|
قراءة مختصرة في رواية كاهن دورا للروائي عبد العزيز الموسى
عبد السلام أديب
الحوار المتمدن-العدد: 5907 - 2018 / 6 / 18 - 11:54
المحور:
الادب والفن
رواية كاهن دورا هي تاسع رواية مطبوعة للروائي السوري الكبير عبد العزيز الموسى(1). ونظرا لجهلي بمضمون الروايات الأخرى للكاتب، فيصعب على رسم الأسلوب السردي المعتاد للروائي ولأدواته الإبداعية والجمالية التي يستعملها عادة في كتاباته، بالإضافة الى عدم توفري على نموذج روائي آخر للكاتب حتى أتمكن من مقارنة المضامين واستخلاص الموحد منها والمختلف، لذلك أنطلق من قراءتي لرواية كاهن دورا، من أجل ابداء وجهة نظري حول هذا العمل الروائي بحد ذاته.
تتضمن هذه الرواية 182 صفحة لم يضع لها الكاتب عناوين، وتدور أحداثها في قرية سورية نائية توجد على تل عال وتحيط بها آثار آشورية قديمة، ومغارات وأقبية ودهاليز مهجورة لذلك سميت بخربة عواد، وعواد هدا سكن المنطقة خلال عدة عقود سابقة، بينما تحيط بهذه الخربة سهول وبرية شاسعة. ويدفعك الكاتب إلى أن تعيش أحداث الرواية بين اليقظة والحلم، فإذا كانت اليقظة تعبر عن واقع القرية الحالي بشخصيات رجالها ونسائها واطفالها، فإن الحلم يعيد القارئ نحو مشاهد وصور لساكنة نفس المكان منذ الفي سنة، حينما كان أهلها مسيحيين وتضم معبدا مسيحيا يديره كاهن يقوم بمهمة الوساطة بين أرواح سكانها وإرادة الرب.
وإذا كان الكاتب يأخذك منذ بداية الرواية في رحلة استطلاعية لجغرافية المكان وجماليتها، فهو لن يعرفك على شخصيات الرواية دفعة واحدة، بل يتركك تتعرف على طبيعة هذه الشخصيات وأسرارها بشكل تدريجي تصاعدي، تجعلك تتساءل مع الكاتب عن الغاز سلوكيات شخصياته الروائية. ومع تقدم سيرورة الرواية، يعود بك الكاتب نحو تلك المشاهد المستخلصة من الحلم أو ما يشبه الحلم، حول امرأة تسمى دورا، حسناء ذات عينان سوداوان أشوريتان وملامح حزينة باستمرار، وحول زوجها العاجز نتيجة عتره في درج المعبد، والملقى في ركن من الغرفة، وباسو ذلك الشاب القروي الوسيم متعهد الزريبة الذي يخفي حبه لدورا، ثم دورتي والدة دورا وأخيرا الكاهن الذي يتردد على البيت أكثر مما يتردد على بيوت أهل القرية الآخرين، في ميل خبيت نحو دورا وأمها.
إن الخطايا التي يرفل بها حاضر خربة عواد تتناسل في علاقة جدلية، انطلاقا من تاريخ أم تامر منذ أن اشتغلت في بيت "فواز" مالك الأراضي المحيطة بالخربة، والذي جعلها خليلته، الا أن شعر بارتباطها ب"السيد مردود" ساكن المغارة، صاحب الكرامات والذي كان مختصا في طرد الجن الذي يسكن سكان القرية ومن بيتهم أم تامر وحيث اثمرت هذه الرابطة الولد "تامر" الذي يحمل نفس سحناته، مما دفع "فواز" الى تزويجها بهليل، هذا الأخير الذي كان مغرما بها دون ان تبادله نفس الإحساس، وهذا ما جعل هليل ينفر منها نحو البرية ويعاشر راعية الماعز "أم هزيلة" التي انفصل عنها زوجها "سويلم" الذي ترعى له غنمه لكي يتزوج بابنتها "هزيلة". هذه الفضائح والآثام التي يتحدث عنها سكان القرية خلسة يتم تغطيتها عندما تتعلق بشخص قوي مثل "فواز" بينما تعمق دونية أشخاص أضعف مثل "هليل" و"غزيلة". أما "أم تامر" التي ورثت وضعية مادية جيدة عن "فواز" الذي وهب ابنها تامر أراضي بالخربة فإن ألسنة الناس تتناقل اسرارها بشكل من عدم اليقين.
