|
الهبوط نحو الأسفل
ناهده محمد علي
الحوار المتمدن-العدد: 5899 - 2018 / 6 / 10 - 16:16
المحور:
الادب والفن
الهبوط نحو الأسفل قصة قصيرة الزمان - ٢٠٠٤ / المكان - أطراف بغداد
كنت صبياً حالماً ، طيباً حنوناً ومحباً لمساعدة الآخرين وطالباً مجتهداً ، مررت بسنوات الثانوية بنجاح ثم تعديت السنة الأولى ثم الثانية بالجامعة . كان والدي خياطاً ماهراً يعود إلينا كل مساء بكل مستلزمات الطعام وما نحتاجه من لوازم البيت . وبعد الإحتلال تغيرت حياتنا وأصبح والدي يعود مهموماً فارغ اليدين . وذات مساء سمعنا دوي الطائرات التي كانت تقصف بشكل عشوائي على أحياء بغداد ، شممنا رائحة الحرائق على مدى ثلاثة أيام ، وكان والدي يذهب كالمعتاد إلى متجره ، وذات يوم قبيل المساء جاء أحد أولاد الجيران مهرولاً إلينا مرعوباً وقائلاً : لقد إحترق متجر والدك . هرولنا جميعاً مع مجموعة من الجيران ووجدنا المتجر لا زالت أعمدة النار والدخان تتصاعد منه ، بحثنا عن والدي بين الأثاث المحترق ووجدناه متفحماً وهو منكب على ماكنة الخياطة ، كقطعة خشب يابسة . كان يوم أسود لم أنسه أبداً ، وأصبحت مضطراً للعمل ، فتركت دراستي وأغلقت على جميع أمنياتي وأحلامي . كانت أمي متبرمة دائماً تندب حظها العاثر وتردد دائماً ( ترملت وأنا شابة ، تزوجت وأنا صغيرة وفقدت المعين وأنا لا أزال شابة ) ، كنا نحاول إرضاءها بلا جدوى . تقدم لخطبة أمي ذات يوم أحد أولاد عمومتها ، فقبلت به بدون مشاورتنا ، ولم نستطع أن نثنها عن قرارها . وجدت نفسي فجأة مسؤول عن ثلاث أخوات وأبواب العمل كلها مسدودة . كانت رائحة الموت تحيط بنا من كل جانب ، كنت كلما دخلت إلى البيت أشعر بقشعريرة باردة ، وكنت أشعر بأني غير قادر على إعالة أخواتي ، بحثت طويلاً عن عمل ثابت إلا أني لم أجد إلا أعمال السخرة المؤقتة ، إضطررت أحياناً أن أعمل حمالاً ثم منادياً على سيارات الإجرة وأحياناً في بعض الورش ، لكني لم يكن لدي المال الكافي لأرتياد المقهى ولرؤية أصدقائي القدامى . تعرفت ذات يوم على صديق جديد يتميز بثيابه الأنيقة ورائحته الزكية ، ظننته أحد أولاد الأغنياء ، وإقترب مني قبل أن أحاول الإقتراب منه ، قال لي أنا أعمل في شركة وهذا هو رقم الهاتف . في اليوم التالي ذهبت على العنوان فوجدت عاملاً يقف على الباب تأكد من إسمي ثم أدخلني إلى الداخل ، إلتقيت بصاحبي في الداخل الذي دلني على الشخص المسؤول ، ثم شرح لي هذا المسؤول برنامج عمل الشركة وقال البرنامج يقوم بإلتقاط خادمات للمنازل ومربيات ، وعاملات للترفيه والمساج ، لم أكن أعلم ماذا يعني ذلك . بعد أن عدت إلى البيت إتصلت بصديقي لكي يشرح لي فحوى ما كلفت به ، فقال لي الأمر سهل سنعرض عليك أرقام تلفونات عديدة وعليك أن تُقنع الفتيات بالعمل معنا . وبدأت بممارسة عملي ، وإستطعت أن أجتهد في ذلك ونجحت في تقديم قائمة جيدة من الخادمات والمربيات . بعدها قابلني الشخص المسؤول وذكرني بتقصيري في مجال تقديم عاملات الترفيه المنزلي والمساج ، وقلت : كيف أقنعهن بذلك فقال لي : هذا شغلك . تشاورت مع صديقي وسألته ماذا تعنوه بعاملات الترفيه المنزلي . قال لي لقد وثقت بك إسمعني جيداً ، إن الإسم المعلن لهذه الشركة هو غير الإسم الحقيقي فنحن نتاجر بالفتيات ، وضحك طويلاً ثم قال : المهم هذا وأخرج لي محفظة نقوده الممتلئة . لم أبتسم وأخذت أحدث نفسي إنها واجهة إذاً للأعمال الوسخة ، وما هذه الشركة إلا شركة دعارة تتصيد المحتاجين من أمثالي . بعدها ذهبت إلى السوق لأشتري لوازم البيت ولوازم الطعام ، أخرجت محفظتي ووجدتها مليئة بالنقود ، ترددت بإخراج الأوراق المالية منها ، وشعرت بأنها قد توسخ يدي ، وهممت بالعودة إلى البيت فارغاً ، لكني تذكرت وجوه أخواتي الجائعات ، كما تذكرت إيجار المنزل ، وطأطأت رأسي إلى الأسفل ، كان هذا أول سقطة لي نزولاً عند مخاوفي من الجوع ، فأينما وجهت وجهي أرى المتسولين من حولي يصرخون ( من مال الله ) ، لم أجرؤ على أن أسحب ورقة واحدة لأعطيهم إياها ، وعدت محملاً ومحزوناً إلى البيت . تعودت على العمل لهذه الشركة ، وبدأت أفقد رويداً رويداً معنى كلمة الشرف ولم يعد لها معنى لدي وأصبحت أرى نفسي محظوظاً لحصولي على هذا العمل ، حينما أرى ما يحصل بكل من حولي ممن فقدوا المال والوظيفة والبيت ، وأخذت أتشبث بما لدي . توطدت العلاقة مع صديقي وأصبحنا نخرج سوياً وندعو أحدنا الآخر . ذات يوم دعوته إلى البيت فتعرف على أخواتي ، وبعد أن أكل طعامهن أصبح يطري رقتهن وجمالهن ، ثم قال لي هامساً يا صاحبي إن لديك ثروة ، قلت وأين هي ، قال : هنا في أخواتك ، لم أشأ أن أصدق وتظاهرت بالغباء ، قلت : وكيف هذا ، قال سيعملن معنا ، فكر في الأمر ، وخرج مسرعاً وكآنه يتسابق مع غضبي . وفي اليوم التالي لم أشأ الذهاب إلى الشركة ، وبعد أيام قليلة رن جرس الهاتف تعرفت على صوت مسؤول الشركة يأمرني بالحضور إليه ، ترددت بالذهاب لأني أعلم ما سيطلبه مني ، ثم إنتبهت إلى شحة النقود المتبقية لدي ولبست ملابس متثاقلاً ، كان قلبي يدق بسرعة شديدة وددت لو يتوقف لكي أنفض عن كاهلي مسؤولية أخواتي ، لكن قدماي تحركتا إلى الخارج ، ثم صعدت إلى السيارة التي سلمتني إياها الشركة وتحركت نحو الشركة . وبعد لقائي بالمسؤول ، طلب مني بإبتسامته المعهودة أن أسترخي وأرتاح وقدم لي قدحاً من الشاي ، وقال لي لدي مشروب ، هل ترغب بالشراب ؟، قلت له لا ليس بالنهار ، ثم بادرني بشكل مفاجيء قائلاً : لما رفضت ، قلت له مذهولاً رفضت ماذا ، وكنت أعلم تماماً عن ماذا يتساءل ، لكنني تمنيت أن يكون تساؤله عن شيء آخر ، فقال : ما العيب في هذا العمل ، وهل هناك أعمالاً أخرى تراها من حولنا ، ثم قال : أنا أيضاً أشرك أخواتي في هذا العمل ، وهن الآن كالأميرات ، لا أحد يتجرأ بالحديث عن شرفهن . لديك مهلة إلى يوم غد ، إتصل بي على هذا الرقم . إتجهت نحو السيارة ساحباً قدماي سحباً ورميت بنفسي على المقعد وكأني كنت أمشي اليوم بطوله . بعد وصولي إلى البيت نظرت بوجوه أخواتي وقررت أن أخبرهن ، وبعد العشاء أخبرتهن ، فصرخن صرخة واحدة ، وذهبت مسرعاً إلى غرفتي وكأني إنحدرت من جبل إلى هوة سحيقة ، لم أتصل بالشخص المسؤول ، وفي الصباح كانت وجوه أخواتي غاضبة وشاحبة ، فهربت منهن مسرعاً وتوجهت نحو الشركة فأوقفني في الباب الحارس المسؤول وطلب مني مفتاح السيارة ومنعني من الدخول إلى المبنى ، فهمت ما يعني هذا . عُدت أدراجي إلى البيت وأنا أرتعد خوفاً ، خفت أن أجوع وأخواتي أو أُرمى في الشارع من قبل المالك ، أو أضطر للعودة للعمل في ورش الحدادين أو النجارين ، ولا أستلم منهم غير ثمن الخبز والعدس ولا شيء غير ذلك ، وخفت أيضاً من أن أتنقل من عمل إلى آخر وكثيراً ما يجري الإستغناء عني لأسابيع كثيرة ، فقررت أن أواجه أخواتي ثانية ، وبعد أن إنتهى العشاء أمرتهن بأن يطعنني بذلك الأمر ، فصرخن ثانية وأخذن بالبكاء ، ثم ذهبت الإثنتان إلى غرفتهن ولم أعلم أين ذهبت الثالثة وإختفت فجأة . بحثت عنها في أروقة الدار جميعاً ، كنت أتمنى أن أجدها في الحمام تغسل دموعها ، لكني لم أجدها ، ثم قررت الصعود إلى سطح الدار لعلي أجدها هناك ، صعدت السلم بهدوء لكي لا أثير فزعها ، حاولت فتح باب السطح فوجدته مقفلاً ، تيقنت حينها من أنها على السطح ، حاولت فتح الباب مراراً ثم قررت كسره وكان باباً خشبياً قديماً فكسرته