أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مظهر محمد صالح - قارب الحرية















المزيد.....

قارب الحرية


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 5906 - 2018 / 6 / 17 - 15:49
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


قارب الحرية

د. مظهر محمد صالح

في مساء شديد البرودة من العام 2011 سار قاربنا الجميل التصميم والغريب الاطوار منطلقا بقوة هادئة في محيط قنوات مدينة امستردام الهولندية في وقت اخذت فيه انوار المدينة المكتضة بابنيتها الجميلة على ضفتي الانهر والجداول والقنوات المتقاطعة، التي مررنا فيها ، تسطع بالوانها، جاعلة من امواج المياه التي تلونت بالوان الاشعة اللامعة الصادرة من الابنية المحيطة ونوافذها المطلة، لوحة فنية متشابكة الالوان لا يحل لغزها الا فنان هولندا التشكيلي رامبرانت في اثناء توجهنا لزيارة مسكنه التاريخي الذي يقع على مقربة من واحدة من انهر امستردام.

كان الضياء الساطع يظهر حركة سكان المدينة من شبابيك منازلهم في عمارات كلاسيكية شديدة الجاذبية و من على ضفتي الانهر او القنوات وكأنما نحن نشاهد مسرح يؤدي على خشبته الاف الناس قصص اسرار يومهم ونهارات غدهم من دون موعد! وقلت في سري : ما هو هذا القارب الغريب في سحره ومجلسه الاْخاذ الذي يحملنا على ظهره وهو يضفي على حياتنا متعة رومانسية يصعب وصفها نحن القادمون من الشرق! ؟ اذ يظهر لك في الوهلة الاولى كأنما انت على ظهر سفينة سياحية عملاقة على غرار سفن كروز التي تجوب المحيطات.

وعلى الرغم من شدة صغر ذلك القارب الساحر ، اجابتنا الفتاة التي كانت المرشد السياحي في هذه الرحلة المائية المتوجهة الى منزل رامبرانت ، موضحة بان هذا القارب كان يعود لمالك غني من سكان مدينة امستردام ، وعندما دخلت جيوش الاحتلال النازي امستردام في الحرب العالمية الثانية، قام المالك الغني باغراق قاربنا الذي نحن فيه كي لا يتمتع العدو المحتل بجماليته او ينتفع منه. ولكن اعيد انتشاله وتعميره بعد انهزام الجيوش النازية وخروجها من هولندا.

وقد تمتع بهذا القارب السياحي، الذي اصبح اليوم جزءا لا يتجزء من تاريخ مدينة امستردام النهري منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الوقت الحاضر، و تجول فيه كبار المشاهير من الفنانين والملوك والامراء والزعماء والقادة السياسيين وكبار الشخصيات ممن زاروا مدينة امستردام خلال العقود الستة الاخيرة ومر في قنواتها وانهارها .

حدثني مضيفي الهولندي، ونحن في الطريق المنحدر مع مجرى المياه صوب منزل الفنان رامبرانت، وكان الرجل احد كبار موظفي الحكومة الهولندية العاملين في بنك هولندا الوطني، متسائلا.. كيف وجدت مدينة امستردام ؟ فاجبته انها مدينة كلاسيكية رائعة الجمال بكل ما تحمله امستردام من صفات حضارية! ولكن الرجل تحسر كثيرا واجابني ، قائلا: كانت امستردام يومها تشع بالجمال والنظافة التي نفتقر اليها اليوم ! سألني مضيفي كرة اخرى... هل شاهدت كم هي الاوساخ والقمامة في هذه المدينة !؟ فجاملته وقلت له لا، ولكن ربما يوجد القليل منها هنا او هناك! وفي قرارة نفسي اقول كلا انها مدينة تزدهر بباعة الزهور والورد الجميل في كل مكان ! اجابني محدثي مسترسلا، هذه مشكلة امستردام اليوم ، فقد تبدل الناس وتغيرت طباعهم فالمدينة ليست تلك في ايامها الخوالي بعد ان امست شديدة القذارة، والسبب ان اهلها اصبحوا اليوم عديمو الاهتمام في ازبالهم ، فالبعض يضع اكياس القمامة بعد مواعيد تجميعها بايام او قبل تجميعها بساعات طويلة او باوقات متباعدة غير متناسبة مما يتسبب في كارثة بيئية لم نعهدها نحن الامة الهولندية! وقلت في سري لا تخشى الكثير يا سيدي، فلم يعد في بلادكم وجود للقطط او الكلاب السائبة او الجرذان كي تعبث بقمامة امستردام قبل ان ترفعها بلدية مدينتكم.! وسألني هل تقبل بمثل هذا الحال لعاصمة هولندا المالية ؟ فاجبته من فوري كلا لا اقبل ذلك وفي نفسي هو ان اوجه له الدعوة لزيارة بلادي؟ ولكن الشي الذي حيرني ماذا سيشاهد هذا الرجل في بلادي وكيف سأصف له حال قمامتنا واكداسها وانا سارافقه حتما وهو من كلمني قبلها عن حلمه لزيارة بلاد السندباد والف ليلة وليلة والتي مر عليها في طفولته عبر حكايات والدته ! وقلت في نفسي وبالطريقة العراقية .... يا ساتر!!

