|
مقام عراقي بألحان فلسطينية
أحمد أبو مطر
الحوار المتمدن-العدد: 1496 - 2006 / 3 / 21 - 11:36
المحور:
الادب والفن
كيف تصبح الهموم والأحزان العراقية عندما يعزفها مقام عراقي بألحان فلسطينية ؟. لم تتشابه حياة المنفى في داخل الوطن وخارجه كما هي في الحالتين الفلسطينية والعراقية ، فالشعور بالمنفى ليس مقصورا على كونك تعيش خارج الوطن، ربما كان هذا أقرب لتوصيف حالة الفلسطيني ، إلا أنه في الحالة العراقية غير الخاضعة لأي قدرة على التوصيف ، لايمكن فصل الإحساس بمعايشة المنفى سواء كان العراقي داخل الوطن أو خارجه ، والمنفى العربي حالة خاصة يشترك فيها الفلسطيني والعراقي ، فهذا المنفى تصبح قسوته مضاعفة لأنه موصوف ب (العربي)، خاصة عندما يصبح المكان الغريب بدون هذه الصفة أكثر حنوا وحنانا ، يعوضك الوطن المنفى في حالة العراقي والوطن المصادر في حالة الفلسطيني . هذه التنويعات تسجّلها بأداء قصصي متميز الكاتبة الفلسطينية ( نادية عيلبوني ) في مجموعتها القصصية الأولى ( مقام عراقي ) الصادرة في دمشق عن دار ( معد ) عام 2005 . هذه المجموعة من المجموعات القصصية الفلسطينية القليلة التي تلاحق الأحاسيس البشرية بعيدا عن السمة العامة للإبداع الفلسطيني الذي تمحور في غالبيته حول القضية السياسية وتوابعها من فدائي ورصاصة وبندقية وحجر وانتفاضة ومقاومة وسجن وأسير...إلخ ، حيث أنتج الكثير من الإنشاء الرديء مرتكزا على هذه المفردات فقط ومحسوبا على الإبداع الفلسطيني ،إلى الحد أن هناك روايات ومجموعات قصصية هوجمت لأنها قفزت على هذه المفردات وتناولت المشاعر والحالات الإنسانية ، كما حصل مع رواية ( المشوهون ) لتوفيق فياض التي صدرت عام 1963 . وهذا ما حدا بالروائي إميل حبيبي أن يقول: ( أنا أحلم أن تحلّ القضية الفلسطينية حتى يخرج الكاتب / المبدع ( بزقّ ربه ) ويحاسب على عمله الإبداعي ) ، أي بدون الاعتماد على المفردات السابقة التي كانت وما زالت تشحذ العواطف وتجلب التصفيق والهتافات ، وهذا من عمل الخطاب السياسي وليس العمل الإبداعي . هذه المجموعة بأداء قصصي بسيط يعتمد في الغالب على السرد والتوصيف ، تمكنت أن تقدم ثلاثة آفاق من الهموم والأحزان الإنسانية :
أولا: الأفق الإنساني العام وذلك كما في قصص ( لماذا تموت العصافير يا أمي ؟ ) و ( بابا ديكران ) ، حيث إنسانية الأطفال في تعاطفهم مع كل ما هو قريب من طفولتهم خاصة العصافير ، فبعد معاناة مع رفض الأم وعنادها ، انتزع الطفلان الحق في اقتناء عصفورين في منزلهم ، حيث أدخل العصفوران الفرح والسعادة للصغار والكبار رغم حذر الأم وتخوفها ، وجاءت لحظة الخوف الحقيقية مع موت أحد العصفورين ، فأصبحت المشكلة كيف تفسر هذا الموت للصغيرين؟. أن تقول لهما أن العصفور قد مات ! هذا ( سيكون قاسيا عليهما دون شك ) ، إذن فليكن الجواب: طار العصفور !. ولكن هذا كذب ، وأيضا ( لابد من التدرب على حقائق الحياة ) ، ومنها حقيقة الموت . بالطبع واجه الصغار حقيقة أن العصفورة طارت بحزن خفيف ، ولكن البكاء والانزواء كان الجواب على حقيقة أنها ماتت ، لماذا ؟ يجيب الطفل بحس إنساني فلسفي : ( عندما قلت لي إنها طارت لم أحزن كثيرا لأنها أرادت ذلك ، لم تشأ أن تبقى معنا أو في القفص . ولكن أن تقولي لي ماتت وأن أراها مرمية هكذا ، فهذا أقسى . ) . في قصة الأرمني ( بابا ديكران ) تقديم جميل للشخصية الإنسانية لهذا اللاجىء الأرمني الذي لجوؤه من ناحية نفسية رغم تميز حالته المالية عن سكان المخيم ، لا يختلف عن لجوء الفلسطيني ، ورغم ذلك يرحل عن المخيم ، وتترك الكاتبة تخمين السبب مفتوحا للقارىء ،وإن كان قصة الحب التي بدأت تعلن عن نفسها بين ابنته ( آيلو ) والشاب ( منير ) !!. البساطة في وصف وتقديم هذه الشخصية جاء معيارا لإنسانية الإنسان ، فعندما سأله أحد جيرانه من سكان المخيم ، لماذا لا يتزوج ؟ رغم أن الجار يعرف أنه متزوج وتعاني زوجته من حالة تشبه الجنون أو فقدان العقل ، يستغرب ( بابا ديكران ) السؤال ، فيجيبه : - أنا أتزوج ؟ وزوجتي ؟ - الله يعينها يا رجل ويعينك عليها ، كيف تحتمل مثل هذا الوضع ؟ ......................... - لما كان عقله منيح وعقله تمام أنا معه ، ولما صار هيك أتركه وأتزوج ؟!!!
ثانيا : الأفق الفلسطيني معاناة الفلسطيني الإنسانية من جراء كونه لاجئا في المنافي العربية أشد ألما ( وظلم ذوي القربى أشد ضراوة ) ، وتبدو هذه القسوة مضاعفة مقارنة بحنان وإنسانية المنافي الأوربية مع حالة اللاجىء نفسه ، ففي قصة ( ذاكرة من سفرجل ) يمكث ( سالم ) مع أطفاله السبعة سبعة أيام في مطار دولة عربية ينتظر السماح له ولأطفاله بالدخول ليلحق بزوجته وأم أطفاله التي تحمل جنسية تلك الدولة ، وفي اليوم الرابع تصبح أمنيته أن يسمحوا له بالعودة إلى العاصمة التي جاء منها ، ولم تحصل هذه الأمنية إلا في اليوم السابع . وربما تعمدت الكاتبة أن تسبق قصة ( غجر يوغوسلافيا أم بلغاريا ) هذه القصة في ترتيب قصص المجموعة ليقارن القارىء بين معاملة المنفى العربي والمنفى الأوربي الذي يعامل نفس اللاجىء بإنسانية واحترام ، ويعطيه جنسية ذلك البلد الأوربي التي لو حملها ( سالم ) نفسه ، وعاد لنفس المطار العربي لكان التعامل معه مختلفا ، لذلك تتحدث بطلة القصة مع نفسها في مونولوج داخلي ليلة موعد حصولها على الجنسية الأوربية ، يعبر عن أمنية ونفسية الملايين من حملة لعنة و وصمة لاجىء فلسطيني : (غدا..سأكف عن التحدث بلغتي العربية ، لا إنكارا ولا خزيا ، بل لتظل على احترامك لي أيها الموظف الصغير والبائس . لا ..ولن أمنحك الفرصة لتمارس عسفك على انتمائي . ساجعلك تقف عاجزا أمام معرفة أصلي . غدا أريحك من عناء البحث عن هذا الوشم في وجهي ولساني...سأعرف كيف اخفي ذلك الوجع عندما ألقي بك وبأمثالك إلى أقصى عتمات الروح . هناك سأدفنك دونما مآتم أو طقوس . على قبرك سأقف لأعاهدك وأعاهد من علّمك احتقاري بأن لا أغفر...) .
