ذياب فهد الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 5873 - 2018 / 5 / 15 - 12:43
المحور:
الادب والفن
بدأ كل شيء بعد زيارة( فريال) وامها ليتفقا على قيام زوجي بأعطاء فريال دروس تقوية باللغة الأنكليزية ، لأنها سؤدي امتحان البكالوريا للصف الثالث المتوسط .
كانت الفتاة تتحايل لأخفاء خبث يتبدى في نظرات عينيها الضيقتين وفي الطريقة التي تستمع فيها الى الحديث الدائر بخصوصها، أما الأم فقد كانت حريصة ان تعطي الأنطباع بأنها رقيقة ، بالغة التهذيب وتنتمي الى طبقة أخرى ، وهي اذ تجامل بتواضع تصر ان تجعله محسوسا من الآخرين ، و لا ترى مبررا لأن تقترب الى الحد الذي تتقلص فيه المسافات ، وكان من الواضح انها تعيش رفاهية تتبدى في ملابسها وفي بعض الحلي التي تتزين بها .
كان وجهها يبدو وكأنه قد تم رشه بطبقة خفيفة من دقيق ناصع البياض ، فيما لم تستطع ان تخفي المسامات المفتوحة في بشرتها سيما فوق الوجنتين المكتنزتين ولكن لابد من قول الحقيقة في انها تمتلك شعرا غاية في الجمال والحيوية يتهدل بجمال ساحر على كتفيها ، كما كان صوتها مغناجا تتكسر أحرف الكلمات على شفتيها برنين كريستالي غريب ، يظل صداه يتردد في ألأذن بنغمة ساحرة .
لم تتوقف عند سعر المحاضرة بل زادت بأنها ستعطي ألأستاذ هدية منزلية ثمينة فيما لو احرزت ابنتها درجة متقدمة في مادة اللغة الأنكليزية ، ولكن شرطها الوحيد ان تكون المحاضرات في منزلهم وفي الوقت الذي يحدده ألأستاذ على حد تعبيرها .
قال عبد المنعم : اعطني فرصة حتى مساء الغد وسأرسل الرد مع أم فتحي !
قالت : سيارتنا في بداية الزقاق ولهذا لا تتعبا نفسيكما بمرافقتنا !
بدا ذلك إعلانا عن حالة لم يراع فيها التوقيت المناسب فجاء فجا وغير مقبول، تذكرت الأعلانات البدائية المصاغة بلغة ركيكة وبالوان مرتبكة على ورق اسمر معد للف الحاجيات .
قلت : لقد حاولت ان اكون منفتحة وان أدفن عدوانية مشاكسة
قال عبد المنعم : لن نراها بعد اليوم ولكن مارأيك بعرضها ؟! , اعتقد انه ملائم فنحن بحاجة الى مبلغ أضافي .
قلت : يبدو انك قد اتخذت قرارك ولكن على العموم لاأجد مانعا !
قال حكمت : تبدو ابنتها كشيطان مذعور
كانت اسئلتي قد أصيبت بالخرس حتى اني لم أكن أستطيع رؤيتها فقد تاهت في أعماقي.
شعرت اني أنحدر الى زمن آخر بعيدا عن بيتي وإبني وزوجي , زمن تدور فيه حولي وجوه غريبة ، ولم يكن مستقبلا يعيش في هواجس معلولة , كان زمنا آخر في كليته يختبئ في زواياه ضباب رمادي كالذي رأيته مرة في السينما بأحد افلام (هشكوك ) , كان يملأ كوخا منعزلا عند البحر وهو يتقدم من كل الجوانب بدفعات دائرية كأنما هي دفقات من جراء شياطين سوداء كانت تلهو بالنفخ على بعضها البعض .
تمددت على فراشي , كانت الظلمة تتقدم متماسكة ككتلة هائلة وشعرت انها تسحقني واني أهبط الى اسفل تحملني ظلال مشبعة برائحة مخدرة بسرعة مخيفة، كنت لامبالية وتركت نفسي لمصير غامض يستحوذ على روحي همّ أبكم .
