بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 5883 - 2018 / 5 / 25 - 15:52
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (118)
الدائرة الفنية
بشير الوندي
-------------
مدخل
-------------
العمل الاستخباري – كما اكدنا مراراً - هو عمل رسمي حكومي يستخدم اساليب غير قانونية تقع تحت طائلة القانون , وهو امر يتم انكاره علناً ويحظر التصريح به , فأساس العمل الاستخباري ينبع في الحصول على المعلومات ودرء الاخطار تحت شعار الغاية تبرر الوسيلة .
وبما ان جانباً كبيراً من العمل الاستخباري يتم في اجواء عدائية خلف خطوط العدو او في اوساطه او وسط اماكن نفوذه او في وسط دولته او داخل مناطق نفوذ العصابات , من خلال اشخاص يضعون ارواحهم على اكفهم , لانهم يعلمون جيداً ان عقوبتهم اقلها الاعدام الذي يعد رحمة لهم اذا ماقيس بما سيلقونه من تعذيب بلا رحمة وبلا حقوق , بل وغالباً بلا مطالبات لاطلاق سراحهم لامن منظمات حكومية او اهلية ولاحتى من دولتهم التي ارسلتهم الى الموت .
لكل ذلك , تعمل الاجهزة الاستخبارية على عملية زرع محكمة للعميل كي يبدو منسجماً مع المحيط الذي سيزرع فيه , فزرع العميل كعملية زرع عضو في جسم الانسان , فالجسم سيلفظ العضو المزروع مالم تجرى التحوطات الطبية التي تضمن استجابة الجسم للعضو الغريب بحيث يعتبره عضواً من اعضاءه , وهنا يأتي دور الدوائر الفنية في الاجهزة الاستخبارية التي تتولى احاطة العملاء بكافة المستلزمات التي تؤمن زرع العنصر الاستخباري كل بحسب واجبه ورسمته .
والدائرة الفنية تختلف عن الاستخبارات الفنية ( انظر مبحث 11 الاستخبارات الفنية ), فالاستخبارات الفنية واجبها التنصت والمراقبة والتجسس الفني على العدو , بينما الدائرة الفنية موجودة في كل جهاز لتكييف عناصر الاستخبارات مع الجغرافيا والبيئة وتسهيل عملهم تحت غطاء آخر والتخفي وتحقيق الأمن وحرية الحركة لهم .
--------------------------------
دائرة انتحال الصفات
---------------------------------
مثلما يقوم جهاز الاستخبارات بالاختباء والتمويه في مقراته بيافطات مزيفة لاسباب امنية , فان ضباط وعناصر الجهاز والمخبرين والمتعاونين والمصادر هم أيضا بحاجة إلى انتحال صفة تجعلهم في مأمن وحماية في حركتهم وعوائلهم وسفراتهم ولقاءاتهم وغيرها من الأعمال.
لذا تنشأ في كل جهاز استخباري شعبة أو دائرة أو قسم فني تتولى دور الرسام أو الناحت للعمل الاستخباري ,حيث تنتج أنواع وأشكال الشخصيات والمستمسكات حسب حاجة الجهاز وعمله , بما يتماشى مع أهداف الجهاز لتقليل الصعوبات والمخاطر للعناصر الاستخبارية .
وتتولى الدائرة الفنية رسم شخصية العاملين حسب الجغرافيا والموقف المطلوب ووفق الواجب والمظهر المطلوب , حيث تقوم الدائرة الفنية بتكييف شخصيات العاملين على اساس الجغرافيا والمنطقة والهدف والدور والواجب المناط .
فلو كان هنالك مصدر لابد من ان يأتي من بلده إلى بلد مركز الجهاز ليلتقي ويتدرب لفترة اسبوعين , فهذه السفرة ستحتاج الى تكييف طبيعي حتى لا تثير الشك , من خلال انتحال صفه أو تزوير وثيقة أو جواز أو فيزا , ولو ذهب عميل ليلتقي بمجنديه في إسرائيل فانه يحتاج تبرير تغيبه امام سلطات بلده , فتقوم الدائرة الفنية للمخابرات الاسرائيلية بتأشير جوازه باعتباره سافر الى دولة الصومال , ولاحد هنا للقصص التي لابد ان يختلقها العميل .
