|
ماركس والعولمة
ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين
(Nagih Al-obaid)
الحوار المتمدن-العدد: 5862 - 2018 / 5 / 2 - 15:54
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ماركس والعولمة
عندما ولد كارل ماكس قبل 200 عام في مدينة ترير الألمانية، كانت أوروبا تشهد موجة هجرة إلى العالم الجديد أمريكا وغيره. ومع وفاته في عام 1883، أنهى الفيلسوف وعالم الاقتصاد واللاجئ نحو 30 عاما من الحياة في المنافي بدون جنسية. معظم هذه السنوات قضاها الثوري الشهير في لندن، أهم معاقل النظام الرأسمالي حينها وعاصمة الإمبراطورية التي "لا تغيب عنها الشمس" الأمر الذي ساعده في صياغة نقده الشامل للرأسمالية والانتباه مبكرا إلى أن رأس المال في سعيه الدائم لتحسين شروط استثماره لا يعترف عمليا بأي حدود وطنية أو جغرافية. لم يستخدم ناقد الرأسمالية الأبرز مصطلح "العولمة"، ولكنه – وبعكس الكثير من تلامذته اليوم - لم يتخذ موقفا رافضا لإضفاء طابع عالمي على علاقات الإنتاج الرأسمالية، وإنما رأى فيها عاملا يصب في الإسراع بتحقيق تنبؤه بانهيار هذا النظام. في منشورهما السياسي " البيان الشيوعي" تحدث ماركس ورفيق دربه فريدريك أنجلز بلغة بليغة وتميل لمخاطبة عواطف القارئ عن البرجوازية التي لن تكتفي بتطوير الانتاج الحرفي إلى الصناعة الكبيرة على المستوى الوطني فحسب، وإنما هي مجبرة بحسب قوانينها الداخلية على تجاوز الحدود وتدمير كل ما يقف بوجه طريقها نحو التوسع. ينطلق البيان الشيوعي من أن حاجة الرأسمالية لأسواق أوسع "تسوقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية". وبفضل تثوير أدوات الانتاج وتطور وسائل المواصلات "تشدّ الكل حتى الأمم الأكثر تخلفا إلى الحضارة.... و تُجبر كل الأمم، إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك، على تـبنّي نمط الإنتاج البرجوازي، و ترغمها على تقـبّـل الحضارة المزعومة، أي على أن تصبح برجوازية. و بكلمة هي تخلق عالما على صورتها ". من أجل تحسين شروط استثمار رأس المال وتحقيق المزيد من الأرباح ، الهم الأول للرأسماليين ، تستخدم البرجوازية سلاحا فتاكا لا يقاوم، هو المنافسة لأن " الأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثـقيلة التي تـدك بها الأسوار الصينية كلها، و تـُرغم البرابرة الأكثر حقدا و تعنتا تجاه الأجانب على الإستسلام." لم يعش ماركس لكي يشهد بأن أحفاد هؤلاء "البرابرة" يستخدمون نفس السلاح لرد الصاع صاعين. ولم يدرك بأن استعارته الأدبية للسور الصيني في البيان الشيوعي ستتحقق، ولكن بطريقة معاكسة. ها هي الصين - وللمفارقة هي إحدى المعاقل القليلة المتبقية التي لا تزال ترفع راية الماركسية - تنجح بواسطة سلاح الأسعار الرخيصة في اجتياح معاقل الرأسمالية في أوروبا وأمريكا وإغراق أسواقها بسلع يصعب منافستها، وأدت إلى تدمير قطاعات صناعية بأكملها. المثال الصيني يشير إلى أن ماركس فهم العولمة حينها على انها طريق ذات اتجاه واحد يسير من المركز إلى الأطرف، بينما أثّبت "ورثة" ماركس في الحزب الشيوعي الصيني بأنها تنطوي على فرصة، ليس فقط للبلدان الصناعية المتقدمة، وإنما أيضا للدول الناشئة. بعيدا عن الأسلوب العاطفي المؤثر للبيان الشيوعي تطرق ماركس في كتابه "رأس المال" بلغة علمية جافة عن دور التجارة العالمية في انتشار أسلوب الانتاج الرأسمالي حول الكرة الأرضية. كما أشار إلى استغلال المستعمرات ونهب ثرواتها في إطار التراكم الأولي لرأس المال. غير انه اتخذ عموما موقفا إيجابيا إزاء تغلل علاقات الإنتاج الرأسمالية في المستعمرات ودورها في في تفكيك العلاقات التقليدية البالية والسائدة في إطار ما دعاه بأسلوب الإنتاج الآسوي. لم ينطلق ماركس هنا من هيامه بالاستغلال الرأسمالي، وإنما من الدور الثوري للبرجوازية في تحطيم البنى القديمة وبما يمهد الطريق لاحقا لتحقيق تنبؤاته بقيام الاشتراكية. مثل