفر وصل إليهم خبر رسمي، أن المحاكمة العسكرية التي عقدت لخالد في محكمة الشرطة، قضت بإحالته للاستيداع، وحرمانه من المعاش لمدة عام، لعدم ثبوت تهمة سرقة الكلبة البوليسية في حقه. الحكم الذي اعتبره محاميه براءة غير مباشرة، حيث أنه لن يضاف إلى صحيفته الجنائية، كما أنه كان سيدخل السجن، إذا ثبتت التهمة بحقه، وهو مالم يحدث. لم يهتم الأشقاء الثلاثة للخبر، مع أحلام الثراء التي داعبت عقولهم. واستمروا في الحفر في الليالي التالية، متجاهلين العيون الفضولية لأهل عزبة الخولي. ولكن اليوم الخامس عشر بعد الحفر، شهد كارثة جديدة. كان الرجال الثلاثة قد صعدوا لأسِرَّتهم مع قدوم الفجر ليحظوا بقدر من الراحة بعد المجهود الشاق طيلة الليل. ولكن مع اقتراب وقت الضحى، فزع الجميع من نومهم مع الارتجاج الشديد الذي شمل العمارة. تصوره الجميع زلزالاً جديداً، أو أحد توابع زلزال 1992. ولكن المشهد في الشارع كان مرعباً. ركض الجميع هاربين، وخاصة سكان الطوابق العليا، ووقفوا يراقبون الهبوط الأرضي الذي حدث أسفل البيت، والذي أدى لميل العمارة إلى الجانب قليلاً، و هبوط الطابق الأرضي لأسفل، لدرجة أن شرفة الطابق الثاني، أصبحت في مستوى الشارع. ذهول أصاب الجميع من هول المنظر غير متوقع الحدوث. ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من العمارة حتى وصول قوات الدفاع المدني ومهندسي الحي. وصدرت توصية من الإدارة الهندسية بالمحافظة بضرورة إخلاء المنزل، حفاظاً على أرواح السكان، وهدمه بمعرفة الجهات المختصة. الأيام التالية كانت أكثر قتامة على الأشقاء الثلاثة. كرهوا أن يبيتوا في بيت شقيقاتهم، بعد أن سمعوا عبارات ساخرة كثيرة من أزواجهن. وانتقل محمد للعيش في بيت حماه، الذي وافق على تأجير شقة بالبيت لخالد وسمير ليقيما بها. أصبح خالد عاطلاً، وانضم إلى شقيقه سمير العاطل منذ سنوات. كان سمير قد بدأ في مسار الالتزام الديني منذ فترة، وبدأ يطارد شقيقه ويلح عليه حتى يطلق لحيته ويلتزم في صلاته. وفي أحد الأيام أخبره أنه حصل على منحة دراسية في المدينة المنورة، لدراسة الحديث النبوي الشريف والعلوم الشرعية. كانت مفاجأة لخالد ومحمد بالطبع، اللذان أدهشهما قبوله في هذه المنحة رغم دراسته للتجارة لا العلوم الشرعية.
(6)
على طاولة جانبية صغيرة، بالبهو الرئيسي لمجلس الشعب، وضع نادل البوفيه بالمجلس فنجاناً من القهوة المضبوطة، أمام النائب الجالس على كرسي الاستراحة الفخم منتظراً مقابلة رئيس المجلس، وهو يطالع مقال محمد شعبان رئيس تحرير الصحيفة القومية الكبرى، وهو ينتقد الخطوات التي اتخذتها حكومة حماس في غزة، ويشيد بالخطوات السياسية للخارجية المصرية تجاه عملية السلام بالشرق الأوسط. ثم يذيل مقاله بشكر خاص للسيد رئيس مجلس الوزراء للموافقة على سفر رجل الأعمال ناصر شعلان والد زوجته لاستكمال علاجه في ألمانيا على نفقة الدولة. طوى الجريدة مبتسماً وهو يتذكر ضربات يد المقشة، التي كان والده الراحل يلهب بها يدي محمد عندما يفشل في استذكار دروس اللغة العربية، أو تحصيل درجات مرتفعة فيها، هو أو سمير شقيقه الأصغر. بينما كان يتعامل معه شخصياً كحالة ميؤوس منها. في ذهنه تذكر وقفة ناصر العرباوي معه ومع أشقاءه. وتلك