جاء عبد المنعم بعد ان تأكد من نوم( حكمت) في فراشه، وضع يده على ظهري ثم انزلها ببطئ وشعرت بانفاسه حارة تسقط على رقبتي فتزيد من سرعة اندفاعي الى القاع واشعر على نحو واع اني افقد شعوري بذاتي ، احسست بقطرات من عرق جبهته ينساب على وجهي ثم انطرح الى جانبي.
كان عبد المنعم ... وسألت نفسي بمرارة (ماهي الحدود المفترضة لهذه أل(كان ), ماهو زمانها , من أين يبدأ وأين ينتهي , وهل هناك صورة محددة لها .. صورة بملامح واضحة تكون بعدها قد أخذت شكلا آخر أو قد طرأعليها تغيير واضح المعالم ، صحيح انها فعل ناقص قد تحقق في الماضي ولكن اين نقصانه ؟!
(كان ) عبد المنعم يمتلك حسا شعريا بالغ الرقة والرهافة ويتصرف بحنان معي وبشعور بالمسؤلية مع الآخرين ومع عمله ،وقد جعلني هذا اعيش حالة فيها الكثير من التميز عن النساء اللواتي اعرفهن في الحي الذي اسكنه أو اللواتي تعرفت عليهن في السوق ونشرن أمامي بوقت قصير ونحن نتبضع اسرار حياتهن كلها حتى قبل ان يتعرفن على اسمي !
كنت اعشقه نهارا واتلو صلواتي في خشوع مسحور في ليل البصرة الحار والرطب وراء الشناشيل التي تزين غرفة النوم من الخارج ، كنت اشعر ان حبه اكثر ديمومة من الحياة نفسها , وكان هذا يتجدد باستمرار مع كل كلمة وجد يسكبها في اذني بتواطئ حذر ونحن على مائدة الأفطار أو حين يعود من المدرسة ويطبع على خدي قبلة تفضح اسرار رغبته .
في البدء كان الحب قد سقط كنيزك لا يمكن رده فحفر في قلبي كهفا الجأ اليه واضعة رأسه بين راحتي ابحر في ثنايا ملامح وجهه الرجولي والشهواني واشعر اني في حالة تجدد مستمرة .
قال أخي : لقد رأيت ألأستاذ عبد المنعم , انه معلم في البصرة ويمتلك عن أبيه بستانا كبيرا على شط العرب وبيتا في قضاء ابي الخصيب , هو وحيد أبويه اللذين توفيا ولديه عمة تسكن القضاء وسلوكه يمكن ان أزكيه ،
كنت الصغرى بين ثلاث بنات وولدين البنتين تزوجتا وألأخ ألأكبر هاجر الى امريكا بعد ان انهى دراسته في ألأقتصاد وأخي ( بهجت ) متزوج ولديه ثلاث بنات كبراهن في السابعة .
: ثم ماذا ؟
: انت تفهمين ما اعنيه , انه يطلبك للزواج وبالطبع ستذهبين معه الى البصرة
: ماتقرره أوافق عليه !
كنت عائدة من المدرسة حينما اخبرتني كبرى بنات اخي ان صديق بابا في الصالة، لم يشغلني الأمر فقد كنت متعودة على دعوات أخي لأصدقائه لتناول الطعام فهو كريم النفس ويتمتع بعلاقات واسعة .
مساء كنا نشرب الشاي أمام الباب الخارجي في البستان تحت سماء بغداد الصافية والمنفتحة على نحو لامتناه , فيما كانت نسمات تحمل شيئا من البرودة تهب رخية تبعث احساسا بالبهجة، كان هو يجلس في عينيه حياء وهو يرفعهما نحوي فأداري ارتباكي بغسل صحون الشاي ، كان في ذلك المساء يشبه تمثالا رأيته في كتاب كبير لدى مدرسة الرسم في الثانوية( لميكاييل أنجلو ) وسيما , ينضح رجولة، وكان شارباه بالغتا الغرابة اذ اني لم أر مثلهما لافي رجال العائلة ولا في من اقابلهم يوميا في طريقي الى المدرسة .
