|
امرأة من حديد!
مظهر محمد صالح
الحوار المتمدن-العدد: 5880 - 2018 / 5 / 22 - 02:38
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
امرأة من حديد! GMT 18:09 2016 الجمعة ,01 إبريل / نيسان
مظهر محمد صالح من بدائع التشخيص التي عثرت عليها، هي تلك الورقة الفضية التي مدت على بساط الحقيقة لتهيئ لي فرصة الشعور بخلود رجالات الأمة العراقية، ودوام إرادة الحياة التي تتوارى فيها فكرة النهاية والتطلع إلى المستقبل. فحقا بين ثلاث زعامات سياسية عراقية عملاقة، أثرت في التاريخ السياسي والاقتصادي المعاصر للبلاد بعطائها في القرن الماضي، منحت الأمة بالمقابل ثلاثة من عباقرة العمارة، وهم أبناء او أبناء عمومة تلك النخبة التي أرست بدورها ولادة الدولة العراقية الحديثة، ودافعت عن الديمقراطية وبناء الحريات والتقدم في تاريخها الوطني الحافل. فمثلما شكل رفعت الجادرجي، نجل السياسي الراحل كامل الجادرجي، واحدة من الزوايا الحادة في العمارة العراقية. فقد شكل هشام المدفعي، من عائلة رئيس وزراء العراق الأسبق الراحل جميل المدفعي، بنفسه الزاوية المعمارية القائمة التي تحاكي مثلث القوة السياسي في بلاد الرافدين. ولم تكتمل زوايا مثلث القوة، إلا عندما زينت المعمارية زهاء حديد، كريمة الزعيم السياسي والمفكر الاقتصادي وزير مالية العراق الأسبق، رائد الصناعة العراقية الراحل محمد حديد، زوايا مثلث قوة الأمة العراقية. تلك المرأة المعمارية التي ميزتها مجلة نيوستيتمنت البريطانية في العام 2010 من بين أول خمسين شخصية مؤثرة في العالم. انفردت المعمارية زهاء حديد والى مدى بعيد، بالرؤية المستقبلية في تصميم هياكلها المعمارية التي غالبا ما تأخذ أشكال ذات انحناءات طويلة وقوية. وهي حسب القراءة المعمارية، فأنها من الصنف الذي يستخدم نمطا من أنماط الرياضيات التجزيئية، من حيث التعامل مع النقاط والخطوط والسطوح، مع توافر القوة والصلادة والاستقرار، بما يمكّن من استيعاب فوضى الحياة العصرية!. فبالقدر الذي برعت فيه زهاء حديد في فن تصميم العمارة العصرية لتحصل في العام 2004 على جائزة علمية نادرة مماثلة لجائزة نوبل، من حيث مكانتها العالمية تسمى جائزة pritzker التي تعد من أعلى الأوسمة المعمارية في العالم، فإنها برعت في فن تصميم الملابس والأحذية النسائية والأثاث وبشكل لافت! اتخذت زهاء حديد، بناية مدرسة من العصر الفيكتوري في لندن، من دون أن تغفل أن رمز مدرسة العمارة الإسلامية البغدادية والكوفية التي أسسها العملاق المعماري محمد مكية يسكن إلى جوارها لتزهو به ويزهو بها ويزهو العراق كله بهما. إنهما عملاقا مدرسة بلاد الرافدين في تأسيس التراث المعماري العالمي. التقيت شخصيا بزهاء حديد في مساء يوم رمضاني من شهر آب 2010، ضمن حشد رسمي من رجالات العراق على فطور عمل، اختارت هي بنفسها مكان مائدة إفطارنا الذي كان مطعم شعبي في اسطنبول، ويدلك المكان من فوره بأنه شديد في عراقته، فسيح في مجلسه، وتسرك في الوقت نفسه بساطة رؤيته، يقع المكان في وسط اسطنبول، ويسمى مطعم اسطه رجب الطاوجي، اذ يبتدئ المطعم وجبات إفطاره، وفق التقاليد الموروثة، بتقديم نوع من ألبان اسطنبول، التي تصنع تقليديا في قرية متخصصة بهذه الألبان، تقع قريبا من ضواحي المدينة نفسها. كان مطعم اسطه رجب الطاوجي، يحاكي حقا من موقعه بوابات السماء التي انفتحت وقتها على حزمة ساطعة من سلاسل نجمية لامعة أحاط طيفها قلب اسطنبول، الذي اخذ يجرف تيارات الظلمة من حولنا، وهي مسرعة هاربة من حالة الوجود إلى اللاشيء! جلست زهاء على الطاولة نفسها التي جلسنا عليها، ومن الجهة المقابلة لنا، مع فريق عملها من المهندسين، وقدمت من فورها بطاقة عملها التعريفية لنا جميعا، وتطلعت في تلك البطاقة لأجد أمام عيني مستطيل من المقوى شديدة البساطة في تصميمه، خال من الألقاب أو التزويق إلا اسمها واسم عائلتها. وانك تحس من الوهلة الأولى، أن هذه المرأة العالمية لا تنتمي، إلا لمدرسة واحدة هي مدرسة العراق!. لم