عدنان اللبان
الحوار المتمدن-العدد: 5901 - 2018 / 6 / 12 - 20:22
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
وصل فيروز الى بيته بعد الغروب , وقدر ان المدينة سقطت لعدم وجود السيطرات الامنية عند مدخلها و في احيائها . عرف من زوجته انها لم تسقط بالكامل , ولا يزال مقر فرع الحزب والمحافظة ومديرية الشرطة والامن وجميعها في موقع واحد تحت سيطرة الحكومة , وقد تسقط حال الهجوم عليها , لاّن معنويات المحاصرين فيها منتهية كما اكد لها الجميع . عند منتصف الليل سمع اطلاقات متفرقة .. سرعان ما تحولت الى اشتباك بين عدة اسلحة ومدافع رشاشة . كان يسكن وسط المشروع , وهو الشارع الموازي لكورنيش سدة الكوت , على يمينه المقابل للسدة المجمع الحكومي والحزبي , وفي نهاية الشارع على اليسار مركز الاسواق الشعبية الذي يعج بالرافضين والمنتفضين . بعد عشر دقائق توقف الاشتباك وعادت الاطلاقات المتفرقة التي تشي بالمشاغلة او تأمين الانسحاب . وسرعان ما تبعها جلبة وصياح وركض باتجاه الاسواق .خرجت زوجته وسألت زوجة جارهم التي كانت تقف في الباب عن سبب هذه الهرجة, أجابتها : كانوا يحملون جريحين , والثالث يسحل برجله .
في الصباح ارسل زوجته الى صديقه احمد الصيدلي لتخبره بعودته , وتسلمه ورقة كتب فيها ما يحتاجه من الصيدلية , وان لم تجده في الصيدلية تذهب لبيتهم ولا تسلم الورقة الا بيده . كان لا يريد ان ينتشر خبر عودته .
بعد الغروب اسيقظ فيروز , وكان لونه افضل بكثير من الامس , ومثلما تقول زوجته فاتي : نوعه احسن ( اسمها فاطمة ويدللها بفاتي ) .لقد راعها بالامس عندما دخل البيت , فهو في الاساس نحيل الجسم , ولثمانية ايام متواصلة مابين السير على الاقدام وركوب السيارة لبعض المسافات تمكن من الوصول الى الكوت , حاله حال الآلاف التي تركت الكويت هاربة باتجاه البصرة , كانت الغالبية من الجنود والمراتب . اما الضباط فقد هربوا ليلا بسياراتهم العسكرية, واخرى مدنية سرقوها من الكويتيين . وكأنهم ادركوا ان الفجر سيكون طريق المطلاع الذي يصل الى صفوان هو الجحيم بعينه , لا احد يعرف اي سلاح جهنمي استعمله الامريكان ؟! مئات العجلات والمصفحات والدبابات والمدافع تفحمت مع طواقمها ومع الحشود الهاربة . كان فيروز يرتجف وهو يتحدث لفاتي في الليل , واضاف : ان الذي انقذه الضابط الذي يعمل بامرته بعد ان حشره في سيارته عندما تحرك فجرا وانزله في البصرة .
عرف فيروز ان احد الجريحين في الليلة السابقة كان صديقه احمد الصيدلي . واضافت فاتي : انها لم تتمكن من مقابلته صباحا , واخبرتها زوجته انها لا تعرف الى اين نقلوه . فيروز ادرك ان زوجته لا تريد ان تخبر فاتي عن مكان زوجها . تناول غذائه بسرعة , وخرج مستعينا بحلول الظلام بعد ان تأكدت له فاتي خلو الطريق من المعارف .
لم تمض اكثر من عشرين دقيقة عندما طرق الباب على فاتي . لم تتفاجأ عندما شاهدت المصور عباس , الذي فاجئها بسؤاله عن دكتور فيروز , وهنأها بسلامة عودته من محرقة الكويت . واكد لها ان كل محافظات الجنوب سقطت والكوت ماتطوّل يوم يومين وتنتهي . الله يسمع من حلكَك : اجابته بحرارة ,وسكتت . وفي الصمت بلعت ريقها , كأنها تريد ان تسترجع كلامها الى داخلها . عباس : وين اخوية دكتور فيروز اريد اسلم عليه ؟ فاتي : ما موجود , ما اعرف وين راح . كان فيروز قد حذرها من المصور عباس عدة مرات , وعباس يمتلك ستوديو الوحدة المقابل لبيتهم . واكد لها فيروز ان جميع المصورين واصحاب الفنادق والمقاهي وباقي الحرف اجبروهم ان يعملوا وكلاء امن .