قالت زوجة أخي وهي تبتسم : بشواربه , يذكرني بضباط الأنكشارية ألأتراك
كانت زوجة أخي مدرسة الرياضيات ابنة ضابط في (الليفي ) وقد تقاعد قبل ثورة تموز وتقول ان ألزعيم( عبد الكريم قاسم ) دعاه الى العودة للجيش ولكنه رفض لأن الذي يشتغل مع الأنكليز لايستطيع تدريب قطعان المتخلفين الذين جاءت بهم الثورة ولكنها توقفت لاحقا عن ترديد ذلك لأن أخي اقسم ان سمعها تعيد هذ الهراء فلن يسمح لها البقاء في البيت ،لأن مثل هذه العقلية لايمكن أئتمانها على تربية بناته.
قال أخي : كنت في بيروت في فندق(فكتوريا) وهو فندق صغير يفصله عن المنطقة البحرية التي يقع عليها الفندق المشهور( سان جورج) , شارع رئيس أنحدر اليه من الشارع الضيق لفندقي عبر عدة درجات , مساء اليوم الثاني لنزولي في الفندق سمعت اصواتا حادة تتعالى في الممر الذي فيه غرفتي وكان من بينها صوتا عراقي اللهجة فخرجت استطلع الخبر ،, كان عبد المنعم في نوبة غضب لأنه حين عاد الى غرفته وجد ان المسؤولة عن الطابق لم تقم بتبديل الأغطية ولم تقم ايضا بالنظافة اللآ زمة , كانت الفتاة تعتذر بزحمة العمل وتعده ان تجري اللازم غدا وكان هو يصر ان تتولى الأمر الان وإلا سيغادر الفندق وسيقدم شكوى لأدارة السياحة .
من هنا كان تعارفنا , مساء ذهبنا سوية الى (زحلة ) .
كانت ليلة لاتنسى فالمجمّع المكّون من عشرات المقاهي يقع على منحدر جبلي يمتد في وسطه مجرى عين ماء يحدث خريرا فاتنا يختلط بصوت ام كلثوم واصوات الساهرين التي تتفجر فيها شلالات فرح يتبدى في العيون وفي ألاصوات التي تطلق آهات الأستحسان , مئات الموائد العامرة بصحون صغيرة فيها الوان مختلفة من الطعام اللبناني اللذيذ وبين هذا وذاك ترتفع كؤوس صافية تبعث في النفوس المتعطشة للمرح بهجة تزغرد فوق وجنات النسوة المشربة بحمرة مختلطة من الطبيعة ومن صناعة بالغة المهارة ، انت تحس بكل ماحولك وكأنه مصمم للمتعة برفاهية كأنك في كرنفال عجيب وجدت نفسك فيه فجأة , تأخذك الوان المصابيح وروح الطرب التي تشمل المكان كله من سفح الوادي وحتى رأس الجبل , للحظة دار بذهني تساؤل غريب
: بماذا يفكر هؤلاء في هذه اللحظة وهم يغرقون في صخب يؤكد في عمق انفسهم حبا مطلقا للحياة حتى في النظرات التي تتبادل السرقة بخيانات تتستر متواطئة ومتبادلة.
بصعوبة وجدنا مكانا وقد وجدت في عبد المنعم شخصا يمتلك حضورا واضحا فهو سريع البديهية ويملك حصيلة من نكات شتى وهذا بالضبط مايحتاجه المكان لدفع الملل وللتجديد .
تناولنا كأسين , هدّءا من توترنا , بدأنا نستطلع الرواد من حولنا بنظرات متفحصة بطيئة ولكن مدققة و كان من الحماقة ان نفعل ذلك , ولكن روح الشباب وفرح المكان الذي كان حالة معدية وكأسي الزحلاوي الصافي , كان ذلك اقوى من القدرة على اي نوبة تفكير هادئ أو حيادي .
كان الجميع مشغولين , النساء لم ينسين ولا للحظة الأهتمام بزينتهن تتملكهن رغبة مهتاجة بالبحث عن ومضة اعجاب بنظرة خاطفة تتوغل عميقا في عيونهن المتنقلة كطائر فزع ، الرجال يتبادلون حديثا صاخبا, تجلجل اصواتهم بتأكيد قلق فيما تنطلق نظراتهم بعيدا عبر الطاولات المنتشرة .
قال عبد المنعم : انظر ؟!
أشار برأسه الى طاولة عند المجرى كان يجلس اليها شخصان أحدهما قصير ممتلئ مكتنز الوجه يرتدي الملابس اللبنانية التقليدية وعلى رأسه طربوش بني تتدلى منه (كركوشة ) الى الجانبعيناه الواسعتان حادتا النظرات تتفحصان الجميع بهدوء و بتمعن، كان البارز في وجهه شاربيه كانا قصيرين ينتهيان بنصف دائرة لكل منهماعلى العموم كان مهابا.
