|
مبارزة متكافئة بين المناصرة، وابن قيطون
آسيا بن عبدي
الحوار المتمدن-العدد: 5901 - 2018 / 6 / 12 - 15:12
المحور:
الادب والفن
مبارزة متكافئة بين المناصرة، وابن قيطون • آسيا بن عبدي، وسماح طاجين (جامعة سكيكدا) لعلّ أول ما يثير مسألة الأدب الشعبي هي قصة (المعارضة) سواء على مستوى الجماليات الرسمية المكرسة من قبل المؤسسة الثقافية أو على مستوى الإيديولوجيا من حيث مضمون الأعمال العارضة للأيديولوجيات السائدة في كل العصور كونه منبرا لمواجهة أي سلطة دينية أو اجتماعية أو سياسية بسبب مجهولية مؤلفه. لهذا عُد الأدب الشعبي ذاكرة المجتمعات والمتحدث باسمها عبر كل منابر الحياة، لهذا يسعى دائما إلى الحفاظ على الهوية القومية ضد كل عناصر التفسخ و....التي يمكن أن يطالها. من هذا المنطلق دأب الشعر الشعبي على مناقشة مختلف القضايا الإنسانية من خلال حكايات أو أمثال أو ألغاز مستهدفا من ذلك تحقيق النوعية والإرشاد والثقافة أيضا. وفي سعيه المستمر إلى (تحقيق العالمية) بالرغم من محدودية اللهجة، حاول الأدب الشعبي أن يحمل مضمونا إنسانيا عالميا يتجاوز به البيئة المحلية الضيقة ويرتقي بالفكر والخيال. فبعد الصورة إلى مستوى عالمي، منبر دليل على ذلك ما حققته الأساطير اليونانية والملاحم كملحمة جلجامش على الرغم من اللهجة التي كتبت بها، وألف ليلة وليلة التي ترجمت إلى الفرنسية في قصة اعتبر... الفرنسيون بلغتهم وعدوها أحسن لغة يكتب بها الأدب، "فأنطوان غالان" في ترجمته لألف ليلة وليلة نقلها من المحلية إلى العالمية لتطبع بعد ذلك معظم كتابات الأوربيين، والأمريكيين ثم العرب بطابع الليالي والممتع، وبالمثل انتقلت حكايات شعبية دون حدود أو حواجز إلى الأدب الرسمي فشكلت بنية من بنياته أسهمت في تحقيق جماليته في إثراء أحداثه، فقد نقلت لنا كتب التاريخ مثلا أن بطل الملحمة هو البطل الإشكالي الذي استدعته الرواية لتعبر من خلاله عن صراع الإنسان مع الحياة.
قصة حيزية بين الحقيقة والخيال: لم يكن الشاعر البدوي "ابن قيطون" يعلم وهو يسمع لقصة شاب عاشق هائم على وجهه في الصحراء في حالة تكاد تصل إلى الجنون لم يكن يعلم أن حكاية هذا الشاب المفجوع ستلهمه أهم قصيدة في حياته والتي ستخلد اسمه أبد الدهر فيتداوله الناس مثلما يتداولون هذه القصة الأسطورة. أما الشاب الذي صادفه "ابن قيطون" في الصحراء فهو (سعيد بن الصغير)، وأما القصيدة فهي قصيدة حيزية التي عدت أشهر قصائد العرب الشعبية في الرثاء، والتي ألهمت الكثير من أدباء الشعر الفصيح مثل عزالدين المناصرة، (1986). تختلف الروايات التي يرويها الناس حول هذه القصة كونها نقلت شفويا وأضاف إليها المخيال الشعبي الكثير من الخيال الى أسطرتها على الرغم من حقيقة حدوثها، أرجح الروايات تشير الى وقوع هذه القصة في أواخر القرن 19 (1878) أن ابن "قيطو" عاش هذه الفترة، إذ توفي في سنة (1907)، وتحكي حكاية (حيزية) ابنة أحد الأشراف (أحمد بن الباي) من قبيلة الذاودية بطن من بطون (بني هلال) الذين سكنوا (سيدي خالد) بمنطقة بسكرة. ويرجع سبب شهرة القصيدة إلى كونها بنيت على قصة حب في وقت كان إبداء المشاعر فيه ضربا من