الشقة التي أجرها لهم بعد الكارثة التي ألمت ببيتهم. كانت حالته النفسية وقتها بالغة السوء، بعد رحيل سمير إلى المدينة المنورة، وانشغال محمد بين عمله ومولوده الجديد، وخلو الشقة عليه. وقتها جلس معه العرباوي وعرض عليه الزواج بصغرى بناته، ليخرج من طور الكآبة الذي أصابه. وخلال حديث خالد تنبه ناصر إلى معلومات خالد الواسعة حول الكلاب وتربيتها. وبدأ خالد في البحث عن تمويل لمشروعه، تواصل مع شقيقه سمير بالسعودية ومع محمد وأقنعهم بأن يقوم بتربية الكلاب في بيت والدهم المنكس، حتى يستفيدوا منه، بعد أن فشلت كل الجهود في إصلاحه. وبالفعل اشترى خالد ذكراً وأنثى من فصيلة "الدوبرمان" التي يحبها، ثم ذكراً وأنثى من فصيلة "الجولدن رود فيلر". بحكم خبرته كان يعلم أن الفصيلة الأولى هي المفضلة في الحراسة، والاستعراض الذي يهوى أبناء الأثرياء ممارسته على بعضهم. أما الفصيلة الثانية فكانت مفضلة بين نساء الطبقات الراقية لشكلها الجميل، و محبتها للعب مع الأطفال. و قسم عمارة والده المنكسة إلى طابق حوله إلى مفرخة، تتم فيه الولادة، ورعاية الجراء. ثم طابق لكل فصيلة. كان يمارس نشاطه، الذي اتسع بسلالات جديدة أصيلة ومهجنة، بشكل احترافي، حتى ينتج حيوانات على مستوى القوة والكفاءة المطلوبين، وفقاً للطريقة التي تعلمها في معهد الكلاب بالداخلية. ولم تقف تلك المشكلات الصغيرة التي أثارها أهالي العزبة عقبة في طريق خالد. لم يهتم بأحاديثهم حول النجاسة التي حلت بالعزبة، بسبب بيت كلابه. بل إنه استعان ببعض الكلاب لإرهاب الأهالي، ومنعهم من قذف نوافذ البيت بالحجارة، أو بالزجاجات الحارقة. وعندما شكا الأهالي للمحافظة، وجاءت الهيئة البيطرية، من أجل إثبات مخالفة، تربية حيوانات في مساكن الآدميين، الأمر الذي يهدد بمشكلات صحية. تدخلت معارفه التي كونها من تجارته، وأنهت المشكلة على الفور. ومع دخول العزبة إلى "كردون المدينة"، بدأ خالد في الاستعداد لدخول مجلس الشعب، وكان له ما أراد بعد أن باع وأشقاءه مزرعة الكلاب لحماه العرباوي صورياً، حتى لا يتهم بإدارة نشاط تجاري غير مرخص. "خالد بيه" انتشله مدير مكتب رئيس المجلس من شروده، داعياً إياه للدخول ومقابلة رئيس المجلس، الذي وقف لتحيته بحرارة، وهو يهنئه على نجاح مشروع القانون الذي تقدم به، والذي يحظر تربية الطيور في مساكن الآدميين خوفاً من انتشار أنفلونزا الطيور، وهو المشروع الذي حصل على موافقة المجلس. ثم دعاه رئيس المجلس إلى عقد قران ابنته قائلاً: - دي دعوة لحضرتك، وأنا بعت دعوة مع موظف مخصوص عشان يأكد على محمد بيه شعبان انه يشرفنا. بس الدعوة دي ياريت تديها للشيخ سمير أخو حضرتك، أنا مش عارف أبعتهاله ازاي. ياريت يشرفنا ويدعي للعروسين. ماتتخيلش ياخالد بيه أنا الحاجة عندي بتحبه قد إيه. دي بتقعد تستنى البرنامج بتاعه على التلفزيون، وتقعد تأمن على الدعاء اللي هو بيدعيه وهو بيعيط في آخر الحلقة. ربنا يكرمه يا خالد بيه والله، ده صورة مشرفة للدعاة الجدد والله. وكتم خالد بقوة ضحكة كادت أن تفلت، فاحمر وجهه بسببها، وهو يصافح رئيس المجلس مغادراً المكتب.
**تمت بحمدالله**
#حسام_الدين_مصطفى_جودة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|