الشخص الثاني طويل القامة يضع على رأسه طربوشا مماثلا ولكن بلون احمر قان ويبدو ان الرجل يقوم بدور النديم , وراءهما يقف رجلان مسلحان مما يوحي بان ذا الطربوش البني شخصية مهمه.
كان يدخن (أركيلة ) عالية وكأنها تعويض عما يعانيه من قصر .
إلتفت الى عبد المنعم : ثم ماذا ؟
: هل تصدق ان هذا الرجل سيرشدني الى ما أريد !
: وماهو ؟!
: تثبيت اطراف الشوارب على هذا النحو الأمبراطوري !
: ولكن قد يكون في هذا مغامرة !
: ولو....على ألأقل سنخرج بمغامرة تظل ذكرى هذه السفرة !
لم ينتظر جوابي , قام بعد ان زرر جاكيته وسوى شعره ومسح على فمه ،
حين توقف عند الطاوله ارتبك الجو عموما في المقهى ووضع المسلحان يديهما على السلاح وتوقف الرجل عن التدخين فيما تجمدت نظرات (النديم) بشيء من الحذر والفضول .
: اشعر بألأسف لأني اقتحم عليك الجلسة ولكن في الحقيقة لدي سؤال ملح !
احتوته نظرات مترقبة بعدوانية وشعرت انا بالذنب.
قال الرجل وهو لايزال بعد غير متأكد أو مقتنع : نعم (شو بدك ) ؟!
قالها بلهجة حادة قاطعة وبدا انه متعود على اصدار الأوامر دون انتظار ردة الفعل، شعرت بأن عبد المنعم قد ادرك أخيرا انه قد ارتكب خطأ ما فقد عاد ثانية يزرر جاكيته.
: حسنا ياسيدي , انا اشكرك لأنك سمحت لي بأن اوجه سؤالي , في الحقيقة منذ فترة وانا متردد بأن اسأل عن نوع المادة التي تثبت الشارب على هذا النحو !
تجمدت يد الرجل على انبوب( الأركيلة) وشعرت ان ألإنتظار , قد اصبح كيانا ماديا محددا يثقل على جوارحي كلها وليس حسابا للدقائق البطيئة .
: هل انت من الخليج ؟!
: لا ياسيدي أنا من بغداد
:وهل تعرفني ؟!
: لاياسيدي مع شعوري بأني سأتشرف بمعرفتك !
ربما اعجبته ألإجابة وربما شعر بأنه صادق فقد خفت حدة النظرات المترقبة
: اين تجلس ؟!
: هناك مع زميلي .
: حسنا اذهب الى طاولتك وسيأتيك الزيت الخاص بتماسك الشوارب , ولكن هل تعدني بأنك ستواظب على استعماله ؟!
: اعدك ياسيدي !
: شيء آخر , حسابكما مدفوع ،يمكن ان تسأل أي من الجالسين عني فالجميع يعرفونني جيدا .
قال جليسه : ولو ( المير)على سن ورمح !
بعد ذلك توطدت علاقتي بعبد المنعم فقد زرته في البصرة ورد هو الزيارة ولأني متأكد منه جيدا يسرني ان تقبل به أختي زوجا لها.
كان عبد المنعم يتصرف في (غرفة الدرجة الأولى ) في القطار النازل الى البصرة وكأنه يداري بهدوء وبحنان الوقت العصيب الذي كنت اعيشه بلحظاته التي تتفتح مزيجا من الخوف العذري والشهوة التي تنمو بنعومة في جسدي والتي تغذيها طريقته الماكرة ولكن الحنونة والمشفقة وهو يحرك يديه فوق جسدي، كان صوت القطار الرتيب وهو يقطع الطريق بعد منتصف الليل واضحا في ذهني وكأنه يصر على الحضور في حين تلاشت الأشياء والذكريات وصور الناس الذين عشت معهم أو تعرفت عليهم فقد كانت أحاسيسي مفعمة بمشاعر ليس من السهل الحديث عنها، لقد امتزج كل شيء ببعضه ، عرقه الذي يقطر فوق وجنتي ويسد قدرتي على ان اشم رائحة اخرى وانفاسه اللاهبة التي كانت تلفح وجهي فتحملني على وسادة سحريه الى عوالم بالغة الغرابة ، حقول من ألأزهار بتويجات تتفتح عن الوان تنطلق منها فراشات ساحرة ،سكون موح يلف كل شيء ، تعب لذيذ ، استرخاء يخدر حواسي فأغفو على زنده .
