منذ أن نالت البلدان العربية استقلالها قبل نحو نصف قرن وشرعت في إقامة وتحديث أنظمتها السياسية بما في ذلك إطلاق مشاريعها وخططها التنموية الشاملة والقضية التي ما فتئت تحاصر هذه الأنظمة وتشرئب بعنقها بين حين وآخر في ضوء إخفاقاتها الذريعة في التحديث والتنمية هي تغييب الديمقراطية، حيث بات هذا التغييب هو العلة ومكمن الخلل الرئيسي في مشاكل هذه الأنظمة وتخلفها عن ركاب الأمم "المحترمة" حتى لا نقول الأمم "المتحضرة"•
لقد تمترست غالبية الأنظمة العربية لتبرير وتسويق تغييب الشرعية الدستورية والديمقراطية باستعارتها شرعيتين مصطنعتين تحلان محل الشرعية الدستورية المفقودة فقسم من هذه الأنظمة حكم باسم "الشرعية الثورية" وعلى وجه الخصوص الأنظمة القومية التي بررت تغييب الشرعية الدستورية بأولوية المعركة القومية مع العدو الإسرائيلي ومن ثم حاجة الجبهة الداخلية الى الوحدة والتماسك رافعة شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" ذريعة للجم الصوت الآخر•• واستمر الوضع على هذه الحال سنوات طويلة امتدت عقودا فكان لا بد أن يستنفد هذا الشعار غرضه ومبرره وبخاصة في ظل الهزائم المروعة، المتواصلة مع العدو فضلا عن فشل عملية التحديث والتنمية•
أما القسم الآخر من الأنظمة العربية فقد حكم باسم الإسلام والخصوصية المحلية ورفع شعارات دينية فضفاضة لتبرير شرعية نظامه وللابتعاد عن اليسار والشعارات الليبرالية في آن واحد جنبا الى جنب مع تبرير التحالف مع الغرب•
وكان لا بد أن يستنفد هذا القسم هو الآخر غرضه ومبرر شعاراته وشرعيته الدينية الصورية وبخاصة مع صعود الإسلام السياسي "الثوري" الذي فضح نفاق وتشدق هذه الأنظمة بالإسلام وكذلك نجاح قوى هذا الإسلام السياسي في استقطاب مجاميع واسعة من الجماهير المحبطة وتعبئتها ضد تلك الأنظمة التي تحكم باسم الإسلام ومن ثم سحب البساط من تحت أقدامها بصرف النظر عن مأزق فكر قوى الإسلام السياسي وأساليبه النضالية للتغيير•
ثمة ثلاث محطات رئيسية دقت ناقوس الخطر بشأن القضية الديمقراطية التي فرضت نفسها بقوة على هذه الأنظمة بغية إصلاحها قبل فوات الأوان:
المحطة الأولى: وقد برزت بعد نكسة 1967 وكانت دول الطوق "مصر وسورية والأردن والعراق" هي أكثر الدول التي كانت المسألة الديمقراطية منتصبة أمامها في ضوء الهزيمة المدوية التي ألحقها العدو الإسرائيلي بجيوشها، لكنها استطاعت جميعها بشكل أو بآخر أن تناور وتلتف حول استحقاق هذه المسألة وتؤجل النقاش فيها بحجة التفرغ لخوض معركة تحرير الأراضي العربية المحتلة الجديدة وإزالة آثار العدوان وخاصة أنه جرى هذا التبرير في ظل غياب الوعي الجماهيري الكافي بأهمية الديمقراطية في الحكم•
المحطة الثانية: وقد برزت هذه المحطة عشية انهيار الاتحاد السوفييتي وغداة انتهاء حرب الخليج الثانية في مطلع التسعينات وكانت المسألة الديمقراطية مطروحة على وجه الخصوص حينها على أنظمة مجلس التعاون وذلك في ضوء فشلها الذريع في توقع الغزو العراقي الغاشم على الكويت أو التصدي له فضلا عن تورط هذه الأنظمة في تمويل النظام العراقي قبلا والتحالف معه في حربه على إيران، علاوة على ذلك فإن كل أنظار العالم كانت مشدودة الى مدى تفاعل الأنظمة العربية مع رياح التغيير التي هبت على العالم بعد سقوط الأنظمة الشمولية الشيوعية ورفع شعارات حقوق الإنسان والشرعية االدستورية والتعددية السياسية•• الخ•