التمرد وتجاوز أعراف القبيلة، وقد أحبت حيزية ابن عمها (سعيد) الراعي البسيط ورفضت من أجله كل خطابها، وقد عانى (سعيد) الويلات في سبيل الزواج بها، ويقال أنه بعد اليوم الأربعين من زواجهما، وعند رجوع (سعيد) من رحلة الصيد وجد حيزية تحتضر على فراش الموت ثم ماتت دون سبب لذلك، وهناك رأي آخر يذهب إلى أن موت حيزية كان نتيجة رفض والدها لزواجها من ابن عمها، وقد خرج العاشق المفجوع إلى الصحراء هائما على وجهه عدة أيام حتى أدرك الشاعر "ابن قيطون" فقص عليه حكايته التي خلدتها هذه القصيدة مدى الدهر. 1 ـ حيزية والقصيدة العربية القديمة/ الاستلهام: ألفت القصيدة على منوال القصائد العربية الكلاسيكية، وطبقت قوانين القصيدة العربية بحذافيرها، حيث تبدأ بمخاطبة الأصدقاء والبكاء على الأطلال ثم الانتقال إلى النسيب ووصف المرأة ثم وصف الرحلة والراحلة إلى أن تصل إلى الموضوع الأساس وهو رثاء حيزية. فقد حاول "ابن قيطون" أن يحاور القصيدة العربية ويتقاطع معها في أغلب الأحيان في هذا الجزء من القصيدة، يحاور "ابن قيطون" القصيدة العربية الجاهلية محاورة عنيفة حتى أن القارئ يحس أنه يقرأ قصيدة لامرئ القيس لا تختلف إلا في اللغة، فالقصيدة تبدأ بنداء الأصدقاء أو الدعوة لتعزيته على غرار ما يفعله الشعراء قديما من الدعوة للوقوف والبكاء والمواساة: عزوني يا ملاح في رايس لبنات سكنت تحت اللحود ناري مقديا يـا خي أنا ضـرير بيا ما بيا قلبي سافر مع الضـامر حيزية وبانتقال الشاعر إلى وصف الماضي السعيد يكون قد أقام علاقة وطيدة مع الثقافة العربية خاصة وهو يتحسر على زوال ذلك الماضي ويصف مواطن الجمال فيه. ياحسراه على قبيل كنا في تاويل كي نـوار العطيل شاو نقضـنا ماشفنا من دلال كي ظل الخيال راحت جدي الغزال بالجهد عليا ثاقل سيف الهنود يومي غير باليد يقسم طرف الحديد واللي صمتا ماقتل من عباد من قوم الحساد يمشي مـشي عناد بالفنطازيـا فها هو الشاعر وهو على لسان العاشق (سعيد) يفتخر بنفسه وشجاعته وقوته في مواجهة أعدائه على غرار ما كان يفعله شعراء الجاهلية، ليلج مباشرة بعدها باب النسيب ووصف المحبوب من خلال أبيات حاولت أن تتقصى بدقة متناهية الأجزاء الجسدية الأساسية التي تشكل جمال حيزية: طلقت ممشوط فاح بروايح كي فاح حاجب فوق اللماح نونين بريا إنها الطريقة نفسها والأسلوب ذاته الذي يستعمله امرؤ القيس في قوله: وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كفنو النخلة المتعثكل ثم يستمر "ابن قيطون" في وصف جمال حيزية الأخاذ مستعملا في ذلك صورا استعارية ذات فنية كبيرة خاصة في طريقة اشتغالها داخل النص: خدك ورد الصباح وقرنفل وضاح الدم عليها ساح وقت الحويا حميدة الخد التي شبهها بالدم السائل على خديها زادت البيت شاعرية ثم تشتغل القصيدة على استدعاء معاني القصيدة العربية القديمة على غرار ما جاء في قول الشاعر: شوف الرقبة خيار من طلعة جمار جعبة بلار والعواقير ذهبيا وعلى الطريقة نفسها يصف امرؤ القيس عنق حبيبته: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش إذا هي نصه ولا بمعطل وعلى هذا المنوال ينسج الشاعر بقية أوصاف حيزية في صور جميلة في