كنت اشعر دائما اني ملكة وأني امرأة مطلوب منها ان تظل دائما ترعى شعبها، وكان هو يعاملني على هذا النحو، ولم يتبدل شيء فقد ظلت حياتنا تنساب بيسر.
كنت كل صباح أرى فيه الدنيا , في العتمة الشاحبة لغرفة نومنا، وردي بالغ النقاء امد يدي الى المكان الذي يغفو فيه فأجده لايزال دافئا يشع بحنان مفعم برائحة لذيذة واسمع خطاه في الطابق السفلي يعد لنفسه الشاي ، انهض مسرعة تملأ مشاعري لهفة وحب طاغ ، ان أهيئ له الأفطار ليلحق بعمله كان ذلك يمنحني سعادة ومتعة ، ان انظر اليه وهو يفطر مسترخيا يمنحني الإحساس بأني قد حصلت على ملك حقيقي واني استحقه واني مستعدة لأن افعل اي شيء من اجله ومن اجل هذه اللحظات التي اصر على ان اتمتع فيها بكل الأحاسيس الحلوة التي تملأ روحي بالطمأنينة ،حين يغلق الباب وراءه اتابع خطاه عبر الزقاق الى الشارع من خلف شناشيل غرفة النوم فأشعر بالسعادة واشاهد في عيون النسوة, اللواتي يقصدن سوق البصرة لشراء حاجاتهن اليومية هدوءا عميقا ورضى حقيقيا وكأنهن يتباركن بوجهه في صباحهن الذي سيكون مشرقا ، وأرى في مرح الصبية الذين يملؤون الزقاق بصخبهم ويتعمدون ضرب ما على ارض الزقاق بأحذيتهم فيصدر طنينا يعطي اصواتهم خلفية منغمة ،استكمالا لحيوية ترتبط بهذاا العالم الذي أعيشه بادراك يتجسد في الق عينيه المدهشتين , يداخلني شعور بأنه يحرك هذا المحيط الصغير وان الجميع يلتفتون على وقع خطاه بشكل أو بآخر وانه ليس بألإمكان تجاهله أو تجاوزه ... هذا الرجل هو الملك الذي اعشقه أنا الملكة التي اكتسبت هذا اللقب منه ولهذا فأنا مدينة له مادمت احتل عرشي حتى وأنا اغفو !
كنت أود ان أقول هذا بصراخ عال ليسمعه الجميع , أنا أحبه وأهتم به وأعتني بشؤونه ... أن يكون زيت شواربه تحت اليد بأستمرار وان تكون احذيته لامعة كأنها خرجت للتو من تحت يد صباغ ماهر وان تكون ملابسه دائما مكوية ونظيفة وأن أكون بأستمرار انتظر حديثه عن مشاكل عمله مع زملائه ومع تلاميذه , أصغي بتركيز .. كنت قد قررت أن أكون كلي له بمشاعر امرأة تحب وبمقاسات تعرفت عليها من الكتب التي قرأت ومن ألأحاديث التي سمعت .
دخل حكمت مسرعا وصعد السلم الخشبي الى الطابق العلوي بعصبية , كان يقفز الدرجات فينبعث منها صرير مكتوم وخمنت انه ربما تشاجر مع اقرانه فقد كان يلعب الكرة في الساحة الترابية وقررت انأ تركه بضع دقائق ليتماسك ولكن احساسا غريبا بدأ يسيطر علي ... ليس ألأمر مشاجرة عادية .. كان في عينيه هموم مبهمة , يبذل جهدا كي يمنع عينيه من ان تنفجرا بالبكاء بقوة الطفولة المحكومة بتقاليد الرجوله التي يجب على الأولاد ان يتمثلوا بها وكأن عليهم ان يعبروا الى عالم الغد متجاوزين مشاعر الطفولة الرقيقة والحساسة .