لكن الأنظمة العربية - وبخاصة تلك التي لم تتبن أي شكل من أشكال الديمقراطية - لم تكترث بجرس الإنذار في هذه المحطة أيضا والتفت بشكل أو بآخر حول هذه المسألة باستثناء بعض الدول التي أعلنت استئناف الحياة البرلمانية أو تبني شكل من الأشكال الديمقراطية أو تطوير التجربة القائمة "المغرب"•
المحطة الثالثة: وهذه المحطة فرضت نفسها بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 الأمريكية، وكان أبرز مؤشر للتعاطي معها تلميحات سعودية خجولة بإجراء إصلاحات بالتزامن مع ضغوط أمريكية على عدد من الدول العربية بإصلاح التعليم الديني والإصلاح السياسي عامة وهي الضغوط التي تتوجت رسميا بمبادرة أمريكية حول الشراكة مع الشرق الأوسط وهي المبادرة التي ووجهت باستخفاف ورفض عربي حازم•
لعل من سوء حظ الولايات المتحدة والعرب معا أن المبادرة التي أطلقتها الأولى لمساعدة الأنظمة العربية على إصلاح ودمقرطة أنظمتها السياسية والتي جاءت عبر خطاب لوزير خارجيتها كولن باول في ديسمبر الماضي ألقاه أمام "مؤسسة التراث" الأمريكية•• لعل من سوء حظ الولايات المتحدة والعرب معا أن هذه المبادرة أطلقتها ليست دولة فقط ذات سجل حافل عريق بالسياسات والمواقف المنحازة لعدوهم الإسرائيلي الذي تدعمه بكل أشكال الدعم غير المحدود السياسية والاقتصادية والعسكرية، بل ولأن هذه الدولة العظمى اختارت أسوأ توقيت لإطلاقها حيث بلغت فيه الكراهية العربية للولايات المتحدة ذروتها في ظل حملتها العشوائية على الإرهاب التي تطال الكثير من الأبرياء العرب والمسلمين داخل الولايات المتحدة وخارجها وفي ظل إغماض أعينها عن تصاعد حملات الإبادة والقمع والترويع التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني على أرضه، إن لم يكن مساندة جرائم الاحتلال الوحشية وتبريرها، وصولا الى تهديداتها وحشوداتها المتصاعدة بضرب العراق غير عابئة بالرأي العام العالمي المعارض للحرب دع عنك الرأي العام العربي•
لكل ذلك لم يكن مفاجئا أن يكون رد فعل معظم القوى والنخب السياسية والثقافية العربية تجاه مبادرة كولن باول معارضا ومستخفا بشدة لها، كما لم يكن مفاجئا، والحال كذلك، أن يكون موقف الأنظمة العربية غير الديمقراطية تجاه المبادرة هو التجاهل واللامبالاة لأنها الأكثر استفادة من هذا الموقف الشعبي الرافض للمبادرة الأمريكية•
لقد نبهنا في مقال سابق غداة إعلان مبادرة كولن باول بأهمية التعاطي الإيجابي مع المبادرة والحوار مع الولايات المتحدة حول آفاق تطويرها وتدارس كل الملاحظات التي يمكن أن تؤخذ عليها بصرف النظر عن المعاناة المريرة الطويلة التي يختزنها العرب من جراء سياسات ومواقف الولايات المتحدة غير العادلة تجاههم واستحقاقاتها• لكن للأسف لم يجر هذا التعاطي العربي المفترض مع المبادرة على قاعدة تدارسها بعقل وقلب مفتوحين بما يخدم مصلحة الشعوب العربية•