ان القارئ سيتعقب مشاهدات الكاتب في خربة عواد سواء خلال يقضته أو أثناء شبه أحلامه وهو يتجول في اطلال الخربة. ومن خلال هذه المشاهدات المزدوجة المتوازية والتي يفصل فيما بينها حوالي الفي سنة، يعمل الروائي على اثارة انتباه القارئ الى ما بين الزمنين من تشابه، ف"الكاهن" المفروض بالضرورة من طرف الوضع الثقافي المهيمن، منذ ثلاثة آلاف سنة، له ما أصبح يشابهه في خربة عواد في الوقت الحاضر متمثلا في "السيد مردود" ساكن المغارة، وكما كانت للكاهن علاقة ب"درتي" والدة "دورا" كذلك "للسيد مردود" ساكن المغارة علاقة ب "أم تامر" بخربة عواد. لكن عندما ستمتد الأطماع الجنسية لكل من "الكاهن" نحو "دورا" و"السيد مردود" نحو "صوغة" فإن دورتي وأم تامر ستنتفضان معا قبيل نهاية الرواية ضد الكاهن وضد السيد وضد ما يمثلانه من قداسة دينية، في محاولة منهما تخليص ابنتيهما من وحشية الرجلان. إن سياق الرواية لا تسلك خطا مستقيما من بدايتها حتى النهاية بل تتموج وتتصاعد وتنخفض حسب المشاهد والحوارات وطبائع شخصيات الرواية، فخلال هذا السرد والوصف والتشبيه تناقش قضايا سياسية محلية ودولية والصراع العربي الإسرائيلي وأسباب الخيانات العربية وبشاعة البيروقراطية المقيتة في حصول الكاتب على حقوق بسيطة جعلته يلجأ الى وساطات مهينة. كما تطرح تساؤلات فلسفية حول الاستنساخ والعود الأبدي أو حول شمولية الاستبداد الناجمة عن أفكار نيتشة وشوبنهاور. فالقارئ لن يستسلم للنوم أو للراحة حتى يتمم الرواية وهو منجذب بجمالية عباراتها وكلماتها المختارة بدقة وعناية فاقة والتي لكل منها حمولتها الوصفية الدقيقة.
أولا: الصياغة الأدبية لمسرح الرواية:
أنهى الروائي عبد العزيز موسى رواية كاهن دورا سنة 2004. وقد نشأت لديه الملامح الأولى للرواية من خلال عدة مصادر، فقد احتك داخل المستشفى الذي كان يرقد فيه بمجموعة من النساء الريفيات اللاتي كن يزرن قريبا لهن فتزوران الكاتب بنفس المناسبة فانجذب الى احاديثهن البدوية. لذلك ترسخت لديه طبائع تلك الشخصيات البدوية وطريقة كلامهن. كما أتاح له تعيينه في احدى المؤسسات التعليمية في قرية نائية توجد بها آثارا آشورية ومعبدا مسيحيا مشهورا، من الاطلاع على طبائع ساكنة تلك القرية. فتجمعت للكاتب مختلف مشاهد جغرافية المكان وجمالية طبيعتها وطبائع ساكنتها وسلوكياتهم بكل ما تزخر به من حمولات غوغائية دهمائية لكي ينسج على منوالها سمفونية روايته، مقتبسا ملامح عيني دورا السوداوين من جدارية تاريخية في احدى المدن السورية الحاملة للآثار الآشورية. جامعا ملامح تلك العينان بعيني صوغة ابنة أم تامر. فعلى هذا الأساس تحددت إشكالية الرواية وهوية النص الأدبي وبالتالي تعددت فرضيات فهم التناقض بين السجية البريئة لشخصيات الرواية، في مقابل خبث من يدعي حماية المقدسات الدينية والسلطوية، فالشر دائما يكمن في تلك السلطة الدينية أو الدنيوية، والمفروضة قسرا على الأبرياء مهما علت خطاياهم. بل أن كل من تمتلكه رياح تلك السلطة، يفقد براءته وحريته، مثل "فطينة" أتي "تعيش عمرا بيولوجيا مسطحا وأحادي الرأس". فالكاتب يقول عنها "لماذا لا يمكنني تذكرها الا وهي ضحية ... كائن فطينة لا ينطوي على أي سر أنثوي".ص: 168، ويقول في مكان آخر: "هكذا، أفهم أن العقل عندها (عند فطينة) ما يواتي خطباء الأشرطة التي تسمعها طيلة الليل، تعضني بالأشرطة كلما تلهى المدير وغاب الوكيل، وكأنها تحضرني للموت. نساء خربة عواد مع ما هن عليه أراهن متصالحات مع الحياة أكثر منها". ص: 162.