ثالثا : الأفق العراقي يبدو الوجع العراقي في هذه المجموعة القصصية لا يختلف كثيرا عن الوجع الفلسطيني في عمقه الإنساني ، ففي قصتي ( مطر ) و ( مقام عراقي ) التي أخذت المجموعة اسمها ، تختلف أسباب المعاناة ، إلا أنها مدعاة لبكاء كالمطر ، حتى لحظات السعادة والانشراح يتم تقديمه في الإخراج العراقي بما هو بكاء عند الآخرين ، فعندما سمع صديق ( صلاح ) من جارته الأوربية أن يحاول مساعدة صلاح وعرضه على طبيب نفسي ، لأنه كلما يدخل إلى الحمام تنتابه موجات البكاء والصراخ والعويل ، يوضح له ( صلاح ) الموقف : - ولك مخلص أنت ما تعرفني.......هذه عادتي من زمان . آني ما يحلى لي الطرب والغناء إلا بالحمام..شنو نسيت ؟........أي أخوي ، آني أغني في الحمام ...أقرأ مقام ..مقام عراقي !!. وهل كانت حياة العراقي يوما دون صفة مقام كربلائية ؟؟. هذا ما تقوله قصص المجموعة .
في قصص أخرى تقدم الكاتبة مفارقات إنسانية موجعة خاصة المفارقات التي تحصل بين الفلسطيني واليهودي أحيانا ، فنفس البيت أو الحاكورة أو البيارة يدعيها كل منهما ، الفلسطيني عن حق أنتزع منه واليهودي عن حق لقن له ، كما في قصة( السيدة نوفاك ومفتاح لذاكرة واحدة)، وكان قد عبّر عن لقطات مشابهة غسان كنفاني في روايته ( عائد إلى حيفا )، وهذا ما دعى بعض المنظّرين إلى توصيف الصراع الفلسطيني – اليهودي بأنه صراع بين حقين !.
بساطة الإسلوب عبر حوار قصير معبرميّز لغة الكاتبة ، فقدمت المجموعة رؤى قصصية هي ما تتمنى الكاتبة أن تسود في أرض الواقع ، لأنه حسب بعض المدارس النقدية فإن كاتب القصة القصيرة لا يبغي التسلية والترفيه ، ولكن تقديم رؤى يفتقدها الواقع ، ويصبح الواقع القصصي المتخيل في أحيان كثيرة كما في هذه المجموعة ، أكثر قدرة على تقديم الواقع الحقيقي من الوصف والسرد المجردين ، لأن من مهمات كاتب القصة القصيرة أن يعمق إحساس القارىء بواقعه ، ومعايشته معايشة عميقة من خلال السرد القصصي ، أكثر حقيقة من حقيقة الواقع نفسه ، وهذا كان سببا من أسباب نجاح هذه المجموعة التي تستحق القراءة . [email protected] www.dr-abumatar.com
#أحمد_أبو_مطر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف كان سيتصرف الرسول لو كان حيا؟
-
ماذا نريد من العالم: تفاهم أم صراع؟
-
محمد الأسعد يكتشف خطأ في طبعة عربية لمخطوطة إبن فضلان
-
الأردن و حماس..العلاقة والهدف
-
رحلة إبن فضلان..الحلقة الثانية
-
بداية نهاية العقيد
-
رحلة إبن فضلان في بلاد الصقالبة
-
ماذا خسرنا وماذا ربحنا
-
هل كان ذلك إنتصارا للرسول؟
-
وصلت الرسالة الدانمركية...وماذا بعد؟؟؟
-
عن مؤتمر فيينا والمقاومة والعنف والإرهاب !
-
حركة حماس : الغاية تبرر الوسيلة
-
قيس عبد الكريم : الفلسطيني العربي
-
المسلمون في أوربا : كيف يمارسون وجودهم ، تعايش أم صراع ؟؟
-
إدانة القرضاوي وفقهاء قطر..هل تشمل الأعمال الإرهابية في العر
...
-
جنازة الحريري إستفتاء شعبي لبناني على رفض الوجود السوري
-
حول البرنامج السياسي لحزب الوحدة الديمقراطي في سوريا
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|