|
إلِكْترا: الفصل الخامس 1
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5874 - 2018 / 5 / 16 - 11:40
المحور:
الادب والفن
أسبوعٌ على أثر رحيل صديقها، وما زالت عاجزة عن تدوين شيء في دفتر مذكراتها.. رحيل، جاء على غير توقّع كما العاصفة المطرية، التي فاجأت خمولَ المدينة بعد أشهر الجفاف الصيفية، متسببة بطوفان مريع في الريف الجبليّ.. في أوريكا، بشكل خاص؛ ثمة أينَ سمعت السيّدة السورية بالخبر المشئوم على لسان الشقيق الأكبر للشاعر. وها هيَ في هذا الصباح، مُعَكرة المزاج مثل طقسه، المتجهّم القاتم. يَطرق رأسَها دويّ الهطول المتواصل على السقف الخشبيّ لحجرة المحترف، فيما عيناها تلاحقان عبرَ النافذة، المسدول عليها ستارة شفافة، السهام المريّشة من السماء على رؤوس شجيرات ونخلات الترّاس. كانت غارقة في حزنها، وفي آنٍ واحد، مستغرقة في أفكار تمتّ لعملها غير المُنجز. لحظت في نوعٍ من الاستياء، كيفَ يؤثّر العاملُ الخارجيّ على كتابتها، مما يضع جهودها أيضاً خارجَ نطاق الفن. إنها كانت مؤمنة زمناً بنظرية للناقد الروسيّ، " باختين "، ركّزها تقريباً على دراسة " دستويفسكي "؛ نظرية، تفيدُ بأنّ حياة الأديب، بكل ما فيها من أحداث حافلة، لا تلعبُ دوراً مهماً في كتاباته. كان هذا الناقدُ يعتقد بأهمية الخيّال الخلّاق، المتفوق على واقع حياة الأديب المُعاش ـ مهما تطابق معه في الظاهر. هكذا نظرية، تتصل بالمذهب النقديّ، الشكلانيّ، كانت " سوسن خانم " قد درستها في كلية الصحافة الأدبية بموسكو.. درستها، محفوفة بنوازع الشك والريبة من لدُن أحد مدرّسيها، المؤمنين بنظرية الواقعية الاشتراكية. المدرّس، وكان قد قاربَ سنّ التقاعد، لم يكن يجد حتى في " دستويفسكي " نفسه، أديباً جادّاً! " ليسَ بوسع الكاتب التعبير عن الحياة، لو أتبعَ سبيل السخرية من كلّ الأفكار التي يمور بها المجتمع؛ بما فيها المرتبطة بعقائده الدينية. كذلك الأمر، فيما يخصّ ألاعيب اللغة، الأشبه بحركات بهلوان في سيرك، المتسببة في حرف القارئ عن جوهر الأدب باعتباره رسالة تعكس الواقع وتدعو إلى تغييره ". كان يقول بحزم فيما هوَ يتلمظ لسانه المحروق بلهيب الفودكا القوي، الييتية الصنع. أكثر من مرة، كانت قد ناقشت رأيه المشوّه في معبودها الأدبيّ. من ناحيته، دأبَ على مجادلتها بروح منفتحة بينما عيناه تمران بإعجاب على ملامحها الشرقية، الشبيهة برسوم نساء أساطير ألف ليلة وليلة، المنفذة من قبل رسامي فارس العظام، المجهولي الأسماء. إلا أن ذلك، في المقابل، لم يمنع الأستاذ من منح طالبته المشاغبة علامة متدنية في مادة النقد الأدبيّ. ثائرةً، نقلت الأمرَ إلى زوجها أثناء اجتماعهما على مائدة العشاء. استرسل بالضحك، الدبلوماسيّ الرفيعُ الشأن، قبل أنّ يعقّب بالقول: " سأرسل إليه السائق غداً مع زجاجة ويسكي، كي يغيّر طعمَ فمه! أعرف أنك لن تجرئي على رشوته، لما في طبعك من خجل ". وإنه زوجها السابق هذا ( طليقها بالأحرى لأنها لم تقترن بعده بأحد )، مَن غرسَ في أعماقها عقدة المراقبة، العقيمة ـ كنطفه، التي لم تجد لها سبيلاً أبداً إلى رحمها.