لا شك أن الروائي "عبد العزيز الموسى" منغرس تمام الانغراس وسط المجتمع السوري أي وسط الأزقة والمساجد والحارات أو معايشة الصفوف أمام وداخل الإدارات الحكومية وكذا حضور الحفلات والسهرات الشيء الذي يمكنه من قراءة طبيعة الأوجه وبيولوجية الأجسام وسماتها المختلفة والتمييز بين سحنات أصحاب النعمة وسحنات الطبقات المسحوقة، لذلك تتراقص أمام أعيننا صوره التعبيرية عن طبيعة شخصياته المطابقة للواقع بشكل مدهش، مستعملا في ذلك قاموسا لغويا مختارا بدقة. فها هو الكاتب يصف "وكيل المدرسة" حينما يرن الهاتف مرة تانية: "فتصيح فطينة: زوجته، ابتسامة الوكيل الضفضعية أحلى شيء أستقبل به، لا يمكنك أن تتصور ضفضعا مبتسما". ص: 122، ثم يهجوا الراوي كل شيء حتى زوجته: "أقصد زوجتى ومن هن على شاكلتها لسن أكثر من نباتات بلاستيكية، لا نكهة ولا رائحة، نمو بيولوجي أهبل، وسط شروط مناخية مواتية، وكل اللوائح والقيم والأعراف مبرمجة على هذا المقاس، وستنصب كل المعايير الأرضية والسماوية لرعاية هذه النباتات البلهاء من سداجة وبدانة ولا مبالاة بكل ما يتجاوز سور الغرائز الأولية المؤسسة بتناقل أعراف وقمامات ومقايضة أحاديث لها روائح غير زكية بسنن العيب والأصول". ص: 122.
لا شك أن اتساع اطلاع الأستاذ "عبد العزيز الموسى" على مختلف اشكال الفكر والفلسفة ومسؤولياته كأستاذ للفلسفة وتجواله بهذه الصفة في العديد من المناطق السورية وخارج سوريا، تشكل المصدر الأساسي لما يكشف عنه الروائي من خلال رواياته ومن خلال رواية كاهن دورا عن طبائع شخصياته وتطلعاتهم الفكرية والسيكولوجية، فكأن بالقارئ يقرأ تحليلا أكاديميا حول السلوكات الاجتماعية والنفسية للمكونات البشرية للمجتمع السوري والتي لا تختلف كثيرا عن سلوكات مكونات المجتمعات العربية الإسلامية الأخرى. فعندما أقرأ في رواية الكاهن دورا عن طقوس طرد "السيد مردود" للجن، وأقارنه بما رأيته من طقوس مشابهة بالمغرب، وما يتولد عن ذلك من انبهار الوسط الاجتماعي المحيط بهذه الطقوس، أتساءل عن مدى الارتباط الديني بهذه الطقوس الخرافية بواقع التخلف المخيم على مجتمعات هذه البلدان. فكشف الروائي "عبد العزيز الموسى" عن هكذا طقوس وهكذا عقليات، ضروري من أجل فهم واقعنا المتخلف والتفكير في سبل علاجه.