كما ان واجبات انتشار المخبرين داخل البلاد او العملاء والجواسيس الواجب زرعهم في بلد معادي , لابد من ان يتم تكييف تواجدهم فيها باشكال لاحصر لها : صاحب شركة , معتوه , بائع متجول , متسول , سائق تكسي , صاحب كشك , عامل تنظيف , سائح , مغترب , مخرج سينمائي , رجل دين , وغيرها من القوالب الواجب تدريب وتهيئة المخبر او العميل او الجاسوس عليها وتعليمه دقائقها واسرارها وتهيئة ازيائها المناسبة والتمرين على لهجات او لغات معينة واتقان فنونها .
ان كل تلك المهارات تحتاج الى تدريبات مثلما تحتاج الى مستندات وهويات وجوازات سفر واية اوراق داعمة , وهي مهام تقوم بها وتهيئها الدوائر الفنية في الاجهزة الاستخبارية .
--------------------
سري للغاية
--------------------
ان الدائرة الفنية من الدوائر شديدة السرية والتكتم في عالم الاستخبارات , لانها دائرة انتاج الممنوعات باختلاف انواعها , ولسبب جوهري آخر هو انها تطلع بحكم عملها على جزء خطير مما يجري التخطيط له في العمليات الاستخبارية , لذا فهي تأخذ اوامرها من أشخاص معدودين في جهاز الاستخبارات
كما ان اعضاء الدائرة الفنية لا ينفذون الأوامر , بل يطلعون على الواجب ونوع الخدمة للشخص أو المجموعة والجغرافيا , وقد يقترحون الوجوه أو الشخصيات المناسبة للمهمة وبعد الموافقة يجرون عليهم كافة التدريبات ويزودوهم بكل مايحتاجونه من معلومات تكفي لنجاحهم في اتقان الشخصية المطلوبة .
ومسؤولو الدائرة الفنية هم من يحددون ان كان العميل جاهز للمهمة ام لا , لانها مسؤوليتهم , الا انهم في الغالب لايعرفون الاسم الحقيقي للعميل الذي تبقى تفاصيله الشخصية الحقيقية محصورة في اضيق نطاق .
--------------------------
فنانون وافّاقون
--------------------------
ان هنالك تشابه كبير بين تهيئة العميل ليمتهن مهنة ما كغطاء لاعماله الاستخبارية , وبين اعمال فن التمثيل , فيجب على الفرد أن ياخذ جرعة تعليمية يعرف من خلالها كيف يتصرف ويتكلم وماذا يلبس وأين يقف وكيف يتحاور , فهو ممثل وعليه أن يجيد الدور المناسب حسب الواجب.
فاعمال الدائرة الفنية يشتمل على اتقان لاعمال الازياء وكافة انواع المكياجات الى تزوير الهويات والوثائق والشهادات والاوراق المزورة الى خبراء في اللغات والعادات واللهجات والاقتصاد والعلوم المنوعة والى خبراء فتح الخزائن والتصوير وغيرها من مهام لاحصر لها .
لكل ذلك تستقطب الدائرة الفنية متقني مختلف المهن بما فيهم المجرمين من اصحاب السوابق , فهي تحتاج الخبير الطباعي والخطاط والرسام والمزور وسارقي البنوك والخزائن المحترفين وخبراء الحاسوب والهكرز وخبراء بالادارة والاقتصاد والتجارة والقانون , واختصاصات اخرى بحسب الحاجة .
كما تحتاج الدوائر الفنية الى امكانات هائلة واجهزة ومعدات واماكن تدريب حتى انها تحتاج – كما هو الحال بمهنة التمثيل – الى استوديوهات , واحياناً الى مدن انتاج اعلامي مصغرة
فقد قامت الكثير من الاجهزة الاستخبارية المحترفة الكبرى كالمخابرات السوفيتية والامريكية وغيرها ببناء مدن مصغرة تحاكي كل منطقة منها عاصمة من بلد ما , فجزء يحاكي لندن واخر يحاكي باريس وثالث يحاكي الهند ورابع يحاكي بغداد... وغيرها .
فكان يجري تدريب مجموعات يراد زرعها في تلك البلدان من خلال معايشة كاملة تشمل الاطعمة والعادات والتقاليد والعملات والمواد الغذائية والصحف اليومية واللغة واللهجة الخاصة ووسائط النقل العامة والخاصة وتوفير اجواء شبيهة باجواء تلك العواصم , في اجواء محكمة الدقة بأدق التفاصيل التي تصل الى حد حفظ الاغاني والمطربين والمشاهير ونجوم الرياضة والادب , بحيث يتخرج العميل السوفيتي او الامريكي وكأنه ممن ولدوا في حي سوهو اللندني الشهير , او كأنه مغترب سوري عاش كل حياته في البرازيل او تاجر الماس من جنوب افريقيا , فيتم تزويده بالوثائق التي تدرب على التكيف معها ويسافر ليحقق نتائج باهرة , انظر (مبحث 82 المحاكاة) .