* عادت العقدة لتنشب مخالبها في جلدها الناعم، وعلى منقلبٍ آخر؛ على صورة وحش الغيرة. ذلك جرى، آنَ ظهرت ذات مساء مواطنتها " شيرين " في رواق الفنون، لأول مرة، لتدهش الموجودين بحضورها الساحر، المترفع، المُضفي عليها هيئة أميرة مشرقية. ومن المجاز إلى الواقع، المدعوم بسندٍ تاريخيّ ـ على ضعفه ـ المفيد بكونها من سلالة أمراء أكراد، عثمانية. وإذا بمن ستدعوها سليلةُ الأمراء في مذكراتها، " السيّدةَ السورية الغنية "، تضحي منذئذٍ وكأنما هيَ مجرد ظلّ للحضور الجديد.. ظلّ، يُمكن أن تدوسه بسهولة ويسر قدما أيّ دعيّ، أمّعة، على شاكلة " رفيق ". عند ذلك، وفيما كانت " سوسن خانم " تغرقُ بمشاعرها الأنانية، راحت تحاول اجتياس الحياة الخاصّة لغريمتها، المفترضة. وسيلتها، لم تكن سوى ذانك الزوجان، العاملان في خدمتها بإخلاص. لم تشأ الخانم التقرّب من مواطنتها ( في البداية على الأقل )، خشيةً من أن تكشف نواياها. فإنّ " شيرين "، فضلاً عن جمالها وثقافتها، تمتعت بذكاءٍ حاد مع لمعةٍ من دهاء تُحيل إلى منبتها الريفيّ الأول. بلى، كانت مراقبة عقيمة.. ناهيك عن سخافتها، كونها عبثية ومجانية. عليها كان أن تؤنّب نفسها أشدّ التأنيب، كلّ مرةٍ تستعيد تصرفها؛ سواءً في فكرها أو على الورق. لعل الشاعر أكتشفَ كنهَ عواطفِ السيّدة السورية نحوه مبكراً، أكتشفها بكل ما فيها أيضاً من عقم. تأكّد من ظنونه، حينَ كان برفقتها ذاتَ مساء من ذلك الصيف المراكشيّ الأول. كان خارجاً معها من رواق الفنون، في الدرب المؤدي إلى " دار الباشا "، كي يسلّمها لأيّ سيارة أجرة عابرة ( لم تكن قد امتلكت بعدُ الرانج روفر )، لما أعربت عن رغبتها بمواصلة الطريق إلى ساحة جامع الفنا. هكذا أضطرَ لمسايرتها، خشيةً من تعرض أحدهم لها في تلك الدروب الغارقة بالعتمة والعزلة. هنالك عند مدخل الساحة، باغتته هذه المرة بمقترح ركوب إحدى عربات الكوتشي. " أحقاً، أنهم يدعونها في مراكش بعربة الحب..؟ "، سألته ضاحكة معابثة. سايرها مرة أخرى، مطلقاً ضحكة بريئة: " لو شئتِ.. أعني، لو شئتِ أن أصحبك بالعربة! "، أجابها على سبيل المزاح. ببراءة مماثلة، أحتك ساعدُهُ بصدرها الكبير، الناهض برأسَيْ هرّ متوثّب، حينَ كان يساعدها في الركوب. كعادتها مذ انتقالها غلى المدينة الحمراء، كانت ترتدي ثوباً تقليدياً من النسيج الفاخر، المطرز على الطريقة المحلية. الحوذيّ العجوز، ما عتمَ عند تناهي العربة إلى الجانب الاخر من شارع " محمد الخامس " أن أتخذ الدربَ المؤدي إلى " المأمونية "، المُصاحَب بصفين من أشجار الليمون، مثقلة بنعاس الساعة ما قبل الأخيرة من منتصف الليل. هنالك في غمرة الظلمة البهيمة، وعلى حين غرّة، طوّقها " المهدي " بيده القوية. كان يهمّ بتقبيل شفتيها، لما نحّت وجهها إلى الجهة الأخرى. بدأ بالاعتذار، وقد عمّ تعبيرٌ حيي لهجته. فأوقفته قائلةً بنبرة فيها سخرية بيّنة: " بوسعنا أن نبقى صديقين دونما حاجةٍ للمغازلة.. أليسَ ذلك ممكناً؟ وهَبْ أنني منحتك حتى جسدي، فإنك ستجده بدون روح.. فإنّ روحه لا تُبعث حيّة إلا من ملامسة جسد الأنثى. هيَ حالةٌ نفسية، أكثر منها انحرافاً في سوية الفعل الجنسيّ.. شيئاً مشابهاً لعقدة إلِكْترا، التي سبقَ أن ناقشناها معاً ". على الرغم من الظلام، شعرت بانقباض سحنته وشحوبها. صراحتها، الأقرب إلى الابتذال والسوقية، لا ريبَ أنها صدمته بشدّة. بقيَ مبهوتاً برهة، قبل أن ينطق مفردة وحيدة: " حسناً..! ". نطقها، نافخاً كلّ ما في نفسه من ألم ولوم واستياء. لم يكن بمقدورها الاستدراك، بعدما قالت ما قالته. أخلت هكذا الساحةَ، طوعاً أو اضطراراً، لمواطنتها اللدودة تلك. بيْدَ أنها، في مقابل ذلك، كسبت الرجلَ صديقاً مقرباً في تالي الأيام. > مستهل الفصل الخامس من رواية " كعبةُ العَماء "
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلِكْترا: الفصل الرابع 5
-
إلِكْترا: الفصل الرابع 4
-
سيرَة أُخرى 68
-
إلِكْترا: الفصل الرابع 3
-
إلِكْترا: الفصل الرابع 2
-
إلِكْترا: الفصل الرابع 1
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 5
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 4
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 3
-
سماءٌ منشقّة
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 2
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 1
-
هيتشكوك المصريّ؛ مقاربة لأحد أفلامه
-
إلِكْترا: الفصل الثاني 5
-
إلِكْترا: الفصل الثاني 4
-
إلِكْترا: الفصل الثاني 3
-
إلِكْترا: الفصل الثاني 2
-
إلِكْترا: الفصل الثاني 1
-
إلِكْترا: الفصل الأول 5
-
إلِكْترا: الفصل الأول 4
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|