ثانيا: كاهن دورا:
عنوان الرواية كاهن دورا يجمع بين سلطة الكاهن المسيحي رجل الدين التي تمكنه تلك السلطة من ممارسة تأثيره ونفوذه من خلال الطقوس الدينية لتوجيه سلوك الجماعة التي يتوسط بينها وبين الرب، نجده في الرواية يكيف تلك الطقوس الدينية لخدمة نوازعه النفسية والجنسية الدنيئة في التقرب من "دورا" ومن أمها وفي ابعاد "باسو" عن دورا بشكل مأساوي حتى لا يحرمه منها بعد وفاة زوجها العاجز. فالكاتب يصف الكاهن ب"شيطان دورا" وهي نفس الصورة التي يتيحها لنا وصف الكاتب لطقوس وممارسات "السيد المردود"، "فالسيد وهو طفل كما رووا رحلوا وعافوه، هكذا المشيئة التي ردته فصار السيد المردود ... في رحلته للبحث عن أهله .. رحلته لم تصل ولكن عجائبياته ظهرت على سفوح خربة عواد التي أدركها مع آذان الفجر... كان مصمما قبل أن يطأ المغارة على النيل من زوجة والده أم عسكر بخنجر سنه بالصوان. لكن الرعيان أخذوا الخنجر وشلحوه الزنار. بعد أن لف خرقة على رأسه بلون أخضر واختلس مزهرا كان معلقا في صدر بيت رجل آواه. هبت عليه الأحكام المباركة الرافلة بالسعد المبارك واليقين القاطع الذي يحتاجه الناس القانطين لإسكات مصادر النق الوجودي الأزلي المرابط فينا منذ الخلق الأول منتظرا أحدا يفلت رباطه ولم يأت هذا الأحد بعد". ص: 56.
إذن ف"شيطان دورا" الحزينة أبدا وأمها "دورتي" هو نفسه "شيطان صوغة" السعيدة باستمرار أو أمها "أم تامر" ، وعلى هذا الأساس قامت إشكالية الرواية على أساس الصراع بين الخير والشر، في مفارقة عجيبة، حيث ان مصدر الشر هو نفسه الذي نعتقد واهمين أن مصدر الخير، أي الدين والتدين ورجل الدين الذي يصنع من كل ذلك وسيلة لبلوغ أغراضه الدنيئة، وهكذا أصبح التخلص الدموي من الشر الوسيلة الوحيدة من اجل ان تنعتق الانفس وتتحرر من طغيانه. انها الثورة على الطغيان وعلى الاستلاب.
ثالثا: اللغة والسرد الروائي:
يعتمد الكاتب على الجمل الطويلة في سرده الروائي لكن في إطار بنيات متماسكة، من دون عناوين، تنتقل بك الصور والأحداث من مجال جغرافي إلى آخر، ومن عصرنا الحاضر الى عصر مرت عليه أزيد من ألفي سنة مؤثتا كل ذلك بوصف المشاهد الطبيعية والإنسانية المحيطة بكل ما ترفل به من واقعية تجعل القارئ يشم رائحتها ويلمس طبيعتها في مطلق ابتدالها في بعض الأحيان. "كان الشيخ رجب من معارف أم تامر وربما أكثر من ذلك، ويتفقدها بين الفينة والفينة ويحكي لها عن سيدنا يونس وسيدنا يوسف، وتستمع له بعد أن تحضر الأركيلة وطاسة الحليب. المعروف عن الشيخ رجب أنه من أهل الله ويتردد على بيت الخربة ويستمتعون أن يطلب منهم طعاما.. فيه كبر مع ذلك لا يترامى ويتداولون، خاصة النساء بألا تفوتهم بركاته ودعواته.. يقرأ القرآن على مصاطب البيوت، يرضى بالقليل ولكنه بالمقابل سريع الحرون.. يحذرون أطفالهم بألا يشي أحد منهم بما ينفره .. لكن مصطبة أم تامر أحب إليه من أي مقام آخر... يمثل الشيخ ضمير نساء خربة عواد الجمعي بلا منازع، ليس غير التراب المحروق والحجارة المحطمة وقطع فخارية مذرية وبعر ماعز طري وجدران نصف منتصبة كالحة وبارشة حفر عليها تلاميذ المدرسة أسماءهم وأعمارهم بحجارة الصوان". ص: 54