نسيت بعدها الموضوع تماما عندما اصطف قاربنا بجانب مرفأ هاديْ جدا قبل ان يغادرنا قارب السعادة وحكايات القمامة المروعة كي نعتلي ادراج المرفأ الصغير التي تصلك الى المنزل الذي عاش فيه الفنان التشكيلي رامبرات والذي مرت ذكرى ميلاده ال407 ، يوم ولد الفنان العملاق في 15 تموز/يوليو 1606 في مدينة ليدن الهولندية وتعلم في جامعتها قبل ان يستقر في مكان اقامته في امستردام وحتى وفاته .

في منزل مدهش باكثر من طابق انتشرت قاعات الرسم وادواتها وبقايا من اقلام والوان وعدد ونماذج فنية جمعها رامبرانت من مستعمرات هولندا عبر عهودها الامبراطورية الماركنتالية ، عندما كانت هولندا تركب البحار تحت شعار اينما تصل الرايات تصل التجارة وان التجارة والراية تتحركان معا! لقد نسبت لهذا الفنان التشكيلي اكثر من ستمائة لوحة وهي منتشرة في متاحف العالم الوطنية وان نماذج مختارة منها قد نصبت في بيت رامبرانت نفسه.

عد رامبرانت فنان اوربا التشكيلي الاول... فبالقدر الذي برع في تصوير الاشخاص ، بما في ذلك اهتمامه في تصوير نفسه بحوالي 43 لوحة. كانت رسوماته تعبر عن فلسفة العاشق المعذب ولاسيما في لوحته امرأة شابة وغيرها ، مما جعله من اقرب فناني القرن السابع عشر الى قلب الانسانية. وعرف رامبرنت كيف ينقل في رسوماته الافراح والاحزان ويحيلها الى اشكال لونية رائعة من الظلال والنور. اذ كان يرسم لوحاته عادة على خلفية رمادية فاتحة ليجسد المشاعر العميقة والمتداخلة والمفعمة بالحزن والمعاناة والشقاء.

فجع رامبرانت بوفاة زوجته ( ساسكيا ) التي اسعدته بطفل ظل على قيد الحياة بعد ان فقدت ثلاث من الاطفال قبله!كانت وفاة زوجته نقطة تحول في حياته لفقدان الامل فيها، ليعود بعدها فقيرا اثر ثراء وغنى ، كما ولدته امه من ابوبن فقيرين.

توفي رامبرانت في الرابع من تشرين الاول اكتوبر 1669ميلادية قبل ان يكمل لوحته المسماة : الطفل يسوع في الهيكل.

ذكرني ذلك القارب الجميل الذي سار بنا في انهر وقنوات امستردام والذي افعم جو حديثنا وقتها عن تطور القمامة الهولندية، بمفارقة في تاريخ النقل في العراق.