كانت معارك اليومين الأخيرين واخبار سقوط المحافظات الأخرى , قد رفعت مناسيب الأمل عند الناس الى درجات قصوى . وعباس في الأيام الأخيرة اخذ يتودد لها اكثر , ويرسل ابنه لها كي يأتيها بالحاجيات التي تحتاجها من السوق , ودائماً يؤكد لها على واجب الجيرة , وكيف يجازي فيروز الذي يساعده دائماًعند مراجعته في العيادة . كانت تخاف وشايته , ولكنها اقنعت نفسها بأنه سوف لن يعود مثل السابق وهو يرى بعينيه ماذا جرى لأمثاله في باقي المحافظات . والله اعلم يمكن ضميره صحه ؟
عباس من عائلة فيلية , ولكنهم لم يسفروا الى ايران مثل اهل فاتي عام 1980 , لأنه ليس كما قال فيروز بانه اجبر على العمل في الأمن لكونه مصوراً , والحقيقة انه اصبح مصورا لكونه يعمل في الأمن , ليس وحده بل ومعه شقيقته ايضا , وهو ما انقذهم من التسفير . كما علمت فاتي اخيراً ان عباس واخته من اكثر البعثيين أذية في المنطقة , وفي احدى المرات قتل هارب من الجيش الشعبي عند مطاردته بعد وشاية عباس به . عباس كان زميل فيروز منذ طفولتهما في المدرسة , الا انه فشل في الحصول على الشهادة الأعدادية , بينما كان فيروز من العشرة الأوائل على العراق , لكنه حرم من القبول في الكلية الطبية التي كان يعشقها . لم ييأس , وقدم التماساً الى احمد حسن البكر رئيس الجمهورية وقتها , عسى ان يساعده في تجاوز ورقة شهادة الجنسية السيف المسلط على الفيليين . وفعلا استجاب رئيس الجمهورية لطلبه , وزوده بتوصية استفاد منها فيروز ليس في اكمال دراسته الطبية فقط بل وساعدته في عدم تسفيره مع امه الى ايران في الحملة التي شنتها السلطة على العوائل الفيلية . وظل فيروز طيلة حياته يذكر هذا الجميل لأحمد حسن البكر .
أكمل فيروز دراسته بتفوق , وواصل طريقه في التخصص والحصول على الماجستير في الجراحة. استقر في الكوت وكان موضع اعتزاز اهلها , ولم يبخل في تقديم المساعدة لأي كان بعيداً عن روح الأستئثار التي ارادوها له بعض المسؤولين في فرع البعث لحصر خدماته بهم وبعوائلهم , وكانوا يذكرونه دائماً بفضل السيد الرئيس عليه . حاول قسم منهم ان يتهمه بالشيوعية بعد ان عرفوا انه لم يأخذ اجورا من العوائل الفقيرة ويساعدهم ايضا في شراء الادوية . كان لا يعير اهتماما لكل تهديداتهم لكونه لا ينتمي لأي حزب , وهم يعرفون ذلك جيداً . شعر مسؤول الفرع وحاشيته بالأهانة عندما استدعاه الى مقر الفرع للأستفسار منه عن بعض الحالات المرضية , وتأخر عليه لأكثر من ساعة مع مريضين في المستشفى . فقرر معاقبته , وسرعان ماجاءت الفرصة بالأجتياح المجنون للكويت , وأول من بعثوا به للمعايشة مع القطعات العسكرية فيروز .
اهتزت الجدران , أحسوا الأنفجار داخل بيوتهم . أبتلعهم الصمت , لحظات , وارتفعت الأصوات المرعوبة : الله أكبر , الله أكبر , يا ستار يارحيم . الحفرة وسط الشارع كان قطرها أكثر من متر , وزاد من الأتربة التي لا تزال عالقة في الجو تصدع جدران أحد البيوت . أصوات الأنفجارات من جهة المجمع الحكومي ترتفع , طلقات الأنارة وشعاع الأنفجارات كشف الظلام , وجعل من الليل كأنه تحت قمر كامل . أرتفعت المعنويات , صوت الدعاء بالأنتصار على الظالم يرتفع من البيوت , النسوة فتحن الأبواب , وبعضهن صعد السطوح , تبادلن الصياح والتعليقات , هلهولة ترتجف انطلقت من احد السطوح , غطت زخات الرصاص على اصوات الجميع في منطقة صغيرة هي الأكثر زحمة في المدينة .
في الصباح عرف أهل منطقة المشروع وباقي أهل الكوت ان المجمع الحكومي قد سقط ,المحافظة , مديرية الأمن والشرطة , مقر فرع البعث الذي هرب الجميع منه , ولم يبق الا مقر شعبة حزبية هي الأقرب للطريق الرابط مع بغداد . ولكن فيروز لم يعد , وقبل ان تتناول فطورها خرجت متوجهة الى بيت احمد . وبدل ان تذهب عبر الاسواق أخذت طريق ساحة العامل لتختصر الطريق الى الجهة الشرقية للمدينة , حيث بيت احمد يجاور الملعب الرياضي . كانت الشوارع تحتشد بمجاميع من الناس , الحيرة والانتظار سيطر على الجميع . الانتظار لأي شئ ؟ لاأحداً يعرف ! لكي يسقط النظام ؟! النظام رجع قوياً بعد ان عاد لأستخدام طائراته التي أخذت تحصد الرافضين جماعات جماعات . فيروز لم يكن موجودا في بيت احمد , وأوصى لها مع أم أحمد أنه مع احمد في بيت احد الأصدقاء و لا تبقى قلقة . في طريق عودتها انتبهت لعدم رؤيتها للبعثيين الذين تعرفهم ومن بينهم عباس الذي اغلق الاستوديو منذ البارحة .