هذا الموقف عبر عنه أيضا في "خطاب حول قضية التجارة الحرة" ألقاه في بروكسل في عام 1948حيث لخص حينها الجدل الدائر حول قانون إلغاء الرسوم الجمركية على واردات الحبوب إلى بريطانيا. هنا يصف نظام الجمارك الحمائية بـ"الرجعي"، بينما يبدي تأييده للتجارة الحرة لأنها تعمل على "تآكل القوميات الحالية وتصل بالصراع بين البروليتاريا والبرجوازية إلى أقصى مداه" أي إنها "تُعجل بالثورة الاجتماعية". بكلمات أخرى رأى ماركس في عولمة الاقتصاد عاملا يُسرع بنهاية الرأسمالية. هذه الفكرة طورها ماركس في المجلد الثالث لكتابه "رأس المال" الذي حاول فيه أن يثبت حتمية أفول أسلوب الانتاج الرأسمالي نتيجة تناقضاته وقوانينه الداخلية. لم يؤكد ناقد الرأسمالية الكبير على أن العمل الإنساني هو أصل القيمة والثروة فحسب، وإنما بنى كل نظريته على فرضية أن العمل الحي هو المصدر الوحيد لفائض القيمة الذي تستأثر به البرجوازية على شكل أرباح. وعلى خلفية احتدام المنافسة والتطور العلمي والتقني يجد الرأسماليون أنفسهم مجبرين على رفع إنتاجية العمل من خلال استخدام المزيد من المواد الخام والآلات (أو ما يدعوه ماركس برأس المال الدائم)، بينما يتم في نفس الوقت الاستغناء عن الأيدي العاملة الأمر الذي يعني تناقص نسبة العمل الحي والأجور، أي رأس المال المتغير، وهو الجزء الوحيد القادر على إنتاج فائض القيمة بحسب المفهوم الماركسي. اعتمادا على هذا التحليل صاغ ماركس قانونه الشهير عن "ميل معدل الأرباح للتراجع" الذي يُشكل الأساس لنظريته عن النهاية الحتمية للرأسمالية. وفقا لهذه الفرضية يدفع انخفاض معدل الأرباح على المدى الطويل الطبقة البرجوازية لاتخاذ إجراءات مضادة. وإذا كانت هذه الإجراءات تنجح في إبطاء وتخفيف مفعول هذا "القانون"، فإنها تخفق في حل هذا التناقض، بل وتعيد إنتاجه على مستوى أعلى. أهم هذه الوسائل الواردة في كتاب "رأس مال" هي إطالة وقت العمل وتكثيف وتيرته وتخفيض الأجور واستغلال فائض السكان النسبي وكذلك توسيع التجارة الخارجية. وهي كلها عوامل كانت مألوفة بهذا الشكل أو ذاك أثناء مرحلة الثورة الصناعية التي تركت بصماتها بوضوح على أفكار ماركس، ولكن يصعب تعميمها على جميع المراحل. ما يبدو منطقيا في فرضية ميل معدل الأرباح للتراجع، يمكن أن ينهار تماما إذا لم يتم إثبات أن العمل الحي هو المصدر الوحيد لفائض القيمة (الأرباح). فمن الواضح أن أرباح الشركات تعتمد على عوامل عديدة، في مقدمتها روح الابتكار والتقدم التقني وأوضاع السوق والمنافسة، وليس على القوى العاملة فقط. كما إن القول بارتفاع دور الأصول الثابتة كالآلات والمعدات كان صحيحا تماما اثناء الثورة الصناعية، بينما أفرزت الثورة الرقمية الحالية أشكالا جديدة في العملية الإنتاجية لم يكن ماركس قادرا حتى على تصورها. في الوقت الحاضر لم تعد شركات الصناعات الثقيلة أو المجموعات النفطية تحتكر قائمة كبرى الشركات من حيث قيمتها السوقية وحجم أرباحها. هذه الأيام تتبوأ المراكز الأولى مجموعات مثل آبل ومايكروسوفت وأمازون وعلي بابا وفيسبوك وغوغل، وهي مجموعات لا تتميز بامتلاك مصانع عملاقة أو معدات وآلات ووسائل نقل ضخمة وغيرها من الأصول المادية، بل أن جل ما تمتلكه يتجسد في قيم معنوية كالبرمجيات وشبكة عملائها ومستخدميها وسمعتها التجارية، وجميعها مرتبط بشكل وثيق بالعولمة. وفي كل الأحوال فإن المؤشرات الإحصائية لفترات طويلة لا تُثبت وجود مسار تنازلي عام لمعدل الأرباح كما تنبأ كارل ماركس. ومن الملفت للنظر أن أحد أشهر تلامذته في الوقت الحاضر، الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي (Thomas Piketty) الذي اختار لكتابه "رأس المال في القرن الواحد والعشرين" عنوانا يُذكر بمؤلف أبيه الروحي، توصل عبر تحليل هذه الأرقام إلى نتيجة تبدو معاكسة لقانون ميل معدل الأرباح للتراجع . تتلخص فكرة بيكيتي في أن أرباح رأس المال تفوق على المدى