وكان الدكتور إبراهيم كروان "مدير مركز الشرق الأوسط بجامعة يوتاه الأمريكية" من أبرز قلة من المحللين والباحثين السياسيين العرب الذين انتقدوا واستغربوا تسرع ردود الفعل العربية السلبية هذه حيال المبادرة الأمريكية لمساعدة الدول العربية على دمقرطة وإصلاح أنظمتها السياسية، وهو د• كروان يعد من الشخصيات الأكاديمية المرموقة التي تتمتع بمنهجية بحثية ذات مواقف عقلانية ناضجة ذات نزعة ليبرالية - قومية وذلك كما لمسناها من بعض كتاباته ومن حوار صحافي شامل أجريناه معه في أوساط تسعينات القرن الماضي•
وأكد كروان أن المبادرة تلخيص جيد لمجمل الأفكار والمطالب العربية بالإصلاح السياسي والديمقراطية منبها بأنه ليس أمام العرب سوى واحد من ثلاثة خيارات تجاه المبادرة: إما تجاهلها بالمطلق، وإما التفاعل الإيجابي معها، وإما أن يمتلك العرب شجاعة تقديم البدائل المستندة الى الاعتراف بمأزق تغييب الديمقراطية، ومن ثم الطلب من أمريكا بمساندتهم في تفعيل هذه البدائل بالنظر الى مسؤوليتها الأخلاقية والدولية عما لحق العرب من ظلم تاريخي وإجحاف بسبب سياساتها•
مهما يكن فإن الخاسر الأكبر من هذا الموقف السلبي المتشنج من المبادرة الأمريكية لإصلاح الأنظمة العربية هو الشعوب العربية وقواها المعارضة في حين أن الرابح الأكبر من هذا الموقف لكسب الوقت وتسويف القضية الديمقراطية هي الأنظمة الاستبدادية المترهلة•
وربما تتفرد المملكة العربية السعودية بموقف إيجابي غير معين إزاء المبادرة جنبا الى جنب مع إطلاق بالونات اختبار تلميحية أولية نحو إدخال شيء من الإصلاح المنتظر في نظامها السياسي•
وسواء جاءت التلميحات السعودية الحذرة بالعزم على إدخال شيء من الإصلاحات في نظامها السياسي تحت تأثير الضغوط الأمريكية غير المباشرة جزئيا أم كليا إلا أنه من المتيقن بأن ثمة استشعارا داخليا نظاما وشعبا بالحاجة الموضوعية الملحة للإقدام على بادرة من هذا القبيل، وقد برزت هذه الحالة من الاستشعار على وجه الخصوص في مطلع التسعينات إثر انتهاء الحرب الباردة بزوال الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية، لكن لعوامل ذاتية كابحة من داخل النظام، ليس هنا موضع تناولها، كان يجري تأجيل الاستجابة مع هذا الاستشعار أو الالتفاف عليه من حين الى آخر•
وكان أبرز مؤشر على الرغبة في التعاطي مع هذا الاستشعار بقدر أو بآخر تشكيل مجلس الشورى السعودي المعين في التسعينات، وهنا ينبغي التوضيح أنه ليست العوامل الداخلية - رغم أنها الأساس الأول - تقف وراء الاستشعار بالحاجة الموضوعية للإصلاح بل تتشابك معها جملة من العوامل الخارجية الإقليمية والدولية•• وإذا كان واحد من أبرز العوامل الدولية هو الضغوط الأمريكية غير المباشرة فإن تأثير العامل الإقليمي يتمثل في الحرج الذي تواجهه السعودية داخليا وخارجيا من جراء تأخرها عن الإقدام على مشروع إصلاحي داخلي في الوقت الذي سبقتها بعض الدول الصغيرة الحليفة لها داخل مجلس التعاون في الإقدام على هذه الخطوة•
