|
اقتفاء أثر تغريدة البجعة
عمرو جنيد
الحوار المتمدن-العدد: 5878 - 2018 / 5 / 20 - 07:22
المحور:
الادب والفن
انتظر كوب الشاي في المقهى الشهير بوسط المدينة، أتفقد الزبائن المتناثرين ما بين شباب و متوسطي العمر في هذا الكرنفال النهاري، يشاركون في رقصات البجع الأخيرة على تخوم تفسخ أماني التحقق و السباحة الهرمونية وسط بحور استجداء الإعجاب فيما بينهم.
هنا في الزقاق الضيق الطويل كأنبوبة شعرية الشاهد على أيام ثورة استثنائية يعمل كحاضن وجودي لجيل الغرباء أراد بكل قوته أن يحول الزقاق إلى ساحات و ميادين تسع المدينة كلها بما يمثله كرمز و شريان مغاير للمألوف و السائد ضد شبح الأب المهيمن على رئة عالم من خيوط غبار.
الزقاق ظل زقاق و الحلم صار لافتة لذكرى مهمشة على جنباته المتشققة جوار اسم سعد الحرامي ملك الفول و قطط متسولة و بائعي المناديل الورقية و علب الكلة الفارغة الملقي خلف صندوق الكهرباء ذي الرقم الحكومي الباهت. امتص لفافة تبغى، أكابد الوحدة مستأنسًا بمتابعة الوجوه و الأصوات و العمال و صائدي السائحات و ألوان الرسوم الجدارية الزاهية التي تستحضر وجوه أزمنة أسطورية...
نجيب محفوظ يسخر من كل شئ بابتسامته، أم كلثوم، العقاد الذي لا أطيق، أمل دنقل المغبون الأزلي، محمود الخطيب و جدارية لمحمد صلاح يتوافد الناس كالحجيج من كل فج عميق يلتقطون الصور الفوتوغرافية معها، ليتهم يفتحون أبواب الاحتراف لكاتب مغمور مدمن احتفاء في ملاعب جريدة الجارديان أو النيويورك تايمز. أشعر بشئ ما ناقص، هناك دائما شئ ما ناقص بين ركام تصورتنا المغرورة عن كمال الموجودات، هناك شئ ناقص عند واجهة المقهى، ألقى نظرة على الكرسي البلاستيكي الشاغر أصفر اللون المختلف بفجاجة عن بقية الكراسي، وضع كأنه ضمير يتطلع إلى البشر و الزقاق ثم يكبر في الفراغ المتكوم أمامي كضحكة عرافة معبد دلفي. الزبائن المعتادون يتجاوزونه و هم يلقون عليه نظرة تعزية أو شماتة و الزبائن المستجدون يتراجعون صاغرون عن استخدامه بعد عبارة زجر مغلفة بلطف مفتعل من أحد عمال المقهى - استنى يا أستاذ.. هجيبلك كرسي غيره_.
على هذا المقعد المكلوم رأيته لآخر مرة قبيل وفاته بيومين التي عندما علمت بخبرها قلت انه لم يمت بل ذهب لنوم ملئ بأحلام تنسج احلام روائية، حتى موتته كانت زاهدة في الصخب كأيامه.
أشيح بنظري عن الكرسي و ألقيه بتمعن على صورته الجدارية الصغيرة المرسومة على طرف الجدار شعرت بأن الصورة تكاد أن تسكب من الحائط لتسيل، صورة صغيرة تتواري عن العيون النمطية، صورة صوفية غير مهتمة بالمجسدات المادية، استغرب حجمها نسبة إلى حجم كيان صاحبها سيد الزقاق و صاحب العرش الأصفر.
(الصورة هي فناء اللحظة).. قالها هو بصوته و بصمته بين صفحات رسالة حبه إلى المرأة النادرة جيهان كوصيته التي تحمل خوفه من أن تعلق روحه في صورة فيفوتها الخلود.
أشاركه في أشياء عديدة ذات طبع غرائبي أو بالأحرى اتوحد معه و مع نظرته و جلسته و مع شخوصه في تموجات ما بين الوجد الخلاق و مرارة التغريبة. أول مرة سمعت عنه كنت في الخليج أعمل كأي حمار مجد عصامي في مرحلة تكوين الذات في بدايات العمر بمآلاته الحتمية.