ولاشك من ان تلك الاساليب تم تطويرها من خلال الاجهزة والمعدات والاساليب الفنية المتطورة لاسيما وان المتدربين في غالبيتهم ممن لهم اصول من الجيل الثاني والثالث من تلك البلدان , كما ان التدريب اصبح اسهل من خلال الولوج الى العالم الافتراضي , فيمكن للعميل أن يتعايش مع البيئة المستهدفة من خلال الفيسبوك وتويتر , وأن يتعرف على تصرفات وامزجة الناس وتفكيرهم واساليبهم من خلال العالم الافتراضي بشكل أفضل ومباشر وأن يبني علاقات وصداقات وهو في بلده من خلال انتحال شخصية من البلد المستهدف.
-------------------------
تزوير الوثائق
-------------------------
تمتلك الدوائر الفنية مختلف الاختام والورق الخاص بالجوازات الخاصة بالكثير من بلدان العالم بالاضافة الى سجلات تجارية مزورة وكافة التقنيات الكفيلة بتزويد العملاء بكل مايحتاجونه بحيث لايوضعون في موقف في مطار او دائرة في البلد المستهدف وهم حائرين , بل قد يزودون بوثائق اخرى يستخدمونها للطوارئ او عند الاحساس بالانكشاف والحاجة للهرب السريع .
ان الوثائق المطلوبة التي يزود بها رجل الاستخبارات هي على احد شكلين , اما ان تكون وثائق مزورة او وثائق حقيقية لكن معلوماتها مزيفة , والنوع الثاني هو الافضل الذي يطمئن له العملاء .
والفرق بين النوعين , ان الجواز الاسترالي المزور – مثلاً - هو جواز تم طبعه وتقليده على الجواز الاصلي وتم املاءه بمعلومات مزيفة , اما الجواز الاصلي فهو جواز استرالي حقيقي صادر في استراليا وله اوليات في سجلات الجوازات هناك تم التحصل عليه بطرق مختلفة ,وجرى تحريف بعض المعلومات فيه لتناسب العميل .
ولعل من اشهر العمليات التي استخدمت فيها وثائق حقيقية , هي عملية اغتيال القيادي الفلسطيني (محمود المبحوح ) في الامارات عام 2010, والتي كشفت عن ضلوع الموساد بالحصول على وثائق حقيقية لجوازات كندية وبريطانية وايرلندية وغيرها , بالاضافة لجوازات لمهاجرين توطنوا في اسرائيل وجرى سحب جوازاتهم التي هاجروا بها من بلدانهم واعطوا بدلها وثائق اسرائيلية .
وعلى العموم , تراعي الدوائر الفنية ان تتوافق اختامها على الوثائق مع تواريخ الاصدار باعتبار ان الدول كافة تغير اختامها بين فترة واخرى , بل يتم تسجيل ذات اسم الضابط الذي يوقع على الجوازات في تاريخ ما .
وتتراكم الخبرة في الدائرة الفنية بمرور التجارب والأدوار وتتفوق في عملها بكسب الخبراء والمزورين المحترفين , فيجب أن يثق عنصر الاستخبارات بأن الهوية أو المستمسك الذي زود به حقيقي , والا سوف يخاف منه ويرتبك ويصبح سببا في كشفه.
وعدا عن ذلك فان الاجهزة الفنية في اجهزة الاستخبارات المحترفة تزود عناصر الاستخبارات المكلفين بواجبات بهويات مدنية حتى في بلادهم , فمن المهم ان لايبرز رجال الاستخبارات هوياتهم الخاصة بالاستخبارات او المخابرات في اي مكان , الا ضمن نطاقات محدودة , وهو امر هام للغاية .
فعندما استولت داعش على مدن عراقية , كان اول الهاربين هم عناصر الاستخبارات ولم يبقى منهم احد , وهو دليل واضح على عدم انتهاج السرية فكانت هوياتهم التي يحملونها تذكر انهم ضباط وهي هويات قاتلة لهم , فلم يتح لهم البقاء والتخفي بين المواطنين فاضطروا للهرب , فلو كانت اجهزة الاستخبارات قد زودتهم بهويات عامة , لاستطاعوا التخفي بين الناس في الموصل او الانبار والبقاء والعمل برغم وجود داعش .