رميت الكتاب الذي كان قد سحرني بأسلوبه السلس والمغرق برومانسية متألقة تستثير أحاسيس عن ذكريات عميقة ربما عن سعادة منسية في عمق ركام ما نواجهه يوميا من احداث متنوعة ، كنت اعجب ان تكون فتاة في عمر المراهقة بعد’ تستطيع ان تكتب على هذا النحو ألأخاذ , كان العنوان هو الذي استهواني وأنا أتجول في سوق الجمعة للبحث عن سلع مستخدمة ورخيصة قد أحتاجها ,( مرحبا ايها الحزن),
: أي روح شفافة تختار مثل هذا العنوان ؟!
كانت تصور مشاعر الغيرة النسوية على نحو عميق وبالغ الدقة , تدخل في تفاصيل حياة زوجة ابيها وتدفع القارئ للوقوف معها بحنان آسر .
حين رآه عبد المنعم قال : فرسواز ساغان هذه معجزة , لقد غزت العالم بأول رواية وما يشدني اليها انها لا تتصور الحياة بدون الحب ولهذا فهي تردد دائما (( العشق هو روح الحياة ))
كان حكمت قد ترك حذاءه بباب غرفته ورمى جواربه على الحاجز الذي يحيط بالممر ، في غرفته كان منكفئا على وجهه وواضح انه كان مغيضا.
كان يتشبث بالفراش مصرا على ان لا يواجهني وفي الحقيقة فقد اقلقني هذا وبدأشك مرعب يتسلل الى فكري : ماهو الخطأ الذي يدفعه الى مثل هذا التصرف، ازددت حماسا لأن اعرف اذ لم يكن من السهل ايجاد تبرير مقنع لهذا السلوك لاسيما وانا اعرفه جيدا !
: أريد أبي !
كان صوته مختنقا
: سيأتي بعد قليل , ولكن هلا أخبرتني ما الأمر اذ ربما استطيع مساعدتك !
: لا .... اريد أبي !
شعرت بأكتآب وبخيبة أمل وكأني تعرضت لهزيمة مّرة أمام اصراره على ان لايحدثني عن السبب وراء سلوكه هذا ، كان تشبثه بأن لا يواجهني جعلني اشعر انه يعاني وعلى نحو لا استطيع ان اساعده وكان إحساس العجز هذا مضنيا لي , ان سلوكه غير المفهوم وغير المسبوق ايضا جعلني وحيدة وحائرة كمن اسقط في يدها .
حين انسحبت بهدوء من غرفته كف عن النشيج وخمنت انه يتسمع وقع خطاي وانا ابتعد ، يسترق السمع ولكن بهدوء مترقب ، لماذا لايشعر بتعاطف معي ،أنا امه ، كنت أود ان آخذه بأحضاني وأربت على كتفه كما أفعل كل مرة يلجأ الي وهو يحمل هما يتماوج في مقلتيه السوداوين الصافيتين , لكنه لم يبك يوما بدموع حقيقية كانت عيناه تغيمان ولكن كان من الواضح ان شعورا بالحرج يدفعه الى حبس دموعه ، ربما لأن ابيه يكرردائما انه رجل !
في الثامنة مساء جاء عبد المنعم , كالعادة بكامل اناقته يطفح وجهه الحنطي بحمرة خفيفة تضفي علية بهجة تسبقه رائحة قرنفلية نفاذة جعلتني اشعر بحيرة غريبة فقد شعرت ان التعطر على هذا النحو وفي هذاالوقت غير مبرر !, وتعلن حركاته المتأنية والمنسجمة عن رضى عميق وسعادة حقيقية كمن استطاع ان يحصل على امنية عزيزة ولازال يستشعر فرحة الحيازة .
: مساء الخير
: مساء النور
كنت اسمع صدى صوتي يرن في رجع نحاسي مكبوت ويملأ أذني على نحو شعرت معه بشبه دوار , ذكرني بصوت بندول الساعة العمودية في بيتنا في بغداد والتي اشتراها أخي من سوريا , كان صوتها يرن في البيت حادا وترجع الجدران المبنية من طابوق مطلي بالجبس الصدى أجوفا وكأنه يتوسع بكل الاتجاهات ويصل الى غرفة نومي في سكون الصباح الباكر يملأ فضاء الغرفة.