غاية الدقة والدلالة: الفم مثل العاج المضحك لجاج ريقك سي النعاج عسله شهايـا عينك قرد رصاص حربي في فرطاس سوري قياس في يدين حيزيا ماسواش المال نفحات الخلخال كي نجي علجبال نلقى حيزية وقد يبدو لنا الشاعر وهو ينتقل من موضوع الى موضوع وقد أحسن التخلص كأنه شاعر جاهلي لا تفصله عن الفحولة إلا مسافة اللغة الفصحى ليصل إلى وصف الرحلة والراحلة في قوله: في الليل مصيفين جينا محدورين للصحـراء قـاصدين أنـا وجحاف مغلقين والبارود بنين الأزرق بي يميل لساحة والطوايا ماذا درنا أعراس لزرق في المرداس يدرف بيا خلاص في روحنا حيزيا فالشاعر بصدد وصف الرحلة التي كانت تقوم بها القبيلة ذاكر الأماكن المقصودة ذاكرا حصانه (الأزرق) الذي طالما رافقه في رحلاته وكان صديقا وفيا له، والدليل على ذلك أن موت حيزية الذي سيصفه النص فيما بعد يتبعه مباشرة. كبير من هذا الجواد الأصيل يؤدي به إلى الموت بعد شهر واحد من فراقها. وهنا وفي المقطع الموالي يصل الشاعر إلى وصف الغرض الأساس من هذه القصيدة ألا وهو موت حيزية وهو مركز هذه القصة بل ومنطلقها ومنتهاها يقول: في واد (تيل) يعيد حاطين سماط فريد راسية العيد ودعتني يا خــويا في ذا الليلة وفات عادت في الممات كحل الرمقات ودعت دار الدنيا لضيتها لصدري ماتت في حـجري ودمعة بصري على خدودي مجريا خطفت عقلي راح مصبوغة الألماح بنت النـاس لملاح زادتني كـيا داروها في النعاش مصبوغة الأرماش راني وليت بـاص واش الي بيـا حومتها بالحرير كمخة فوق سرير وأنـا يشير مهلكتني حـيزيـة ياحفار القبور ساسي ريم القـور لا تطيحش الصخور على اللي بيا داروها في القبر والشاش معجر تضوي ضي القمـر ليلة عشريـا ويستمر الشاعر على لسان العاشق يصف وصفا دقيقا مراسيم موت حيزية وطريقة دفنها وحزنه الشديد عليها حتى ليتهيأ للقارئ أنه يعيش هذا المشهد المؤلم بكل حيثياته. وبعد طول حديث عن مغادرة حيزية لهذا العالم نحس من خلاله وفاء كبيرا من العاشق (سعيد) للحبيبة واشتياقا يكابده من جراء فراقه لها، ينتقل بنا النص مباشرة إلى فراغ آخر تركه الصاحب الوفي لهذا العاشق والذي لم يستطع احتماله انه موت الجواد الأصيل ليضيف حزنا جديدا عجز (سعيد) على إثره عن مواجهته، فلم يجد أمامه إلا أن يهيم على وجهه طلبا للصبر والسلوان: عودي في ذا التلول رعى كل خيول واذا والي الهول شاو المشليا ما يعمل ذا الحصان في حرب الميدان يخرج شا والقران أمه الركبيا بعد شهر ما يدوم عندي ذا الملجوم نهار ثلاثين يـوم أورا حيزيا تـوفي ذا الجـواد ولى فـلأوهاد بعد أختي دازاد يحيا في الدنيا ثم وهكذا يستمر في وصف الشاعر وصف الحصان الوفي الذي لحق بحيزية ليختم نصه برثاء غاية في الجمال والإبداع للجواد ولحيزية معا: صدوا صد وداع هو وأختي قاع طاح من يدي صراع لزرق آدابا رب اجعـل لحياة وراهـم ممات منهم روحي الفتات لتنين أزريا نبكي بكى الفراق كي بكى العشاق زادت قلبي حراق خوضت مايا زادت قلبي عذاب مصبوغة الأهداب سكنت تحت التراب قرة عينيا مما سبق يمكن لقارئ سواء على مستوى تعدد المواضيع أو ترتيبها، أو على مستوى اختيار الصور البيانية المعبرة عن بلاغة الشعر الشعبي وقوة تعبيره.