عاد فيروز عند غروب اليوم الثاني , كان منهكاً , واخبرها انه أخرج الرصاصة من ساق أحمد وهو الآن بوضع جيد. بعد العشاء أشتدت المواجهة من جديد , طلب منها ان يتركا البيت ويذهبا الى بيت احمد لأنه يبعد كثيراً عن أصوات الرصاص التي أخذت تقترب , الا انها رفضت . وأخبرته : أن يذهب هو , فهي لا تستطيع ان تترك البيت خوفا من سرقته. كان يعرف انها في الفترة الأخيرة لا ترغب بالذهاب الى اي بيت من المعارف والأقرباء , فقد مضى على زواجهم فترة طويلة ولم ينجبا طفلا , ولا يحلو الكلام معها من باقي النساء الا عن اسباب عدم الحمل , وهو ما شكل عقدة لها . فاتي كانت جميلة , وفيروز يدرك غيرة النساء من طول فاتي , ووضاءة بشرتها , وسعة عيونها , وتناسق ملامحها , ما يجعل التذكير بنقص الحصول على الأطفال لازمة لحديث اغلب النساء معها . أستمرت أصوات الرصاص لفترة طويلة , وأخذت تبتعد جنوبا قدرها فيروز انها من جهة ساحة العامل ,الساحة الرئيسية في الكوت . وعند الفجر أشتد الطرق على الباب وكاد يقلعها . ركضت فاتي تحت رعبها الى الباب وفتحتها . كانوا أربعة من الملثمين المسلحين , وقبل ان يسألوها تقدموا الى فيروز الذي ظهر امامهم في البجامة وسط الحوش . أخذوه بشدة , وعند خروجهم أخبروها بأنهم بحاجة اليه لعلاج الجرحى . رغم خوفها وارتباكها كانت متأكدة من ان صاحب الصوت كان عباس .
لم تسقط المدينة بالكامل في ايدي المنتفضين , حيث تمكنت اجهزة النظام من لم صفوفها بعد ان فقدت سيطرتها لبعض الوقت . وذلك لقربها من بغداد ووصول الامدادات السريعة اولا , وثانيا وهو الاهم رؤية المصير الاسود لمنتسبيها في باقي محافظات الجنوب , مما جعلهم يتوحدون بأسلحتهم الفتاكة أمام سلاح المنتفضين الذي كان قوامه الرئيسي هو الحقد على جلاوزة النظام . وفي المدن الصغيرة الجميع يعرف الجميع , والكوت كبيرة نسبياً , ورغم ذلك كان الغريب فيها يعرف بسهولة . فكيف بالعشرات الذين غزو المدينة عن الطريق القادم من العمارة , وبينهم معممين وبعضهم يرطن بالفارسي ولا يعرف العربية , وصورتان للخميني يتداورون على حملها . كان هذا احد الاسباب المهمة التي جردت الثوار الذين يفتقرون اساساً للقيادة الموحدة من سلاح عزيمتهم , واستغلتها السلطة في تهويل حجم التدخل الايراني . ولا تزال الجراح التي تركتها الحرب بين الطرفين لم تندمل بعد , وهو ما سهل للنظام عودة السيطرة على المدينة .
مرت عدة ايام وفيروز لم يعد, فسألت عباس عنه وأكدت له : منذ اليوم الذي جئتم به ملثمين لم يعد , خبرني مسجون ؟ "ملثمين " أستفزت عباس , فأجاب بعصبية :شكو خايفه عليه؟ فيروزعند الرفاق بالمقر , وهم بحاجة اليه . فطلبت منه ان يساعدها بالذهاب اليه حتى تطمئن عليه . أجابها : حتى آني ممنوع علي الوصول لمقر الحزب هذه الايام . عباس في الايام التي اعقبت اختطاف فيروز زاد من تودده اليها , وتجرأ بالتعبير عن اعجابه بها , واخذ يسمعها كلمات فيها اكثر من معنى . بعد عدة ايام تأكدت ان فيروز معتقل ونقل الى بغداد . حزمت امرها ولم تترك لنفسها ان تضيع في غابة الوحوش , فهربت ليلا دون ان يعرف بها احد . والتجأت لاختها الوحيدة الباقية من اهلها بعد تسفيرهم لايران قبل اكثر من عشر سنوات , وكانت تسكن في الاهواز .
بعد سقوط النظام عادت فاتي . ولكنها لم تعثر على اي شئ يهديها الى فيروز ان كان حيا او ميتا . كان الندم يأكلها منذ ان ادركت انها السبب في سجنه عندما رفضت الذهاب معه الى بيت احمد . وظلت فاتي تنتقل بين المقابر الجماعية التي تسمع بفتحها عسى ان تجد اسما لفيروز . ظلت تعتاش على ما يتصدقون به عليها من العوائل والنساءالتي فقدت احبتها وتسكن في مقبرة النجف ايضا .ظلت تدور وتدور الى ان فقد اثرها , ولا احدا يعرف اين ذهبت فاتي ؟
#عدنان_اللبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