يأخذ الحديث في تلك الساعة همومها المعمارية، ولم يشغلها إلا التحدث عن مصير تلك العائلة البغدادية من الطبقة الوظيفية المتوسطة التي كانت ظروف حياتها تسمح لها في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته أن تقضي بعض عطلة صيفها في انكلترا، مثلها مثل الكثير من الطبقة الوسطى العراقية!. ولكن لم تترك الحياة لهم بعد عقود من الزمن من فرصة، بعد أن حاصرتهم أوضاع البلاد الاقتصادية والمعاشية في تسعينيات القرن الماضي لتسحقهم عجلة البؤس التي توافرت بحرية واسعة، وهي تتجاهل مشاعر الناس وتطحن جوعهم، ما اضطر العائلة إلى بيع مدفئة شتائها في أوقات البرد التسعيني القارص لتعوض عنها برغيف خبز، كي تستمر الحياة عندها، ولو بأدنى صورها الممكنة، للتلاحم مع شغف العيش والصراع من اجل البقاء من دون هدف يذكر! تحدثت زهاء بحرقة وعاطفة جياشة عن حال العائلة التي تعرفها بنفسها، وحال اهل العراق جميعا في أزمنة العوز والفاقة وعيناها تدمع. إنها المرأة الحديدية صاحبة القلب الكبير. ونحن نستمع إليها دون أن تعلم أني احد من استبدل مدفئته النفطية بأقراص خبز سمراء في تسعينيات القرن الماضي، ولو سألت زهاء حديد الجلوس كلهم في تلك المأدبة العامرة لوجدت عند كل واحد منهم قصة في الحزن الإنساني! فبين زمنين متناقضين، أسهم والدها السياسي الوطني والاقتصادي اللامع الراحل محمد حديد في تأسيس عناقيد أو شركات الإنتاج الصناعي، يوم امتلأت أسواق البلاد بوسائل التدفئة والتبريد والسلع الوطنية الصنع، في ظاهرة لتنويع الإنتاج الصناعي للعراق. لننتهي حقا بعدها إلى عقود مؤلمة، وأوضاع اقتصادية ممزقة، وأزمنة خلت من عجلات إنتاجها، استبدل فيها الناس ما بحوزتهم من منتجات صناعية وطنية، من الماضي المشرق بخبز الزمن المتردي! لقد قايضت البلاد حقا عصور تقدمها وازدهارها، التي أسسها رجالات الأمة وبناة نهضتها الحديثة، من قبيل محمد حديد وضياء جعفر وإبراهيم كبة وغيرهم، بعصور هاربة نحو المجهول، إلى عصور التنمية الضائعة وخراب الصناعة واندثار معالمها، في اقتصاد مبهم خال من دواليب إنتاجه! لعل أن تعيد لنا مدرسة العمارة العراقية منطلقات حداثتها في بناء عراقي عصري آخر، وبأصابع حديدية، قوامها قلم زهاء حديد وقبضة محمد مكية، وغيرهم من رموز العراق الوطنية المعمارية، من اجل الخطو نحو مستقبل جديد للاعمار، بدلا من ان نتعثر في دفن أنفسنا في الظلام والمجهول والخوف من المستقبل، والتمتع بالعيش في اللامعنى الذي ما زال يخلو من إرادة أفذاذ، يصنعون لنا الغد، وتؤازرهم امرأة من حديد!
#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عالم مسطح ..!!
-
القمامة و صندوق النقد الدولي
-
الرقص مع الذئاب..!
-
مسابح العنصرية
-
العبودية في القرن الحادي والعشرين!
-
تقسيم العمل..ثروة أم اغتراب؟
-
غزوة المتحف..!
-
ليلة الهروب
-
صبي تحت الشمس..!
-
النفط والحليب من دين واحد
-
نساء في اقتصاديات العمل
-
فندق الاسرار!
-
سرب الحمام..!
-
العتاد المسروق
-
جزيرة السعادة..!
-
في انتظار كافكا..!
-
اشياء لا تموت!
-
ميشيل فوكو.. حوارٌ لاينقطع !
-
جيفارا والعراق
-
موعد مع الإمبريالية
المزيد.....
-
جريمة تزويج القاصرات.. هل ترعاها الدولة المصرية؟
-
رابط التسجيل في منحة المرأة الماكثة في المنزل 2024 الجزائر …
...
-
دارين الأحمر قصة العنف الأبوي الذي يطارد النازحات في لبنان
-
السيد الصدر: أمريكا أثبتت مدى تعطشها لدماء الاطفال والنساء و
...
-
دراسة: الضغط النفسي للأم أثناء الحمل يزيد احتمالية إصابة أطف
...
-
كــم مبلغ منحة المرأة الماكثة في البيت 2024.. الوكالة الوطني
...
-
قناة الأسرة العربية.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي ش
...
-
تتصرف ازاي لو مارست ج-نس غير محمي؟
-
-مخدر الاغتصاب- في مصر.. معلومات مبسطة ونصيحة
-
اعترف باغتصاب زوجته.. المرافعات متواصلة في قضية جيزيل بيليكو
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|