ازجي وقتي وسط حومة العمل و الإجهاد بين القراءة وممارسة التفريغ الإبداعي بالكتابة التي لم أعلم لسنوات ما الطائل منها أو سببيتها الملحة اللهم إلا إلحاح منفلت ضاغط كشهوة مراهق يشتعل داخل رأسي حتى عرفت يوم ان أنقذت حياتي من الانتحار و اليأس و اللاجدوي انها درع بروميثيوس اللامع في وجوه جرجونات الوجود . إعلان قائمة جائزة البوكر لعام 2008 قرع اسمه و اسم روايته وعيي المتبلد، تغريدة البجعة، يا له من اسم يحمل رمزية لكل أصحاب الموهبة المنتحرين، بدأت البحث عنه و عن كل ما كاتب بدافع شخصي من كرهي لجهلي و شعوري بأهميته و الهلع من أن أفوت الأشياء المهمة و سحر الغائب عنا غفلة فتضيع في مجري الإهمال . أكلت مقالاته التوثيقية التي انتصرت لمن أفناهم العامة و الخاصة بالتجاهل، أحببت حسه الساخر الغارق في التفاصيل المنمنمة أدمنت حرفه وذكاءه المتقد و موهبته الفذة حتى سقط مني مع السعي الحياتي مرة أخرى وسط كراكيب مقتنياتي داخل خزانتي المتربة. 2017 عدت إلى القاهرة أطارد حلم الكتابة بعد أن أصبح هوس و ترياق لسم العدم، أعود إلى الشوارع المسنة، أتنسم سحائب المدينة التي ترزح تحت أثقال من السل والقهر والعفن بكل اشتياق المدمنين وضالي الخطى الثقيلة.
أجد نفسي الضائعة مرة أخرى هنا في بيئتي الطبيعية وسط العابسين مكسوري الروح عبيد التيه، أعود إلى نفسي على مقعد المقهى الأثير في زقاق الأحلام المجهضة، استعيد شبكة معارفي المنسية من كتاب ورسامين ومتعاطي الشهرة ورفقاء التبول في مراحيض البارات وعاشقات محتملات وشحاذين وبائعي وعود براقة
أعبر الطريق أجده يجلس، ألقي السلام، يرد على بابتسامة و نظرة تثقب طموحاتي الوليدة المستقبلية فتغرق في التلعثم.
أجلس، اقتسم معه فرز العالم و حركات الشفايف المجادلة و أعاصير انفعالات البشر و الألفة التي وجدتها مع أول قراءة روائية له يوم أن كنت عائد من الإسكندرية بصحبة الفتاة التي أحبتني رغم كل شئ، وأهدتني كتابه (أن تحبك جيهان) كي تأخذني الرواية من أول سطر لشهور و شهور لآتنس به و بكتابه الذي أصبح يشكل جلسة نميمة حميمية بين صديقين تفرقت بهما السبل ثم عادا ليلتقيا بالمقهى اللامبالي
#عمرو_جنيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإنسان بين مطرقة النص الأول و سندان التأويل
-
لماذا ينتصر البطل الوسيم في الأدب ؟
المزيد.....
-
الفنان جمال سليمان يوجه دعوة للسوريين ويعلق على أنباء نيته ا
...
-
الأمم المتحدة: نطالب الدول بعدم التعاطي مع الروايات الإسرائي
...
-
-تسجيلات- بولص آدم.. تاريخ جيل عراقي بين مدينتين
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
السكك الحديدية الأوكرانية تزيل اللغة الروسية من تذاكر القطار
...
-
مهرجان -بين ثقافتين- .. انعكاس لجلسة محمد بن سلمان والسوداني
...
-
تردد قناة عمو يزيد الجديد 2025 بعد اخر تحديث من ادارة القناة
...
-
“Siyah Kalp“ مسلسل قلب اسود الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة
...
-
اللسان والإنسان.. دعوة لتيسير تعلم العربية عبر الذكاء الاصطن
...
-
والت ديزني... قصة مبدع أحبه أطفال العالم
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|