إن ما سيلاحظه القارئ هي تلك السلاسة في العبارات وانسيابيتها حول أحاسيس ووقائع نعيشها يوميا لكننا قد لا ننتبه اليها، فلا ثقل ولا ضجيج مما يبرز تمكن الكاتب في السرد وبراعة في بناء الأحداث وفي تسلسلها، فالجملة تدفعك نحو الجملة الموالية حتى وان انتقل الروائي بك من زمن الى آخر، بدون تفكك ولا خلل مما يجعل العبارات تتلاحق متناغمة غايتها الصدق في الإبداع والغوص في أعماق الذات. ويظهر الحوار في حالات قليلة، منها حالات التوتر القصوى، وهي قليلة مقارنة بالحديث الباطني المونولوج والأسئلة المتواترة الكاشفة عن تمزق الشخصية أمام الأسئلة المحرجة والتي لا تتم الإجابة عنها الا بشكل غير مباشر. لنتأمل الهواجس الداخلية للكاهن في قول الكاتب التالي:
"يقف قبالة عتمة النافذة الشرقية، يحاول أن يتأمل السماء، لا يعرف أين ستلتقي هذه السماء مع الأرض ... في نظرته كآبة بشرية قانطة من التراحم ... اتضح بجلاء أن عينيها لما تملاها خيوط ناعمة، بلون الزيتون هذه الخيوط. من أين هذه الخضرة تصب فيهما؟ فيهما هذا المجهول الدنيوي إذا كنت على عجلة والسماوي أيضا .. هل كانت دورا بعد ذلك المرأة الدنيوية فقط؟ شدد على ملاحظته وهو منشرح بسرور عينيها المهومتين في سماء نفسه والسماوي فيما رغائبه تكذب .. يحنقه حشد الأصوات المتصايحة في داخله، يبتسمون، ابتساماتهم مع ذلك مهينة، يتضايق منهم ويتضايق من عتمة كهوفه ويتضايق من خصلة شعر باسو ورقة دورا الفائقة .. لا تحتاج كل هذه الرقة، بجزء منها ستصبح كالسحر. خطرت له فكرة مجنونة، تأرجحت على مشاعره، هم بالوقوف. انتظر حتى استكانت جوارحه، ترجاها ان تثوب، دورا على كل حال ستزوره كما وعدت، هنا في غرفته وستجلس على فراشه، لا ليس لائقا، ستجلس بجانب الطاولة. قبالته هنا.. الركبة على الركبة وستمسكه من ذراعه المشعرة وتمسدها تم تبتسم .. إنها تبتسم لشعر ساعده وصدره الكث، بالطبع ستشده نحو سريره الخشبي .. وعليه، ككاهن ألا يطاوعها فورا، عليه أن يتمنع قليلا.. عليها أن تفهم أن ربه الذي أوكل له هذه المهمة يراه.. من واجبه أن يتمنع ولكن بالمقابل عليها أن تترامى لاستدراك بركته .. هل كنت قد أفضت أمامها عن هذه البركات وفرص نوالها؟ راقت له الصورة التي عن طيب خاطر سيتنازل لمستوى امرأة .. لن يفيدها وهما في الغرفة اللجوء للحيلة أو التهرب .. إنه يتقبل فداء من أجل قضية، ليست هامشية أبدا". ص: 52-53.
يعمد الكاتب في الرواية إلى وصف المشاعر والأحاسيس ومن تم النفاذ إلى أعماق نفس شخصياته للكشف عن خباياها وما تكنّه من كره وحب ومن قلق وحيرة، من لهفة وشوق، من محبة وغيرة، من فرح وحلم، من مكابدة وصبر، من غضب ورضا، إنها المشاعر الإنسانية العفوية بكافة حمولاتها والتي لا ترضخ لأي قانون.