الطويل النمو الاقتصادي العام الأمر الذي يتجسد أيضا في أن معدل الفائدة يزيد عن معدل ارتفاع الأجور. ويرى بيكيتي في ذلك العامل الرئيسي وراء اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء. من جهة أخرى لم تتحقق أيضا توقعات كارل ماركس بتفاقم استغلال الطبقة العاملة في الدول الرأسمالية كرد على قانونه المذكور، لا سيما بعد أن نجحت النقابات عبر نضال طويل في فرض تحسينات جوهرية في شروط العمل ومستوى الأجور ونظم الرعاية الاجتماعية. يطرح ماركس أيضا السؤال :"هل يزداد المعدل العام للأرباح من خلال معدل الربح المرتفع الذي يحققه رأس المال الموظف في التجارة الخارجية، وعلى وجه الخصوص في التجارة الاستعمارية؟" يؤكد ماركس بأن هذه التجارة تجنى بالفعل أرباحا أعلى نتيجة المنافسة غير المتكافئة التي تسمح للبلدان المتقدمة "ببيع سلعها بأعلى من قيمتها". بمثل هذه الملاحظات مهد ماركس الطريق لنشوء نظرية التبادل غير المتكافئ والتي يعتبر المفكر المصري سمير أمين أبرز ممثليها. استنادا إلى ذلك يتم تبرير الدعوة لرفض العولمة جملة وتفصيلا وللترويج لما يدعى بفك الارتباط بالمراكز الرأسمالية ، أي الانعزال عن الاقتصاد العالمي. غير أن مشكلة هذه النظرية وقبلها أيضا أفكار كارل ماركس عن التجارة الدولية تكمن في أنها تركز على جانب وحيد، هو مدى استفادة الدول الصناعية من العولمة، بينما تهمل تماما الفرص التي يمكن أن توفرها للدول النامية والناشئة أيضا. ويعود ذلك أيضا إلى الإيمان بالحتمية الاقتصادية والتاريخية التي قادت ماركس ومعظم تلامذته للتمسك بفرضية أن البرجوازية تُنجب حفاري قبرها. من المؤكد أن العولمة التي تعتبر أحد أهم مصادر تطور الرأسمالية وتجديد قوتها تنطوي أيضا على تناقضات داخلية، ومنها التناقض بين حرية انتقال السلع وانسياب الرساميل عبر الحدود مقابل فرض القيود على حركة البشر والمهاجرين. مع ذلك خيبت الرأسمالية آمال الثوري الكبير لأنها، كما يبدو، تعلمت أيضا من تحليلات كارل ماركس وتنبؤاته في حل تناقضاتها، ولو إلى حين.
#ناجح_العبيدي (هاشتاغ)
Nagih_Al-obaid#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل انتهت الأحزاب في العراق؟
-
مدافع ترامب التجارية
-
الانتحار بين السياسة والدين (الحلقة الثانية)
-
الانتحار بين السياسية والدين (الحلقة الأولى)
-
الانتخابات العراقية...الناخب الحائر!
-
الخمينية والوهابية تترنّحان
-
الجوانب المظلمة لأزمة الكهرباء في العراق
-
الفساد بين الحيتان الكبيرة والقروش الصغيرة
-
تصدّع البيت الأوروبي
-
مسرحية الحريري: التغريد خارج النص
-
الميزانية العراقية وعقدة حصة الإقليم
-
عندما يحلم العراقي!
-
فخ المديونية في العراق
-
الدين: محرك أم معيق للتنمية الاقتصادية؟
-
أرصدة كردستان المالية في الخارج: من أين لك هذا؟
-
التصعيد التركي والصمت الكردي!
-
كردستان: استفتاء أم استطلاع؟
-
عراق ما قبل الانتخابات: اصطفافات جديدة فوق رمال متحركة!
-
وسكتت الجزيرة عن الكلام المباح!
-
عقلية الراعي والقطيع بين الماضي والحاضر
المزيد.....
-
«المحكمة العسكرية» تحبس 62 من أهالي سيناء لمطالبتهم بـ«حق ال
...
-
منظمات دولية تدعو السلطات المصرية للإفراج عن أشرف عمر
-
متضامنون مع الصيادين في «البرلس» و«عزبة البرج» الممنوعون من
...
-
تأييد حكم حبس الطنطاوي وأبو الديار عقابًا على منافسة السيسي
...
-
متضامنون مع “رشا عزب”.. لا للتهديدات الأمنية.. لا لترهيب الص
...
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
-
تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل
...
-
في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو
...
-
التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل
...
-
السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي
...
المزيد.....
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|