ففي خمسينات القرن الماضي وحتى تاريخ تدهور النقل بالسكك الحديدية ، ظل قطار البصرة الصاعد المتجه من المعقل وصولا الى محطة قطار غربي بغداد، هو الواسطة العظمى في نقل المسافرين والبضائع.. وهو قطار الامة الذي كان يسير صعودا من البصرة الى بغداد ، عكس مياه دجلة والفرات.

استوقفتني في تلك الحقبة من طفولتي مشاهد حادة عفوية جميلة جدا وهي موروثة في التعبير عن تصرفات راكبي ذلك القطار. فقبل شروق الشمس يتوقف القطار عند محطة من محطات الفرات الاوسط/ السدة حيث تهرع النسوة الى نوافذ القطار وهن يتزاحمن في بيع اواني فخارية محلية الصنع لونها كان بلون تربة وادي الرافدين الطينية شديدة النقاء اصيلة العطاء ومعبئة بمنتج حليب محلي هو القشطة او القيمر مع اقراص من الخبز المعدة هي الاخرى في تنانير او افران من الطين لبيع ما بحوزتهم ، اذ تقول الدراسات المتعلقة بالتاريخ الزراعي للعراق ان طريقة اعداد الخبز بهذا الشكل هي الاخرى ، لم تتغير في السهل الرسوبي منذ العهد البابلي القديم وحتى يومنا هذا !
همً المسافرون واستيقضوا من نومهم جميعا استعدادا لشراء تلك الاواني الفخارية ذات اللون الطيني المائل للاحمرار والمعبئة بالقشطة البيضاء، ليجري رميها بعد دقائق من نوافذ القطار حال الافراغ منها كوجبة افطار لا تعوض، لتعود تلك القطع الفخارية ثانية الى حضن امها الارض الطينية .

كانت واحدة من اكبر عمليات البيع والشراء للوجبات السريعة في تاريخ نقل مسافري قطارات جنوب العراق في القرن الماضي.

الذي اثار شجوني هو تلك الاكداس المكدسة من الاواني الفخارية ومخلفاتها على مدى الايام والسنوات الطويلة لهذه السوق اللحظية والتي تمتد في منظرها الى مسافة بضع كيلومترات من على جانبي سكة الحديد في مسار قطارنا المتجه الى العاصمة بغداد و التي سيصلها ببطىْ شديد ولكن قبل حلول وجبة الغذاء حتما!!.

اللافت، قبل ايام قليلة ، قادتني الصدفة لاجتاز بقايا سكة حديد قطار نقل مسافرين يمر عبر ضاحية من ضواحي بغداد، والامر الذي فاجأني ان نقطة تقاطع سكك ذلك القطار التي تقتضي التوقف قرب الباعة قد اشرت، ان راكبييه قد قاموا بممارسات رمي المخلفات من شبابيكه ايضا ، كما لو كنا في خمسينيات القرن الماضي ولكن بشكل مختلف هذه المرة عما عهدناه في العقود الزمنية الماضية تماما ! فالمسارات على جانبي السكة ، غدت اليوم حاوية ارضية واسعة كي ترمى الازبال فيها



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على طاولة الرئيس :ركود ام كساد
- مهدي الحافظ :العقل و الضمير و الحرية
- علم اقتصاديات السعادة:مفارقة ايسترلن
- العمارة...حاضرة الجنوب
- من سرق طاولة الملك؟!
- الحب والسياسة
- نجاة بلقاسم.. اليفاع المتوثب...!
- آرثر لافر
- سجون بلا جدران
- الأغتراب الصناعي والتقسيم الدولي للعمل
- فقاعة اقتصادية.. أم هوس الورد!
- الاحتلال و العينة المنتظمة..!
- حياتي كلها
- المصلح والفيلسوف
- نادي الكون
- البقرة فريزن :بين امستردام و مزرعة المسيب الكبير
- القمامة المحزنة
- ديوان الحكومة القديم
- مفارقة اسيا
- متجر الماس:أغنياء وفقراء


المزيد.....




- أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن ...
- -سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا ...
- -الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل ...
- صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
- هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ ...
- بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
- مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ ...
- الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم ...
- البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
- قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مظهر محمد صالح - قارب الحرية