تم يرسم الكاتب مشاعر شخصيات الرواية رسما فنيا دقيقا دون مراوغة ولا زيف فهو ضرب من الواقعية عن طريق الصدق في الإحساس، يصف الفورات النفسية لشخصيته الرئيسية: "إذا عاد الكاهن من جولته مباشرة يرقى السلم الخشبي ليراجع أفكاره المألوفة، يسجن نفسه في الغرفة ويظل هادئا طيلة ما بعد الظهر مستسلما لأنات خفيضة تصعد فيه على مهل، يتململ، كأنه يريد أن يصرخ، لن يتقبل بعد اليوم الاصطبار على كل هذا الإصرار الساخر الذي يخضع له، فقد وجد نفسه، وهو الكاهن بعد كل شيء، يتعارك مع مزاجية امرأة، استشاط غضبه .. لكن ذلك ليس كافيا ليقول كل شيء لها .. بما في ذلك باسو الذي دربته على ما يبدو للاستخفاف بعباراته المقدسة". ص: 50.
رابعا: ملامح شخصيات الرواية
نحت الروائي "عبد العزيز الموسى" شخصيات روايته ببراعة واضحة حيث يرسم ملامحها في احاطة شاملة لمختلف جوانبها الحسية والمعنوية وفي سيرورة نامية مع نمو أحداث الرواية.
فها هي "أم تامر" كأهم شخصية في رواية كاهن دورا "تجلس على مصطبة عليتها المشرفة على بيوت الخربة، ترافق بعينيها كل حركة في الأزقة وبساطات الدور الواسعة تراقب ماعز خربة عواد وحواكير الخربة ورعيانها وسخالها وكلابها ونسائها، بطبيعتها تعرف مبرر أي حركة تلاحظها من المكان الذي تجلس فيه". ص: 17. "ليس أمرا مألوفا أن تجلس امرأة على كرسي في خربة عواد وتدخن الأركيلة لولا أنها أم تامر. قالت وملقط الأركيلة بيدها بفضول وقور مستمد حتما من ذكرياتها الغاربة لما عبرت من أمام مصطبتها متوجها نحو درب تبة خربة عواد الزرقاء وسترتي على كتفي، لا تتأخر يا أستاذ الدنيا ستمطر، انها تفج باللمع من قرانيها الأربعة وأشارت بالدراع السائبة بعد أن أسندت خرطوم الأركيلة على حوجلتها نحو الغرب والشمال .. ما بك؟ أما سمعت؟ طبعا أنا سمعتها وأتوقعها ستقرعني بغلضة لائمة لأنه من وجهة نظري سلفتني هذا التحذير. ربما موضوع المطر ليس مطروحا كله على بعضه إلا كمناسبة أكتشف من خلالها عاطفة أم تامر المركبة التي سيصعب فهمها ما لم نكن جيران أم تامر لمدة لا تقل عن بضعة أشهر". ص: 18.
تختزن "أم تامر" أسرارا يتداولها سكان خربة عواد خلسة وبشكل غير واضح وملتبس، وبصعوبة يحصل منها الأستاذ على ما يشفي فضوله لمعرفة علاقة أم تامر ب"السيد مردود" وعلاقة هذا الأخير بابنها "تامر"، وأيضا اسرار "فواز" سيد الخربة سابقا وزوجها "هليل" الذي ضج نحو البرية. نادرا ما يستعمل الكاتب الأسماء الحقيقية لشخصياته بل لا نعرف الكثير منها مثل اسم "زوج دورا" فكل شخصية تنطلق أهميتها من ابنها أو ابنتها كأم تامر وأم غسيلة، فقط يتردد كثيرا اسم "فطينة" غير المتزوجة والتي لا أولاد لها، فكأنما إعادة انتاج الحياة يضفي ميزة استثنائية على من ينتجها. الوحيد في الرواية الذي تغيب شخصيته نظرا لمركبه النفسي هي شخصية "مدير المدرسة" والذي يسميه "أبو أكرم" ب"ابن فطيم" سخرية بزوج ابنته.