كيف لم انتبه انه يخرج صباحا ولا يعود الا بعد الثامنة مساء يفوح عطره القوي برائحة القرنفل كأنه خارج للتو من غرفة نومه ! لم تجلب انتباهي عشرات الأحداث والتصرفات الصغيرة المحبوكة بعناية مبالغ فيها , قال بانه سيسافر مع وفد نقابة المعلمين الى بغداد لمدة اسبوع ، قال بأنه سيضطر الى التأخر يوميا حتى الثامنه مساء أو بعدها بقليل ، وفي أحد الأيام انتبهت الى انه عاد بقميص غير الذي خرج به ، لم افهم ولكن يبدو ان اسلوبه الرخو والهادئ الممتلئ ثقة جعلني اتجاوز عن هذا بل لم يدخل الشك الى قلبي اذ كنت معه اقل خوفا !
: هل صعد حكمت لينام ؟!
: صعد نعم , ولكنه لم ينم , انه بانتظارك أذ ان لديه ما يحرص ان يتحدث به اليك ، ورغم كل محاولاتي لم اعرف الموضوع ، انه يبكي !
: يبكي !
:نعم
: سأصعد اليه فورا.
خالفت قناعاتي ، صعدت خلفه ، كان هو يتحدث بصوت خافت وكان حكمت ينشج وتصدر الكلمات متقطعة ، الزجاج الملون لشناشيل الممر المطل على الشارع يعكس صورتي , بسبب ألانارة خلفي , كظل انعدمت فيه الملامح فبدى شبح بالغ الخطورة .
: من قال لك ذلك ؟
: حسين .... قال بأنهم زاروك امس واعطوك هدية الزواج !
: انه يكذب .
: لا ، انه صديقي ، قال بأنك تزوجت أم فريال , انا اكرهها , فريال قبيحة وامها خنزيرة مترهلة .
كان صوت عبد المنعم مهزوزا وهو يحاول ان يقنع حكمت بأن ماسمعه ليس صحيحا وأنه مجرد مزاح أطفال ، ولكني كنت أتلمس في كلماته نبرة غريبة، عصبية بعض الشيء ومخاتلة على نحو كنت أستطيع ان أجزم انه يكذب .
ظل حكمت متشبثا بعناد مهتاج .
: لا انت تزوجت الخنزيرة .
شعرت اني اطفو لم يعد المكان مساحة تضم كياني فقد بدت عدميته عبثية على نحو فاجع واستحالت اللحظة التي اتنفس فيها في عتمة الممر وانا اتراجع الى سكون مطلق يسقط في داخلي فأحس اني بالونا ممتلئا، وعلى وشك ألانفجار ، دفقة هواء صغيرة وسيتشظى.
شعرت ان هذه اللحظة تختزل حياتي كلها فقد ا كتشفت ان كل مابنيته كان قد أقيم على رمال جرفتها اول موجة واني ألان ، وحيدة مهزومة واشعر بالخجل لأني استرق السمع وأقف كلص يترقب اهل الدار ، يتلبسني شك مقهور، أشاهد عبد المنعم وراء جدران الغرفة ضعيفا ، مخادعا بإتقان أحمق ،أخذته نزوة متأصلة في اعماقه ، ربما كانت تنتظر ايضا اللحظة المناسبة لتسحبه الى عمق الموجة فيندفع بفرح الى الغرق ليتأكد انه يستطيع ان يلمس القاع بقدميه .
كنت أشعر ان كل هذا زيف وان الحقيقة الوحيدة هي( حكمت) بنقاء الطفولة يبكي مندهشا لأكتشافه الجديد بعفوية لم يشأ ان يجرحني ليقول ان امرأة اخرى أخذت ابيه مني .
كانت صدمة عنيفة افقدتني التوازن وتسببت في اذى عميق ، جلست على السلم الخشبي في ظلمة شاحبة ، لم استطع البكاء فقد تحجرت دموعي , لم اصرخ ولم ادخل عليهما وبدى المكان غريبا وموحشا , بيت اليهود هذا الذي تسكنه اشباح تتخفى في الزوايا المظلمة , لن اعيش به بعد ألآن .
#ذياب_فهد_الطائي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