من الدفعة الأولى ، دخلت إلى السطح فأوشك قلبي أن يتوقف ، تحولت حنجرتي إلى صخرة جافة فلم أستطع أن أصرخ أو أبكي كان كل ما أشعره هو الهلع والرعب مما رأيته ، حاولت فك الحبال المربوطة بين جدارين التي شنقت أختى الصغرى بها نفسها ، خلعت الحبل عن رقبتها لكنها كانت قد فارقت الحياة ، وبقيت عيناها جاحظتان كأنها تحدق بي بغضب ، تركتها مُسجاة على الأرض وهرولت إلى السلم ، ظلت عيناها المحدقتان تحيطان بي من كل جانب ، تمنيت لو أن السلالم لا تنتهي أبداً ، وزمجرت في أذني صرخات أبي حينما كان يقول : ماذا قلت لك !؟ ، ألم أقل لك إفتح كتبك لأنها أفضل ما عندك ، ألم أقل لك أن الملابس الأنيقة هي ليست لنا وأفضل منها الأخلاق ، وظل يكرر ألم أقل . وبرقت أمام عيني عيناه الغاضبتان . مرت بقربي بسرعة إحدى أختاي ثم سمعت صراخها على السطح ، أصبحت الأرض تدور بي لكني لم أتوقف من النزول . مرت في خاطري بشكل سريع صور عديدة لذكريات قديمة وكأنها صحوة ما قبل الموت ، تذكرت صورة منارة الجامع المضاءة في ليل بغداد ، وتذكرت حينما كنت صغيراِ ودخلت إلى بيت صديقي ( عبد الأحد ) ووجدت صورة جميلة ( للسيد المسيح ) في صحن الدار ، وكيف كنت أمرر أصابعي الصغيرة عليها بحب ومودة . عدت فجأة إلى حاضري وإستمريت بالهبوط درجة أخرى . تذكرت وجه الفتاة التي أحببتها في السنة الثانية للجامعة حينما قالت لي : سأتزوج رجلاً غنياً وهو إختيار أبي ، هبطت بعدها درجة أخرى من السلم ثم أوشكت على السقوط بعد أن شعرت بدوار قوي في رأسي ، تمسكت بحافة السلم وتمنيت لو أن هناك طريقاً أو مخرجاً آخر نحو الأعلى ، لكن السلم لا يتجه إلا إلى الأسفل ، تمنيت أن لا أصل إلى الأرض ، وكان هناك درجة أخرى للهبوط ، جلست على هذه الدرجة ومددت يدي في جيبي فوقعت يدي على محفظتي الفارغة من النقود . حاولت أن أهدأ قليلاً وعادت لملامحي قسوتها ، حاولت أن أمسح كل الصور من ذاكرتي وأبقيت يدي اليمنى في جيبي الفارغ قافزاً فوق الدرجة الأخيرة من السلم نحو الأسفل .
#ناهده_محمد_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قيمة الذات العربية - بمناسبة اليوم العالمي للطفل
-
نصب الحرية المظلم
-
أطفال التوحد هم نتاج صراعاتنا
-
قراءة نقدية للمجموعة القصصية ( غسل العار ) للقاصة صبيحة شبر
-
حين بكى البابا على فقراء المسلمين .
-
الإرجوحة
-
لونوا العالم بالبرتقالي
-
حين ضاعت المرأة العراقية على طاولة الصراع البرلماني
-
الأطفال وقود النزاعات
-
لماذا نقتل أطفالنا
-
الجذور التحتية للقاعدة وداعش
-
أمهات الدواعش
-
واقع المرأة العربية المعاصرة
-
قراءة نقدية لكتاب قواعد العشق الأربعون
-
الولد الذئبي
-
عرس الدم في الموصل
-
لماذا تُختن المرأة في المجتمعات الشرقية
-
لماذا يُدمن الشاب العراقي على المخدرات
-
حينما يُظلِم المرء من الداخل هل يبحث عن البريق
-
لماذا يضع الإرهابيون اللثام
المزيد.....
-
مركز -بريماكوف- يشدد على ضرورة توسيع علاقات روسيا الثقافية م
...
-
“نزلها حالا بدون تشويش” تحديث تردد قناة ماجد للأطفال 2025 Ma
...
-
مسلسل ليلى الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
فنانة مصرية تصدم الجمهور بعد عمليات تجميل غيرت ملامحها
-
شاهد.. جولة في منزل شارلي شابلن في ذكرى وفاة عبقري السينما ا
...
-
منعها الاحتلال من السفر لليبيا.. فلسطينية تتوّج بجائزة صحفية
...
-
ليلة رأس السنة.. التلفزيون الروسي يعرض نسخة مرممة للفيلم الك
...
-
حكاية امرأة عصفت بها الحياة
-
زكريا تامر.. حداد سوري صهر الكلمات بنار الثورة
-
أكتبُ إليكِ -قصيدة نثر-
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|