"حيزية" عزالدين المناصرة/ الالهام: كان لا بد لشاعر مثل "عزالدين المناصرة" وقد عاش في الجزائر (1983-1991)، أن يتعلق بها أولا بقصيدة حيزية ثانيا التي رأى فيها هذا الوطن الكبير، وجسر "ابن قيطون" على ماناله من شهرة من جراء هذه القصيدة، فهل هو الذي اشتهر بالقصة أم القصة هي التي اشتهرت به ؟ كلا الجانبين يقودنا إلى واقع ملموس منطلقه امرأة تأسطرت ومنتهاه قصيدة ألهمت العديد من الشعراء وأبرزهم الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة (1986): أحسد الواحة الدموية هذا المساء أحسد الأصدقاء أحسد المتفرج والطاولات العتاق الا ماء الأكف التي صفقت راعفة القوارير أحسدها والخلاخيل ذاهبة آيبة افتتح الشاعر قصيدته بالفعل المضارع "أحسد" وسنرى أن هذا الفعل يتكرر كثيرا على مدار كل أبيات القصيدة، والمسافة بين هذا الفعل والأفعال الأخرى هي مسافة الألم والأمل المسافة بين الجزائر وفلسطين، فهل هو حسد "لابن قيطون" على اسئثاره بقصة حيزية أم هو حسد الجزائر كلها على أنها ما زالت وستظل منبعا للعشق والحب والسلام، أم هو قبل هذا وذاك حسد مغلف بالتمني لوطن مازال يرضخ تحت وطأة الاستعمار (الإسرائيلي) بأن يغدو بلد الحرية العامر بالحب والسلام كما هي الجزائر. حسد "المناصرة" كان كل هذا وأكثر، الشاعر انطلق من الصحراء مثل ما فعل "ابن قيطون" وخاطب الأصدقاء أيضا فكانت الواحة بالإضافة أنها صحراء تمثل المفاخرة والمجهول إلا أنها أيضا تحمل طابع الدموية، طابع السكون الذي لا يحمل أي حركة أو إشارة لثورة منتظرة (أحسد المتفرج والطاولات العتاق الإماء)، الناس يتفرجون مثلهم مثل الطاولات لاشك أن الشاعر مغتاط جدا من أبناء وطنه حتى يصفهم بهذا الوصف، وهو في مقام المقارنة بينهم وبين أبناء الجزائر والمرتكز هو قصيدة حيزية وقصتها، الدليل على ذلك أنه ينتقل مباشرة من وصف الحالة المزرية التي يعيشها أبناء وطنه إلى أجواء الجزائر بلسان حال (ابن قيطون) المعبر عنها في نظره: أحسد الخمر منسابة وعراجينها في ارتخاء وابن قيطون أحسده عاشقا طاف في زرعها وسطيف حقول الشعير الأعالي، ينابيعها ويصل تفاعله مع حيزية إلى أن يجعل من بسكرة، وسيدي خالد هو المرجع والمآل: أحسد المصحف الصّدفي الذي لامستهُ أصابعها سيدي خالدا: عربا وخياما ونخلا، هوى أحسد الشعراء الرواة الذين رأوها على هودج الكهرباء أحسد التمر في بسكرة تحاول هذه القصيدة أن تكون القصيدة المثقفة التي يبحث عنها القراء اليوم من خلال معانقة أو التقاطع مع ثقافات أخرى حيث جمع هذا النص بين حيزية ومريم العذراء وجفرا، حيث التحمت الأولى بالثانية مشكلة جسدا واحدا وروحا واحدة انعكست على الشعبين الجزائري والفلسطيني: أحسد الغابة الممطرة الضفائر أحسدها، ومروج السنابل وابن السبيل رآها مع الفجر ترعى الندى في الحقول الغرانيق أحسدها والبطاريق ثم الحمام الوصيفات أحسدهن إذا ما رمين عليها السلام عليها السلامُ، عليها السلامُ، عليها السلام وعلى المنوال نفسه الذي نسج عليه "ابن قيطون" ينسج عزالدين المناصرة الأول في وصف جمال حيزية والثاني في وصف جمال الجزائر المرأة التي التحمت بحيزية فجعلتها معادلها الموضوعي، فها هو النص الفصيح يسير على درب النص الشعبي في النسيب يقول: أحسد الرمل والعشب والدود في المقبرة أحسد الشمع في كفها ثم حناءها في اليدين أحسد الثوب في الصدر، والفجر في الثغر والموج في........ أحسد الورك من عنب....وله مفترق أحسد الخد في صحنه عُلِّقَتْ غمزة من لجين وفي المقابل نلفي "ابن قيطون" وهو يبدع في وصف جمال حيزية: طلقت ممشوط طاح بروايح كي فاح حاجب فوق اللماح نونين بريا عينك فرد رصاص حربي في قرطاس سوري قياس في يدين الحربيا خدك ورد الصباح وقرنفل وضاح الدم عليه سايح وقت الصحويا الفم مثل العاج المضحك لعاج ريقك سي النعاج عسله شهايا وفجأة ينتقل بك الشاعر من هذا الوصف الجميل المفعم بالأمل والحياة حتى تحس أنك أمام امرأتين إحداهما يتمناها ويطلب كل شيء فيها والأخرى يتأسف عليها وعلى ما آلت إليه، والانتقال لا يأتي هكذا إنما يطبعه حسن التخلص على عادة الشعراء القدماء فحين يهيم معه في ذلك الجمال الخلاب الذي جمع حيزية بالجزائر يتوقف برهة وبخط عريض مخالف للخط الذي كان يكتب به الديوان: رغـم أني نـسيت الضلـوع على مفرق الدرب في جبل في الخليل إنها الخليل مركز العلة في قلب كل فلسطيني مهما تغرب أو عاش بعيدا عن هذا الوطن يذكره " الخليل" بهذا الجرح الغائر في داخله على طول الزمن: لـو رأيتم مع الفجر غـامضة تنتظر مـا الـذي يجعل الفـارس المنتظـر لا يقاتل عن موعد، قرب ذاك الحجر أذكـروا رهبة القتـل بين النخيـل مواجهة المناصرة لابن قيطون وتحدي النص الفصيح للنص الشعبي: لعلّ أهم ما يمكن أن يلاحظه القارئ في نص المناصرة أنه تقصد بناء قصيدته بالسمات نفسها التي بنى عليها "ابن قيطون" نصه فبرزت (تيمة المرأة، الموت، الرحلة، الفخر...) لكن المفارقة تكمن في سعي الشاعر إلى تحدي النص الشعبي بكل شهرته من خلال السخرية و النقد اللاذع، فلم يكن تفاعل قصيدة المناصرة مع القصيدة الشعبيى تفاعل المحاكاة بقدر ما كان تفاعل المواجهة والنقد، حتى قال بعض النقاد: (لقد تفوّق نص المناصرة الفصيح على النص الشعبي الجزائري). اذ يبدو ذلك منذ الوهلة الأولى حينما اختار عزالدين المناصرة رواية أخرى لقصة حيزية كمرجعية لنصه الشعري، والرواية تقول بانتظار العاشق (سعيد) لحبيبته حيزية بين نخيل الواحة حينما جاءت متلفعة بثوب أسود، فظنها أحد الوشاة وأطلق النار عليها ليردها قتيلة، فقد تكون هذه الرواية صحيحة ولعب الخيال الشعبي دورا كبيرا في إخفائها وإظهار قصة أخرى لكن الشاعر تعمد أن تكون حيزية القتيلة وليست الميتة: واحة للمطر عرجت صوبها الفارسة حيث كان دم ينتظر أحمر الشفتين بلون القمر عندما كان يلعب في القفر بين الرعاة تسلل عاشقها كالرذاذ الربيعي بين المروج رأى كومة من عقيق قلادها، ورأى خطأ في عيون السواد فلم تستطع واعتراها الذهول ورأى الظل في الماء مثل الغدول ولعل لجوء الشاعر إلى اتخاذ هذه الرواية كمرجعية بالرغم من عدم شيوعها