رواية كاهن دورا تختزن عدة روايات في رواية واحدة من خلال تعدد شخصياتها واختلاف وجودهم المادي والعلاقات التي نسجوها فيما بينهم بحكم الضرورة. لنتابع مثلا: "طبعا لا ينكر أحدا أن سويلم ضرب أم غزيلة بحضور ابنتها المتشفية لما حاولت بإصرار منعه من اغتصاب ابنتها في وضح النهار، احتملت كثيرا ولم يسمع أحد لشكاياتها. الآخرون يبتسمون وهم يتذكرون أنها بالذات نكاية بإخوتها أغوت سويلم فتزوجها على عجل ونهقت تحته على مسمع أخواتها. إذن لا يستاء الناس أن غزيلة تصهل على مسمع أمها تصهل بصوت عال إذا تملكتها شهوانيتها النارية التي تشخر في خطوط جسدها". ص: 62.
ما يمكن استخلاصه من رواية كاهن دورا هو أنه بغض النظر عن موضوع اشكاليتها الرئيسية القائمة على التناقض بين الخير والشر، وسخرية التاريخ الذي يتقمص فيه رجل الدين قناع الشر بينما تتقمص فه الطبقات المسحوقة قناع البراءة، فيكيف الأول مسار وحياة الثاني بحسب مصالحه حتى الدنيئة منها، فإن إسهاب الكاتب في تسليط الضوء على حياة وصراع فئات اجتماعية مقهورة من أجل رغيف لا يتحقق الا بصعوبة، يجعل القارئ يتعاطف مع هذه الطبقة الاجتماعية مهما تمخض عن سلوكاتها من انحرافات مضطرة لأن الواقع المادي أقوى من ارادتها، وهو ما يستغله الأقوياء سلطويا أو دينيا لتعميق جراح هؤلاء. ونظرا لتشابه سيرورة هذه الحقائق وأصولها المتخلفة في الزمان والأمكنة الجغرافية للبلاد العربية، فستظل محكومة ب"العود الأبدي" ضمن دائرة مغلقة ما لم يتم تفجيرها دمويا كما فعلت ام تامر مع السيد المردود حينما أراد أن يفعل بابنتها "صوغة" مثلما سبق له أن فعله بها.
(1) – الروائي عبد العزيز الموسى ابن مدينة كفرنبل بسوريا /1946/، له تسع روايات منشورة: الغراب الاعصم، وعائلة الحاج مبارك، وبغل الطاحون، وجب الرمان، والجوخي، وجرجرة، ومسمار السماء، وبنت الشنفراني وكاهن دورا؛ عدا خمس روايات أخرى لم تنشر بعد.
#عبد_السلام_أديب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المقاطعة، مسار فكرة سياسية ثورية
-
في ذكرى مرور 200 سنة على ولادة كارل ماركس
-
ذاكرةُ الشِّيح
-
تطور الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي في ظل الزحف الامبريالي
...
-
مسار ازمة ثورية بمدينة جرادة (تابع3)
-
مسار أزمة ثورية بمدينة جرادة (تابع)
-
طبيعة المناضل البروليتاري في الحزب
-
مسار أزمة ثورية بمدينة جرادة
-
شعلة الحوار المتمدن في القرن 21 تسير على طريق شعلة الهيغليين
...
-
في الذكرى الأربعين لاستشهاد الرفيقة سعيدة المنبهي
-
في طبيعة المسيرة الجماهيرية ليوم 10 دجنبر 2017 بالرباط
-
جوانب من طبيعة ثورة أكتوبر البلشفية
-
حصيلة عشرة أشهر من حراك الريف
-
بابلوا نيرودا يؤرخ لجوزيف ستالين شعرا
-
الرأسمالية في سنة تخليد مئوية ثورة أكتوبر
-
مسيرة مليونية من أجل الالتفاف على حراك الريف وعلى مطالبه من
...
-
تمخض الجبل فولد فأرا
-
الحركة العمالية العالمية في ظل الذكرى المئوية لثورة أكتوبر
-
في ذكرى اندلاع ثورة أكتوبر البلشفية
-
المادية التاريخية
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|