وقبل ذلك سبقتها واحدة من أكبر دول الإقليم التي تتبنى صيغة من الديمقراطية في إطار الإسلام السياسي "إيران" وهو الدين الذي تستمد المملكة شرعيتها منه هذا في الوقت الذي ما زالت السعودية تطمح الى أن تلعب فيه دورا إقليميا وعربيا وإسلاميا وهو دور ما عاد بالإمكان لعبه بقواعد ومبررات الشعارات السابقة نفسها إبان الحرب الباردة والتي كان في مقدمتها مواجهة الأفكار الهدامة والخطر الشيوعي وذلك في ظل اتجاه عالمي كاسح نحو التغيير والتجديد في الأنظمة القائمة•
والسعودية كما نعلم دولة كبيرة وذات مصالح متبادلة متشعبة ومتعددة مع معظم دول العالم صغيرها وكبيرها ولها وزنها الملموس والمؤثر إقليميا وعربيا ودوليا، ومن ثم لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تغمض عينيها عن حقائق العصر الموضوعية في التجديد والإصلاح الى ما لا نهاية فتجاهل هذه الحقائق يلحق أبلغ الضرر بمصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وبخاصة في ظل مواجهتها ضغوطات داخلية وإقليمية ودولية مختلفة مباشرة أو غير مباشرة•
وكانت القشة التي ربما قصمت ظهر البعير تداعيات أحداث سبتمبر وما ترتب عليها من ضغوط أمريكية من أعلى المستويات سواء كانت صريحة أم خفية، معلنة وغير معلنة بإجراء إصلاحات ولا سيما في التعليم الديني•
ومع أن التدخل الأمريكي غير المعلن رسميا في شؤون التعليم الديني كان غير مقبول وغير مشروع إلا أن هذا لا ينفي استشعارها بحاجة التغيير والإصلاح في هذا القطاع التعليمي تحديدا•
وزاد من حرج القيادة السعودية وشعورها بالمرارة والغصة أن معظم المتورطين في أحداث سبتمبر هم من أبنائها وخاصة أنها لم تنف ذلك، بل أكدته بكل شجاعة رغم الترويج العربي على أوسع نطاق لسيناريو المؤامرة في الأحداث•• وهذه الأحداث السبتمبرية التي ظلت وما زالت تعاني من تداعياتها أشعرتها بقوة بطعنة قوى الإسلام السياسي المتطرفة التي هي مولت بعضها وأحسنت استضافتها ولا سيما إبان الحرب الباردة لمواجهة "الخطر الشيوعي" والأنظمة الراديكالية العربية، وكان أبرز تعبير عن مرارة السعودية من مغامرات قوى الإسلام السياسي ما جاء في مقابلتين صحافيتين شهيرتين لمسؤولين سعوديين: الأولى للملحق العسكري السابق في باكستان نشرت في "الحياة" على حلقتين حيث هاجم بقوة سياسات ومسلكيات جماعات الجهاد الأفغانية والعربية وحملها مسؤولية ما حل بأفغانستان من كوارث منذ الانسحاب السوفييتي الى يومنا هذا، والثانية لوزير الداخلية نايف عبدالعزيز نشرت في "السياسة" هاجم فيها على وجه الخصوص "الإخوان المسلمين"•
مهما يكن فإن ثمة مدخلين متلازمين وركيزتين في الوقت ذاته لا مفر للسعودية منهما عند شروعها الفعلي لإعلان المشروع الإصلاحي لنظامها السياسي: الأول إعادة ترتيب وتراتبية البيت الداخلي للقيادة والثاني إعادة النظر في فلسفة النظام التعليمي الديني المتقادمة وتجديد هذا النظام كادرا ومنهاجا•
وإذا ما باشرت السعودية بالفعل - كما هو مأمول - في الإيفاء باستحقاقات هذين المدخلين ثم تحقيق شيء من "الإصلاح السياسي" فمن المؤكد ثمة مياه كثيرة راكدة ستتحرك في المنطقة العربية نحو الإصلاح السياسي داخل بقية الأنظمة الشمولية المترددة أو المتخوفة من الإقدام عليه•