بالإضافة إلى تحدي "ابن قيطون" هو إيجاد فضاء تتعانق فيه هذه القصة مع قضية فلسطين القتيلة التي قتلت غدرا وخطأ في أحيان كثيرة، يقول بمنتهى الحسرة والأسى: لـو رأيتم مع الفجر غامضة تنتظر مـا الـذي يجعل الفـارس المنتظر لا يقاتل عن موعد قرب ذاك الحجر أذكـروا رهبة القتل بين الـنخيل ثم لا يسع القارئ إلا أن يقف أمام رثاء المناصرة لفلسطين بعد أن وقف طويلا أمام رثاء "ابن قيطون" لحيزية/ فكأننا نسمع نحيبه وشدة حزنه على ضياع بلده: انني واثق أنه لملم الوحشة الواجعة بعد عشرين عاما بكى من جديد موجز ورهيف أساي جمرة البدو أنت، فمن أين جئت تلوبين مختالة في قميص موجز ورهيف أساي حفلة في تلمسان أنت موشحة بأغاني مساء الخميس موجز ورهيف أساي موجز ورهيف أساي ويستمر الشاعر في السخرية من الشاعر الشعبي من خلال اتهامه بحبه الخيالي الذي لم يستطع من خلاله أن يصل إلى حبيبته بينما يفتخر بقدرته هو على النيل من حبيبته وشفاء غليله، وفي كل هذا فهو يعترف أنما يقوده إلى ذلك هذا الحسد الذي يحمله الشاعر ولقصيدته ولحيزية التي سكنت قلوب الناس و"ابن قيطون" غازلها من بعيد ظل في السر يهدي إليها الورود وبعض الرسائل تترك مجهولة في الصقيع على باب خيمتها عبر ساعي البريد وتهمل ملفوفة بوتد إنني واثق أنها لا تفك الخطوط ثم ينتقل مباشرة إلى الافتخار بنفسه وبنيله من حبيبته على مرأى من جميع الناس معترفا بغيرته وحسده: ربما قيل إني أغار وفي القلب مني حسد أيشبهني أحد: كنت غازلتها في الطريق وندهت عموم البلد النقوش التي حفرت في الطسيلي رأتني رأتني جموع الرعاة أمصمصها قطعة قطعة، ورأتني الشياه وتحتدم المعركة بين الشاعرين، وفي تحد كبير يواصل المناصرة مواجهة للنص الشعبي ليصل في الأخير إلى دعوة "ابن قيطون" إلى الوقوف أمام جمع من الشعراء على عادة أهل الجاهلية للحكم بينهما: إذن يا ابن قيطون، هات قصيدتك النائمة تعال إلى منبر قبل بدء الصلاة ليحكم بيني وبينك جمع من الشعراء الكرام ورهط رواة وان لم تثق...فالقضاة هكذا ندرك إدراكا لا شك بعده أن الشاعر أراد من خلال قصيدته التي نسجها على منوال القصيدة الشعبية إظهار قدرته في مواجهة النص الشعبي بكل قدرته على التعبير والوصف وفي الوقت ذاته معارضة والسخرية منه لتكون حيزية مجرد أنثى جزائرية تعبر عن الخصب عن العطاء يسعى لأن يجعلها تعانق الأنثى الفلسطينية الساعية إلى الحب والحرية والسلام، ويقر بذلك في مقطعه الشعري الأخير: قد يضيع كلام الرواة سدى بعد تدجينه في المقرر في الجامعات أو إعادة إنتاجه باختصار في اللجان التي نقّحت كتب المدرسة ربما لم تكن من دم انما نرجسة وأراهن ما عشقت أحدا انما عشقت ذاتها قرب واحات (أولاد جلال) في الفلوات فليكن، فليكن إنني أحسد الغابة الماطرة أحسد النسر في جرجرة أحسد التمر في بسكرة أحسد الرمل والدود والعشب في المقبرة وقد تحقق لحيزية أن تطرق باب العالمية بعد أن ترجمت قصيدة " عزالدين المناصرة" إلى عدة لغات.
#آسيا_بن_عبدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|