ويتم استحصال الهويات المستخدمة في الدائرة الفنية داخل الوطن بأحد طريقين :
1- أما أن يتم التنسيق مع الوزارات الحكومية كالتربية والداخلية والدوائر الأخرى , فتأخذ منهم تسلسلات أرقام بطاقات ولوحات سيارات تطبع في الجهاز الاستخباري لكن في الدول المتأزمة يعتبر هذا نوع من الكشف , وبالفعل كان يتم اغتيال عناصر الدوائر الاستخبارية الذين كانوا يركبون عجلات بارقام تسلسلية معينة نتيجة تسريب معلومات من داخل دوائر المرور الى الارهابيين .
2. ان يقوم الجهاز بطباعة الهويات من عنده دون التنسيق مع اية جهة , وهذا أكثر سرية شريطة الانتباه الى بعض المحاذير .
------------------------------------
ضوابط الوثائق المزورة
------------------------------------
ان هنالك عوامل لابد من توافرها في الدوائر الفنية من اجل اصدار الوثائق المناسبة منها :
1-البيئة :فيجب أن يكون الإصدار ضمن بيئة العمل ( فلايمكن ان تزود العميل بهوية عقيد ركن في قرية حدودية صغيرة , لان كشفه سيكون سريعا).
2-الجغرافيا : تؤخذ الجغرافيا بنظر الاعتبار لمعرفة ما في تلك المنطقة ( معسكر , معمل , منطقه سياحة ) , فالعميل الذي تزرعه في البصرة ستكون هويته المناسبة هوية مخلِّص كمركي ولكنها لاتصلح في الحلة لانها مدينة غير حدودية )
3- الفرادة: يجب أن لا يتكرر الإصدار لاكثر من عنصر .
4- الانسجام :لابد ان ينسجم الإصدار مع حامله في الهيئة والهندام والتصرف والثقافة , فلايمكن ان تزود العميل بهوية ضابط وهو سيء القيافة والهندام ولايحلق لحيته , او ان تسميه في الهوية عبد الحسين وانت تريد ان تزرعه في الانبار.
5- الفائدة : يجب أن يكون الإصدار مفيدا للعميل وليس خطراً عليه , فلو كلفته بواجب اختراق عصابة مخدرات في البصرة لايمكن ان تزوده بهوية ضابط شرطة , والا عرضته لخطر جسيم.
6- الابتعاد عن الهويات التقنية التخصصية : فمن الصعب ان تزود العميل بهوية طبيب جراح , او فني كومبيوتر , او مهندس معماري , لان كشفه سيكون سهلاً مالم يتقن المهنة , والافضل هي الوثائق ذات العمومية .
7- اللغة واللهجة :الانتباه إلى اللغة واللهجة التي يتقنها حامل الوثيقة المزورة , فلو زودته بجواز جزائري وهو لايعرف اللهجة الجزائرية سيتم كشفه.
8- العامل النفسي : لابد من زرع الثقة لدى حامل الوثائق بان الوثائق متقنة ولها اصول في السجلات .
9- اتقان القوانين والمعلومات العامة : لابد من اخضاع حامل الهوية المزورة الى تثقيف مركز تبعاً لهويته , فهوية شرطي المرور مثلاً تتطلب من حاملها ان يعرف قوانين المرور , وهكذا .
------------
خلاصة
------------
لو ان سلطات الامن اقتحمت وكراً لعصابات التزوير , لما اختلفت مضبوطاتها عن تلك الموجودة في داخل دوائر حكومية مغلقة ومكيفة في اجهزة الاستخبارات , ولو ان مخرجاً احتاج الى ممثلين قديرين ذوي صبر , لما وجد خيراً ممن اجتازوا دورات محكمة في فن التمثيل لدى الدوائر الفنية في اجهزة الاستخبارات , بل انهم لم يكتفوا بالدراسة النظرية وانما طبقوا تمثيل ادوارهم في اجواء معادية خطرة , ولو قلت لصاحب سوابق من المزيفين والمزورين او سارقي الخزائن او الهكرز , ان بامكانه ان يعمل بوظيفة معادية لعمله لاعتبرها نكتة سمجة , لكنه لايدري ان هنالك ضباط استخبارات مهمتهم البحث عن الفنانين من هؤلاء الافاقين لاغرائهم بالعمل الحكومي الرسمي باختصاصاتهم ...هذا هو باختصار العمل في الدوائر الفنية المحترفة بدوائر الاستخبارات , عسى ان نصل الى الاحتراف الاستخباري يوما , والله الموفق .
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